الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 462 ] ( فصل )

( إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ولم يكن لأحد من المسلمين قتالهم ) والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام { المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم } أي أقلهم [ ص: 463 ] وهو الواحد [ ص: 464 ] ولأنه من أهل القتال فيخافونه إذ هو من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ثم يتعدى إلى غيره ، ولأن سببه لا يتجزأ وهو الإيمان ، وكذا الأمان لا يتجزأ فيتكامل كولاية الإنكاح .

قال ( إلا أن يكون في ذلك مفسدة . فينبذ إليهم ) كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى المصلحة في النبذ وقد بيناه [ ص: 465 ] ولو حاصر الإمام حصنا وأمن واحد من الجيش وفيه مفسدة ينبذ الإمام لما بينا ، ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه ، بخلاف ما إذا كان فيه نظر لأنه ربما تفوت المصلحة بالتأخير فكان معذورا ( ولا يجوز أمان ذمي ) لأنه متهم بهم ، وكذا لا ولاية له على المسلمين .

قال ( ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم ) لأنهما مقهوران تحت أيديهم فلا يخافونهما والأمان يختص بمحل الخوف ولأنهما يجبران عليه فيه فيعرى الأمان عن المصلحة ، ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح لنا باب الفتح .

التالي السابق


( فصل في الأمان )

وهو نوع من الموادعة في التحقيق ( قوله إذا أمن رجل حر أو امرأة حرة كافرا أو جماعة أو أهل حصن أو مدينة صح أمانهم ) على إسناد المصدر إلى المفعول ( ولم يجز لأحد من المسلمين قتالهم . والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام { المسلمون تتكافأ دماؤهم } ) أي لا تزيد دية الشريف على دية الوضيع { ويسعى بذمتهم أدناهم } أخرج [ ص: 463 ] أبو داود من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ، ويرد عليهم أقصاهم ، وهم يد على من سواهم } ومعنى يرد عليهم أقصاهم : أي يرد الأبعد منهم التبعة عليهم ، وذلك أن العسكر إذا دخل دار الحرب فاقتطع الإمام منهم سرايا ووجهها للإغارة فما غنمته جعل لها ما سمى ويرد ما بقي لأهل العسكر ; لأن بهم قدرت السرايا على التوغل في دار الحرب وأخذ المال .

وأما قوله وهم يد إلخ : أي كأنهم آلة واحدة مع من سواهم من الملل كالعضو الواحد باعتبار تعاونهم عليهم ، لكن رواه ابن ماجه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد } الحديث . ففسر الرد في ذلك الحديث بالإجارة ، فالمعنى يرد الإجارة عليهم حتى يكون كلهم مجيرا . والمقصود من هذا الحديث محل الدية ، وهو في الصحيحين عن علي رضي الله عنه قال : ما كتبنا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وما في هذه الصحيفة ، قال عليه الصلاة والسلام { المدينة حرم ، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا } وأخرج البخاري نحوه أيضا من حديث أنس ، ومسلم من حديث أبي هريرة ، ومن قال إن الشيخ علاء الدين وهم إذ أخرجه من حديث علي من جهة أبي داود . والواقع أن الشيخين أخرجاه غلط ، فإن ما في الصحيحين ليس فيه { تتكافأ دماؤهم } وهو يريد أن يخرج ما ذكره في الهداية لا ما هو محل الحاجة من الحديث فقط ، وفسر المصنف أدناهم بأقلهم في العدد ( وهو الواحد ) احترازا عن تفسير محمد من الدناءة ليدخل العبد كما سيأتي وليس بلازم ، إذ هو على هذا التفسير أيضا فيه دليل لمحمد وهو إطلاق الأدنى بمعنى الواحد فإنه يتناول الواحد حرا أو عبدا .

وقد ثبت في أمان المرأة أحاديث : منها حديث أم هانئ في الصحيحين رضي الله عنها { قالت : يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان بن فلان ، قال عليه الصلاة والسلام : قد أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت } ورواه الأزرقي من طريق الواقدي عن ابن أبي ذئب عن المقبري عن أبي مرة مولى عقيل عن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت { ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : يا رسول الله إني أجرت حموين لي من المشركين فأراد هذا أن يقتلهما ، فقال عليه الصلاة والسلام : ما كان له ذلك } الحديث .

وكان الذي أجارته أم هانئ عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة والحارث بن هشام بن المغيرة كلاهما من بني مخزوم . ومنها ما رواه أبو داود : حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن سفيان بن عيينة عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز . وترجم الترمذي باب أمان المرأة ، حدثنا يحيى بن أكثم إلى أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن المرأة لتأخذ للقوم } يعني تجير القوم على المسلمين .

وقال : حديث حسن غريب ، وقال في علله الكبرى : سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هو حديث صحيح .

وكثير بن زيد وهو في السند سمع من الوليد بن رباح ، والوليد بن رباح سمع من أبي هريرة . ومنها حديث إجارة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا العاص ، فقال عليه الصلاة والسلام : [ ص: 464 ] { ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم } رواه الطبراني بطوله .

قال المصنف ( ولأنه من أهل القتال ) أي الواحد ذكرا كان أو أنثى فإنها من أهله بالتسبب بمالها وعبيدها فيخاف منه ( فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ) أي محل الأمان وهو الكافر الخائف ، وإذا صدر التصرف من أهله في محله نفذ ( ثم يتعدى إلى غيره ) أي غير المجير من المسلمين . وأما قوله ولأن سببه لا يتجزأ إلخ فيصلح تعليلا بلا واو للتعدي ، فإن ما ذكره من المعنى لا يزيد على اعتبار الأمان بالنسبة إلى المؤمن ، فأما تعديه إلى غيره فليس ضروريا فلا بد له من دليل .

وما ذكر من عدم التجزي يصلح دليلا له فإنه إذا لم يتجزأ كان أمان الواحد أمان الكل ; لأنه بعض أمان الكل . واستدل على عدم تجزيه بأن سببه ، وهو الإيمان لا يتجزأ فكذا الأمان ، وفسر بالتصديق الذي هو ضد الكفر ، وبعضهم بإعطاء الأمان لأنه يقال آمنته فأمن : أي أعطيته الأمان فأمن . ولا يصح أن يقال آمنت بمعنى صدقت بالدين فأمن الكافر : أي حصل له الأمان ، وهذا إنما يتم إذا كان السبب علة وهو مجاز ، فإن حقيقة السبب المفضي فلا يلزم من وجوده الوجود ، ولا شك أن الإيمان بالله ورسوله سبب مفض إلى أمان الحربي بإعطاء المسلم إياه له ، فالحق أن كلا منهما يصح الإيمان : أي إعطاء الأمان سبب الأمان بمعنى علته لا يتجزأ فلا يتجزأ الأمان ، أو الإيمان بمعنى التصديق سبب حقيقي للأمان لا يتجزأ فلا يتجزأ الأمان وصار ( كولاية الإنكاح ) إذا زوج أحد الأولياء المستوين نفذ على الكل .

واعلم أن كونها لا تتجزأ إنما علمناه من النص الموجب للنفاذ على الكل إذا صدر من واحد فهو المرجع في ذلك ( وقوله إلا إذا كان في ذلك ) أي أمان الواحد ( مفسدة فينبذ إليهم كما إذا أمن الإمام بنفسه ثم رأى المصلحة في النبذ وقد بيناه ) في الباب السابق [ ص: 465 ] وهو قولنا يفعل تحرزا عن الغدر وعن ترك الجهاد صورة ومعنى .

وأما قوله ( ولو حاصر الإمام حصنا وأمن وأمن واحد من الناس إلخ ) فليس تكرارا محضا بل ذكره ليبني عليه قوله ( ويؤدبه الإمام لافتياته على رأيه بخلاف ، ما إذا كان فيه نظر ) لا يؤدبه ( لأنه ربما ) فعل ذلك مخافة أن ( تفوت المصلحة بالتأخير ) إلى أن يعلم الإمام بها ويؤمن هو بنفسه .

والافتيات افتعال من الفوت وهو السبق ، وإنما يقال الافتعال للسبق إلى الشيء دون ائتمار من ينبغي أن يؤامر فيه ، بخلاف غيره قال فاتني ذلك الفارس : أي سبقني فأصله افتوات قلبت واوه ياء لكسر ما قبلها ، والتعليل به مطلقا يقتضي أن يؤدبه مطلقا لتحقق الافتيات فيما فيه المصلحة ، فالوجه تقييده بقولنا افتيات فيما لا مصلحة فيه ( قوله ولا يجوز أمان ذمي لأنه متهم بهم ) على المسلمين لموافقته لهم اعتقادا ، وأيضا لا ولاية لكافر على مسلم لقوله تعالى { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } والأمان من باب الولاية ; لأنه نفاذ كلامه على غيره شاء أو أبى ( ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم ) في دار الحرب ( لأنهما مقهوران تحت أيديهم والأمان يختص بمحل الخوف ، ولأنهما يجبران عليه فيعرى الأمان عن المصلحة ، ولأنه كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجرا فيتخلصون بأمانه فلا ينفتح باب الفتح ) .




الخدمات العلمية