الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 478 ] ( ولا يقسم غنيمة في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام ) وقال الشافعي : لا بأس بذلك . وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا ، وعنده يثبت ويبتني على هذا الأصل عدة من المسائل ذكرناها في الكفاية . له أن سبب الملك الاستيلاء إذا ورد على مال مباح في الصيود ، ولا معنى للاستيلاء سوى إثبات اليد وقد تحقق . ولنا أنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب } ، والخلاف ثابت فيه ، والقسمة بيع معنى فتدخل تحته ، ولأن الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا . [ ص: 479 - 480 ] ثم قيل : موضع الخلاف ترتب الأحكام على القسمة إذا قسم الإمام لا عن اجتهاد ، لأن حكم الملك لا يثبت بدونه . وقيل الكراهة ، وهي كراهة تنزيه عند محمد فإنه قال على قول أبي حنيفة وأبي يوسف لا تجوز القسمة في دار الحرب . وعند محمد الأفضل أن يقسم في دار الإسلام . ووجه الكراهة أن دليل البطلان راجح ، [ ص: 481 ] إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز فلا يتقاعد عن إيراث الكراهة .

التالي السابق


( قوله ولا تقسم غنيمة في دار الحرب حتى تخرج إلى دار الإسلام . وقال الشافعي : لا بأس بذلك ) إذا انهزم الكفار . وعن أبي يوسف رحمه الله : الأحب إلي أن لا يقسمها حتى يحرزها ذكره الكرخي . وعنه إن لم تكن مع الإمام حمولة يحملها عليها يقسمها في دار الحرب . ( وأصله أن الملك للغانمين لا يثبت قبل الإحراز بدار الإسلام عندنا ، وعنده يثبت ) بالهزيمة ويلزمه أن قسمة الإمام هناك لا تفيد ملكا إلا إذا كان عن اجتهاد فإنه أمضى القضاء في فصل مجتهد فيه أو كان لحاجة فإن الحاجة موضعها مستثنى . واعلم أن حقيقة مذهبه أن الملك يثبت للغانم بأحد أمرين : إما بالقسمة حيثما كانت ، أو باختيار الغانم التملك ، وليس هو قائلا إن الملك يثبت للغانمين بالهزيمة كما نقلوا عنه .

وعندنا لا يثبت إلا بالقسم في دار الإسلام ، فلا يثبت بالإحراز بدار الإسلام ملك لأحد بل يتأكد الحق ، لهذا لو أعتق واحد من الغانمين عبدا بعد الإحراز لا يعتق ، ولو كان هناك ملك مشترك عتق بعتق الشريك ويجري فيه ما عرف في عتق الشريك ، وتخرج الفروع المختلفة على هذا : منها لو وطئ بعض الغانمين في دار الحرب واحدة من السبي فولدت فادعاه يثبت نسبه عنده لا لوطئه جارية مشتركة بينه وبين غيره بمجرد الهزيمة بل لاختياره التملك فبالهزيمة ثبت لكل حق الملك ، فإن سلمت بما يخصه من الغنيمة أخذها ، وإلا أخذها وكمل من ماله قيمتها يوم الحمل .

وعندنا لا يثبت نسبه وعليه العقر ; لأنه لا يحدث لثبوت سبب الملك وتقسم الجارية والولد والعقر بين جماعة المسلمين ، وكذا لو استولدها بعد الإحراز بدار الإسلام قبل القسمة عندنا ، وإن تأكد الحق لأن الاستيلاد يوجب حق العتق وهو لا يكون إلا بعد قيام الملك في المحل ، بخلاف استيلاد جارية الابن لأن له ولاية التملك فيتملكها بناء على الاستيلاد ، وليس له هنا تملك [ ص: 479 ] الجارية بدون رأي الإمام . نعم لو قسمت الغنيمة على الرايات أو العرافة فوقعت جارية بين أهل راية صح استيلاد أحدهم لها لأنه يصح عتقه لها لأنها مشتركة بينه وبين أهل تلك الراية ، والعرافة شركة ملك ، وعتق أحد الشركاء نافذ ، لكن هذا إذا قلوا حتى تكون الشركة خاصة ، أما إذا كثروا فلا ; لأن بالشركة العامة لا تثبت ولاية الإعتاق .

قال : والقليل إذا كانوا مائة أو أقل ، وقيل أربعون ، وفيه أقوال أخرى ، قال في المبسوط : والأولى أن لا يوقت ويجعل موكولا إلى اجتهاد الإمام .

ومنها جواز البيع من الإمام لبعض الغنيمة يجوز عندهم لا عندنا مبني على ذلك أيضا . ومنها لو مات بعض الغزاة أو قتل في دار الحرب لا يورث سهمه عندنا ويورث عنده بناء على التأكد بالهزيمة حتى صح منه التملك والتأكد يكفي للإرث ; ألا ترى أنا نقول إنه يورث إذا مات في دار الإسلام قبل القسم للتأكد لا للملك لأنه لا ملك قبل القسمة ، وهذا لأن الحق المؤكد يورث كحق الرهن والرد بالعيب ، بخلاف الضعيف كالشفعة وخيار الشرط ، واستدل على ضعف الحق قبل الإحراز بإباحة تناول الطعام في دار الحرب بلا ضرورة وبعدم ضمان ما أتلف من الغنيمة قبل الإحراز ، بخلاف ما بعده فكان حقا ضعيفا كحق كل مسلم في بيت المال ، والشافعية إن منعوا الثاني لم يمنعوا الأول .

ومنها لو لحق المدد في دار الحرب قبل القسم شارك عندنا لا عنده للتأكد وعدمه فإنما الثابت للغزاة بعد الهزيمة حق الملك لا حق التملك ، ولهذا لو أسلم الأسير قبل الإحراز بدار الإسلام لا يعتق ، وكذا أرباب الأموال إذا أسلموا بعد أخذها قبل الإحراز لا يملكون شيئا منها بل هم من جملة الغزاة في القسمة والاستحقاق بسبب الشركة في الإحراز بدار الإسلام بمنزلة المدد . ذكره في النهاية ، ومعناه : إذا لم يؤخذوا فإن إسلامهم بعد الأخذ لا يزيل عنهم الرق فلا يستحقون في الغنيمة كالمدد . وفي التحفة : لو أتلف واحد من الغزاة شيئا من الغنيمة لا يضمن عندنا ، قال : وبعد الإحراز بدار الإسلام يتأكد حق الملك ويستقر ، ولهذا قالوا لو مات واحد من الغزاة يورث نصيبه ، ولو باع الإمام جاز ، ولو لحقهم المدد لا يشاركون ويضمن المتلف ، وهذا المذكور في التحفة ماش مع ما في المبسوط حيث قال : فأما عندنا فالحق يثبت بنفس الأخذ ويتأكد بالإحراز ويملك بالقسمة كحق الشفعة يثبت بالبيع ويتأكد بالطلب ويتم الملك بالأخذ ، وما دام الحق ضعيفا لا تجوز القسمة لأنه دون الملك الضعيف في المبيع قبل القبض .

ووجه المصنف قول الشافعي بأن سبب الملك يتم بالهزيمة ; لأن بها يتحقق الاستيلاء على مال مباح فيملكه ، وهذا لأنه ليس معنى الاستيلاء على مال مباح إلا سبق اليد إليه على وجه القهر والاستيلاء كما في الصيد والحطب ، ولأنه صلى الله عليه وسلم { قسم غنائم حنين وبني المصطلق وأوطاس في ديارهم } .

ولنا منع أن السبب تم فإن تمامه بثبوت اليد الناقلة ، أي قدرة النقل والتصرف كيف شاء نقلا وادخارا وهذا منتف عنه ما دام في دار الحرب ; لأن الظهور عليهم والاستنقاذ منهم ليس ببعيد ; ألا ترى أن الدار مضافة إليهم فدل أنه مقهور ما دام فيها نوعا من القهر بدليل أن له أن يتركها دار حرب وينصرف عنها فكان قاهرا من وجه مقهورا من وجه ، فكان استيلاء من وجه دون وجه فلم يتم سبب ملك المباح فلم يملك فلم تصح القسمة ; لأنها بيع معنى ، فإن البيع مبادلة وفي القسمة ذلك ، فإن كل شريك لما اجتمع نصيبه في العين كان ذلك عوضا عن نصيبه في الباقي ، بخلاف ما إذا خرج العبد مراغما حيث يعتق بوصوله إلى عسكر المسلمين وإن كان في دار الحرب .

وكذا المرأة المراغمة تبين بذلك فإنه بالنص لقوله عليه الصلاة والسلام { في عبيد الطائف هم عتقاء الله } ولأن ذلك على نفسه ويكفي فيه امتناعه ظاهرا في الحال ، وقال الله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا [ ص: 480 ] جاءكم المؤمنات مهاجرات } إلى قوله { فلا ترجعوهن إلى الكفار } الآية ، وقسمة النبي صلى الله عليه وسلم غنائم حنين كان بعد منصرفه إلى الجعرانة ، وكانت أول حدود الإسلام ; لأن مكة فتحت وأرض حنين وبني المصطلق بعد فتح مكة وإجراء أحكام الإسلام فيها ، وهذا لأن دار الحرب تصير دار إسلام بإجراء الأحكام وبثبوت الأمن للمقيم من المسلمين فيها ، وكونها متاخمة لدار الإسلام على قوله وعلى قولهما بالأول فقط .

وأنت إذا علمت أن الخلاف ليس كما قيل بل الاتفاق على أن الملك لا يثبت قبل القسمة بمجرد الهزيمة بل في أن القسمة هل توجب الملك في دار الحرب أمكنك أن تجعل الدليل من الجانبين على ذلك . وتقريره للشافعي أنه لا مانع من صحتها في دار الحرب لتمام الاستيلاد على المباح ، فإذا اتصل به القسم ملك .

ولنا منع تمام السبب فلا تفيد القسمة الملك إلا عند تمامه وهو في دار الإسلام .

واعلم أن القسمة إنما لا تصح إذا قسم بلا اجتهاد أو اجتهد فوقع على عدم صحتها قبل الإحراز ، أما إذا قسم في دار الحرب مجتهدا فلا شك في الجواز وثبوت الأحكام ، وأما الحديث الذي ذكره وهو أنه عليه الصلاة والسلام { نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب } فغريب جدا . ثم ذكر المصنف خلافا في أن الخلاف في عدم جواز القسمة قبل الإحراز أو في كراهتها ، فقيل : المراد عدم جواز القسمة حتى لا تثبت الأحكام من حل الوطء ونفاذ البيع وغيره .

وقيل الكراهة لا بطلان القسمة لأنهم إذا اشتغلوا بها يتكاسلون في أمر الحرب وربما يتفرقون ، فربما يكر العدو على بعضهم فكان المنع لمعنى في غير المنهي عنه فلا يعدم الجواز . ثم قال المصنف ( هي كراهة تنزيه عند محمد ) فالأفضل أن لا يقسم في دار الحرب لأنه صلى الله عليه وسلم { ما قسم إلا في دار الإسلام } ، والأفعال المتفقة في الأوقات المختلفة لا تكون إلا لداع هي كراهة خلافه أو بطلانه ، والكراهة أدنى فيحمل عليه للتيقن به . قيل : ونقل الخلاف هكذا ، وإن كان في المبسوط غير جيد لأنه لم يعرف خلاف عنهم إلا ما يروى عن أبي يوسف . وهذا لأن المسائل الإفرادية الموضوعة مصرحة بعدم صحة القسمة قبل الإحراز ، مثل ما سيأتي من أن من مات من الغانمين لا يورث حقه من الغنيمة وأنه لا يباع من ذلك العلف ونحوه شيء ، ومنها عدم جواز التنفيل بعد الإحراز ، وجوازه قبله ومشاركة المدد اللاحق قبل الإحراز ، ثم وجه الكراهة بقوله لأن دليل البطلان : [ ص: 481 ] أي بطلان القسمة قبل الإحراز راجح على دليل جوازها ، إلا أنه تقاعد عن سلب الجواز ; لأنه لما لم يثبت سلب الجواز بالاتفاق فلم يبطل المرجوح ، وإذا لم يبطل حصل من معارضة الدليلين الراجح والمرجوح الكراهة كما في سؤر الهرة لما انتفت النجاسة لم تنتف الكراهة ، وهذا الكلام ينبو عن القواعد ، فإن الإجماع على وجوب العمل بالراجح من الدليلين وترك المرجوح .

وإذا كان الراجح دليل البطلان تعين الحكم بالبطلان عند المجتهد الذي ترجح عنده وكون له مخالف ولا إجماع لا يوجب ، بل لا يجوز لذلك المجتهد النزول عن مقتضاه وإلا فكل خلافية من المسائل كذلك ، وإذا لزم حكم البطلان فما موجب إثبات الكراهة ؟ والتحقيق في سؤر الهرة أن الكراهة تنزيهية لعدم تحاميها من النجاسة ; لأن دليل حرمة اللحم الموجب لنجاسة السؤر عارضة شدة المخالطة وترجح عليه فانتفت النجاسة .

والكراهة حكم شرعي يحتاج خصوصه إلى دليل ، وشدة المخالطة دليل الطهارة فقط فتبقى الكراهة بلا دليل ، وهذا إذا لم يكن للمسلمين حاجة ، أما إذا تحققت لهم في دار الحرب بالثياب والمتاع ونحوه قسمها في دار الحرب




الخدمات العلمية