الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه ، فإن قتله الباغي وقال قد كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه ، وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه ، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ) وقال أبو يوسف : لا يرث الباغي في الوجهين وهو قول الشافعي . وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم ; لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم ، والباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان عندنا ويأثم .

وقال الشافعي رحمه الله في القديم : إنه يجب ، وعلى هذا الخلاف إذا تاب المرتد ، وقد أتلف نفسا أو مالا . له أنه أتلف مالا معصوما أو قتل نفسا معصومة فيجب الضمان اعتبارا بما قبل المنعة . ولنا إجماع الصحابة ، رواه الزهري . [ ص: 107 ] ولأنه أتلف عن تأويل فاسد ، والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم ، وهذا ; لأن الأحكام لا بد فيها من الإلزام أو الالتزام ، ولا التزام لاعتقاد الإباحة عن تأويل ، ولا إلزام لعدم الولاية لوجود المنعة ، والولاية باقية قبل المنعة وعند عدم التأويل ثبت الالتزام اعتقادا ، بخلاف الإثم ; لأنه لا منعة في حق الشارع ، إذا ثبت هذا فنقول : قتل العادل الباغي قتل بحق فلا يمنع الإرث . ولأبي يوسف رحمه الله في قتل الباغي العادل أن التأويل الفاسد إنما يعتبر في حق الدفع والحاجة هاهنا إلى استحقاق الإرث فلا يكون التأويل معتبرا في حق الإرث . ولهما فيه أن الحاجة إلى دفع الحرمان أيضا ، إذ القرابة سبب الإرث فيعتبر الفاسد فيه ، إلا أن من شرطه بقاءه على ديانته ، فإذا قال : كنت على الباطل لم يوجد الدافع فوجب الضمان .

التالي السابق


( قوله : وإذا قتل رجل من أهل العدل باغيا فإنه يرثه ) بالاتفاق ; لأنه مأمور بقتله فلا يحرم الميراث به ( وإن قتل الباغي ) العادل ( وقال : كنت على الحق وأنا الآن على الحق ورثه ) ، وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه . وهذا عند أبي حنيفة ومحمد . ( وقال أبو يوسف : لا يرث الباغي ) العادل ( في الوجهين وهو قول الشافعي . وأصله ) أي أصل هذا الخلاف الخلاف في ( أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ) عندنا ( ولا يأثم ; لأنه مأمور بقتالهم ) دفعا لشرهم وهذا بالاتفاق ( والباغي إذا قتل العادل ) بعد قيام منعتهم وشوكتهم ( لا يجب الضمان ) عليه ( عندنا ) وبه قال أحمد والشافعي في قوله الجديد ، ولو قتله قبل ذلك اقتص منه اتفاقا وكذا يضمنون المال ( وقال الشافعي في القديم يضمن ) وبه قال مالك ; لأنها نفوس وأموال معصومة فتضمن بالإتلاف ظلما وعدوانا ( وعلى هذا الخلاف لو تاب المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا . ولنا أنه )

إتلاف ممن لم يعتقد وجوب الضمان في حال عدم ولاية الإلزام عليه فلا يؤاخذ به قياسا على أهل الحرب . والحاصل أن نفي الضمان منوط بالمنعة مع التأويل ، فلو تجردت المنعة عن التأويل كقوم غلبوا على أهل بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك ، ولو انفرد التأويل عن المنعة بأن انفرد واحد أو اثنان فقتلوا وأخذوا عن تأويل ضمنوا إذا تابوا أو قدر عليهم ، والدليل على ما ذكرناه ( إجماع الصحابة رواه الزهري ) قال عبد الرزاق في مصنفه : أنبأنا معمر ، أخبرني الزهري ، [ ص: 107 ] أن سليمان بن هشام كتب إليه يسأله عن امرأة خرجت من عند زوجها وشهدت على قومها بالشرك ولحقت بالحرورية فتزوجت ثم إنها رجعت إلى أهلها تائبة ، قال : فكتب إليه : أما بعد ، فإن الفتنة الأولى ثارت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن شهد بدرا كثير فاجتمع رأيهم على أن لا يقيموا على أحد حدا في فرج استحلوه بتأويل القرآن ولا قصاصا في دم استحلوه بتأويل القرآن ولا برد مال استحلوه بتأويل القرآن ، إلا أن يوجد شيء بعينه فيرد على صاحبه ، وإني أرى أن ترد إلى زوجها وأن يحد من افترى عليها .

قال المصنف : ( ولأنه أتلف عن تأويل فاسد والفاسد من التأويل ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدافع ) أي نفي الضمان وصار ( كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم ) ولا يخفى أن هذا الاعتبار وهو إلحاق الفاسد من الاجتهاد الذي لم يسوغ حتى ضلل مرتكبه بالصحيح بشرط انضمام المنعة إليه ، وتعليله بأنه عند انضمام المنعة تنقطع ولاية الإلزام فيلزم السقوط كله مستندا إلى الإجماع المنقول من الصحابة وإلا فلا يلزم من العجز عن الإلزام سقوطه شرعا ، بل إنما يلزم سقوط الخطاب به ما دام العجز عن إلزامه ثابتا ، فإذا ثبتت القدرة تعلق خطاب الإلزام كما يقوله الشافعي ، لكن لما كان الإجماع المنقول في صورة مقيدة بما ذكرنا كان ذلك أصلا شرعيا ضرورة الإجماع المذكور . إذا عرفت هذا فيقول أبو يوسف : إلحاق التأويل الفاسد بالصحيح بقول الصحابة كان في دفع الضمان ، والحاجة هنا إلى إثبات الاستحقاق فإلحاقه به بلا دليل ، وهما يقولان المتحقق من الصحابة جعل تلك المنعة والاعتقاد دافعا ما لولاه لثبت لثبوت أسباب الثبوت ألا ترى أنه لولا تلك المنعة والاعتقاد لثبت الضمان لثبوت سببه من القتل عمدا ، وإتلاف المال المعصوم فيتناول ما نحن فيه ، فإن القرابة التي هي سبب استحقاق الميراث قائمة ، والقتل بغير حق مانع وجد عن اعتقاد الحقية مع المنعة فمنع مقتضاه من المنع فعمل السبب عمله من إثبات الميراث .




الخدمات العلمية