الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الإمامة ( الجماعة سنة مؤكدة ) لقوله عليه الصلاة والسلام [ ص: 345 ] { الجماعة سنة من سنن الهدى لا يتخلف عنها إلا منافق }

التالي السابق


( باب الإمامة ) الجماعة سنة ، وما زاد على الواحد جماعة في غير الجمعة عن محمد رحمه الله ( قوله الجماعة سنة ) لا يطابق دليله الذي ذكره الدعوى ، إذ مقتضاه الوجوب إلا لعذر ، إلا أن يريد ثبوتها بالسنة . وحاصل الخلاف في المسألة أنها فرض عين إلا من عذر ، وهو قول أحمد وداود وعطاء وأبي ثور ، وعن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري [ ص: 345 ] وغيرهما : من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له ، وقيل على الكفاية ، وفي الغاية قال عامة مشايخنا : إنها واجبة ، وفي المفيد أنها واجبة ، وتسميتها سنة لوجوبها بالسنة . وفي البدائع : يجب على العقلاء البالغين الأحرار القادرين على الجماعة من غير حرج ، وإذا فاتته لا يجب عليه الطلب في المساجد بلا خلاف بين أصحابنا ، بل إن أتى مسجدا آخر للجماعة فحسن ، وإن صلى في مسجد حيه منفردا فحسن . وذكر القدوري يجمع بأهله ويصلي بهم ، يعني وينال ثواب الجماعة . وقال شمس الأئمة : الأولى في زماننا تتبعها . وسئل الحلواني عمن يجمع بأهله أحيانا هل ينال ثواب الجماعة ؟ فقال : لا ، ويكون بدعة ومكروها بلا عذر . اختلف في الأفضل من جماعة مسجد حيه وجماعة المسجد الجامع ، وإذا كان مسجدان يختار أقدمهما فإن استويا فالأقرب ، وإن صلى في الأقرب وسمع إقامة غيره فإن كان دخل فيه لا يخرج وإلا فيذهب إليه ، وهذا على الإطلاق تفريع على أفضلية الأقرب مطلقا لا على من فضل الجامع ، فلو كان الرجل متفقها فمجلس أستاذه لدرسه أو مجلس العامة أفضل بالاتفاق ، وقد سمعت أن الجماعة تسقط بالعذر ، فمن الأعذار المرض ، وكونه مقطوع اليد والرجل من خلاف أو مفلوجا أو مستخفيا من السلطان أو لا يستطيع المشي كالشيخ العاجز وغيره وإن لم يكن بهم ألم . وفي شرح الكنز : والأعمى عند أبي حنيفة ، والظاهر أنه اتفاق ، والخلاف في الجمعة لا الجماعة . ففي الدراية قال محمد : لا يجب على الأعمى ، وبالمطر والطين والبرد الشديد والظلمة الشديدة في الصحيح . وعن أبي يوسف : سألت أبا حنيفة عن الجماعة في طين وردغة فقال : لا أحب تركها . وقال محمد في الموطإ : الحديث رخصة : يعني قوله صلى الله عليه وسلم { إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال } وما عن { ابن أم مكتوم أنه قال يا رسول الله إني ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في بيتي ؟ قال أتسمع النداء ؟ قال نعم ، قال ما أجد لك رخصة } رواه أبو داود وأحمد والحاكم وغيرهم . معناه : لا أجد لك رخصة تحصل لك فضيلة الجماعة من غير حضورها ، لا الإيجاب على الأعمى { فإنه صلى الله عليه وسلم رخص لعتبان بن مالك في تركها } . وقيل الجماعة سنة مؤكدة في قوة الواجب ، فهذه أربعة أقوال : وجه الأول قوله صلى الله عليه وسلم { لقد هممت أن آمر بالمؤذن فيؤذن ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم الحطب إلى قوم يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار } وليس المراد ترك الصلاة أصلا بدليل ما عن أبي هريرة رضي الله عنه عنه صلى الله عليه وسلم { لقد هممت أن آمر فتية فيجمعوا لي حزما من حطب ثم آتي قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة فأحرقها عليهم } فقيل ليزيد هو ابن الأصم : الجمعة عنى أو غيرها ؟ قال : صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن [ ص: 346 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر جمعة ولا غيرها . رواه مسلم وغيره ، وإنما قالوا ليزيد ذلك ، لأنه روى عن ابن مسعود نحوه ، إلا أنه قال : { يتخلفون عن الجمعة } . رواه مسلم أيضا . قيل هما روايتان : رواية في الجمعة ، ورواية في الجماعة وكلاهما صحيح . وروى ابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم { من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له إلا من عذر } رواه الحاكم وقال على شرطهما . والجواب أن ما ذكر يصلح وجها للوجوب لأن الفرض لا يثبت بخبر الواحد ، فهو دليل عامة مشايخنا على ما في الغاية ، وتسميتها سنة على ما في حديث ابن مسعود لا حجة فيه للقائلين بالسنية إذ لا ينافي الوجوب في خصوص ذلك الإطلاق ، وهو قول ابن مسعود : { من سره أن يلقى الله غدا مسلما فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ويرفعه بها درجة ويحط عنه بها سيئة ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف } ، وهذا لأن سنن الهدى أعم من الواجب لغة كصلاة العيد . وقوله لضللتم يعطي الوجوب ظاهرا . وفي رواية لأبي داود عنه : لكفرتم .

ولعل حديث ابن مسعود هذا هو الذي ذكره المصنف بناء على أنه ذكر بعضه بالمعنى ، إلا أنه رفع قوله { لا يتخلف عنها إلا منافق } ، فأفاد أنه وعيد منه صلى الله عليه وسلم : يعني أن وصف النفاق يتسبب عن التخلف ، لا إخبار أن الواقع أن التخلف لا يقع إلا من منافق ، فإن الإنسان قد يتخلف كسلا مع صحة الإسلام ويقين التوحيد وعدم النفاق .

وحديث ابن مسعود إنما يفيد أن الواقع إذ ذاك عدم التخلف إلا من منافق ، على أن معنى هذه الزيادة روي مرفوعا عنه صلى الله عليه وسلم قال { الجفاء كل الجفاء والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا يجيبه } رواه أحمد والطبراني ، وفي رواية للطبراني عنه صلى الله عليه وسلم { بحسب المؤمن من الشقاء والخيبة أن يسمع المؤذن يثوب بالصلاة فلا يجيبه } والتثويب هنا الإقامة ، سماها به لأن الإقامة عود إلى الإعلام بعد الإعلام بالأذان . أما التثويب بين الأذان والإقامة فلم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم ، غير أن هذا يفيد تعليق الوجوب بسماع الإقامة بعد ثبوت حسنه ، ويتوقف الوعيد في حديث التحريق على كونه لترك الحضور دائما كما هو ظاهر قوله { لا يشهدون الصلاة } وقوله في الحديث الآخر { يصلون في بيوتهم } ليست بهم علة كما يعطيه ظاهر إسناد المضارع في مثله نحو بنو فلان يأكلون البر : أي عادتهم ، فيكون الوجوب للحضور أحيانا ، والسنة المؤكدة التي تقرب منه المواظبة عليها وما تمسك به مثبتو السنة من قوله صلى الله عليه وسلم { صلاة الرجل في الجماعة تفضل على صلاته في بيته أو سوقه [ ص: 347 ] سبعا وعشرين ضعفا } فإنه يقتضي ثبوت الصحة والفضيلة بلا جماعة ، فجوابه أنه لا يستلزم أكثر من ثبوت صحة ما في البيت والسوق في الجملة بلا جماعة ، ولا شك فيه إذا فاتته الجماعة ، فالمعنى صلاة الجماعة أفضل من الصلاة في بيته فيما تصح فيه ، ولو كان مقتضاه الصحة مطلقا بلا جماعة لم يدل على سنيتها لجواز أن الجماعة ليست من أفعال الصلاة فيكون تركها مؤثما لا مفسدا . وحاصله أنه إيجاب فعل الصلاة في جمع كإيجاب فعلها في أرض غير مغصوبة وزمان غير مكروه . فإن قلت : لم لم تقل في الجواب إنه يقتضي الصحة ، وعدم الواجب لا ينافيها ؟ فالجواب أن اللزوم ملاحظ باعتبارين باعتبار صدوره من الشارع ، وباعتبار ثبوته في حقنا ، فملاحظته بالاعتبار الثاني إن كان طريق ثبوته عن الشارع قطعيا كان متعلقه الفرض ونافى ترك مقتضاه الصحة ، وإن كان ظنيا كان الوجوب ولم ينافها لا لاسم الوجوب بل لأن ثبوته عنه صلى الله عليه وسلم ليس قطعيا ، فإنا لو قطعنا به عنه نافى ، ولذا لا يثبت هذا القسم : أعني الواجب في حق من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة مع قطعية دلالة المسموع فليس في حقه إلا الفرض الذي عدمه مناف للصحة أو غير اللازم من السنة فما بعدها ، فظهر بهذا أن ملاحظته بالاعتبار الأول ليس فيه وجوب بل الفرضية أو عدم اللزوم أصلا ، والكلام فيما نحن فيه إنما هو باعتبار صدوره منه صلى الله عليه وسلم أنه قال مريدا معنى ظاهره أولا ، فلا يكون بهذا الاعتبار متعلق الخطاب إلا الافتراض أو عدم اللزوم ، فلا يتأتى الجواب بأن الوجوب لا ينافي عدمه الصحة فتأمل ، وقد كمل إلى هنا أدلة المذاهب سوى مذهب الكفاية ، وكأنه يقول : المقصود من الافتراض إظهار الشعار وهو يحصل بفعل البعض وهو ضعيف ، إذ لا شك في أنها كانت تقام على عهده عليه الصلاة والسلام في مسجده ، ومع ذلك قال في المتخلفين ما قال وهم بتحريقهم ، ولم يصدر مثله عنه فيمن تخلف عن الجنائز مع إقامتها بغيرهم




الخدمات العلمية