الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 57 ] قال ( ومن غصب عبدا فباعه وأعتقه المشتري ثم أجاز المولى البيع فالعتق جائز ) استحسانا ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف .

وقال محمد رحمهم الله : لا يجوز لأنه لا عتق بدون الملك ، قال عليه الصلاة والسلام { لا عتق فيما لا يملك ابن آدم } والموقوف لا يفيد الملك ، ولو ثبت في الآخرة يثبت مستندا وهو ثابت من وجه دون وجه ، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا ، ولهذا لا يصح أن يعتق الغاصب ثم يؤدي الضمان ، ولا أن يعتق المشتري والخيار للبائع ثم يجيز البائع ذلك ، [ ص: 58 ] وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أنه أسرع نفاذا حتى نفذ من الغاصب إذا أدى الضمان ، وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان . ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك ، ولا ضرر فيه على ما مر فتوقف الإعتاق مرتبا عليه وينفذ بنفاذه فصار كإعتاق المشتري من الراهن وكإعتاق الوارث عبدا من التركة وهي مستغرقة بالديون يصح ، وينفذ إذا قضى الديون بعد ذلك ، [ ص: 59 ] بخلاف إعتاق الغاصب بنفسه لأن الغصب غير موضوع لإفادة الملك ، وبخلاف ما إذا كان في البيع خيار البائع لأنه ليس بمطلق ، وقران الشرط به يمنع انعقاده في حق الحكم أصلا ، وبخلاف بيع المشتري من الغاصب إذا باع لأن بالإجازة يثبت للبائع ملك بات ، فإذا طرأ على ملك موقوف لغيره أبطله ، وأما إذا أدى الغاصب الضمان ينفذ إعتاق المشتري منه كذا ذكره هلال رحمه الله وهو الأصح

التالي السابق


( قوله ومن غصب عبدا فباعه فأعتقه المشتري ثم أجاز مولى العبد البيع فالعتق جائز ) كذا ذكره محمد في الجامع الصغير ولم يذكر خلافا ، لكنهم أثبتوا خلافه مع زفر في بطلان العتق وهذه من المسائل التي جرت المحاورة بين أبي يوسف ومحمد حين عرض عليه هذا الكتاب فقال أبو يوسف : ما رويت لك عن أبي حنيفة أن العتق جائز ، وإنما رويت أن العتق باطل ; وقال محمد : بل رويت لي أن العتق جائز . وإثبات مذهب أبي حنيفة في صحة العتق بهذا لا يجوز لتكذيب الأصل الفرع صريحا . وأقل ما هنا أن يكون في المسألة روايتان عن أبي حنيفة .

قال الحاكم الشهيد : قال أبو سليمان : هذه رواية محمد عن أبي يوسف ونحن سمعنا من أبي يوسف أنه لا يجوز عتقه ، وسيجيء إن شاء الله تعالى . قالوا : وقول محمد قياس . وقول أبي حنيفة استحسان . وجه قول محمد أنه لا عتق بلا ملك لقوله صلى الله عليه وسلم { لا عتق فيما لا يملك ابن آدم } ( والموقوف لا يفيد الملك ) وقت العتق ( ولو ثبت في الآخرة ) أي عند الإجازة ( ثبت مستندا وهو ثابت ) وقت العتق ( من وجه دون وجه ، والمصحح للإعتاق الملك الكامل لما روينا ) من هذا الحديث وقد سلف تخريجه .

( ولهذا ) أي لأجل أن الشرط الملك الكامل ( لا يصح أن يعتقه الغاصب ثم يؤدي الضمان ولا المشتري ) يشرط ( الخيار للبائع ثم يجيز للبائع ) البيع [ ص: 58 ] وكذا لا يصح بيع المشتري من الغاصب فيما نحن فيه مع أن البيع أسرع نفاذا ) من العتق ( حتى نفذ من الغاصب إذا أدى الضمان ) بعد أن باع ( وكذا لا يصح إعتاق المشتري من الغاصب إذا أدى الغاصب الضمان ) ولا الطلاق في النكاح الموقوف حتى إذا أجيز لا يقع على المرأة ، وكل من الطلاق والعتق في الحاجة إلى الملك على السواء ، وكذا إذا جعل فضولي أمر امرأة رجل بيدها فطلقت نفسها ثم أجاز الزوج لا تطلق بل يثبت التفويض ، فإن طلقت نفسها الآن طلقت حينئذ وإلا لا .

( ولهما أن الملك ثبت موقوفا بتصرف مطلق موضوع لإفادة الملك ولا ضرر فيه على ما مر ) أول الباب ( فيثبت الإعتاق موقوفا مرتبا عليه ثم ينفذ بنفاذه ) ومطلق بفتح اللام ، واحترز به عن البيع بشرط الخيار فخرج جواب قوله لا يصح عتق المشتري والخيار للبائع لأن ذلك ليس بتصرف مطلق إذ الخيار يمنع ثبوته في حق الحكم لا باتا ولا موقوفا ، وقد يقرأ بكسر اللام والفتح أصح ، وبموضوع لإفادة الملك عن الغصب ; فخرج الجواب عن قوله لا ينفذ من الغاصب إذا أعتق ثم أدى الضمان ، على أن الغصب ليس سببا موضوعا لإفادة الملك إنما يثبت الملك ضرورة أداء الضمان فهو بعرضية أن يعتبر سببا لا أنه وضع سببا فيقتصر على ذلك ولذا لا يتعدى إلى الزوائد المنفصلة ، بخلاف البيع إذا أجيز يثبت الملك في المتصلة والمنفصلة .

وأما بيع المشتري من الغاصب فإنما لا يصح منه لبطلان عقده بالإجازة ، فإن بها يثبت الملك للمشتري باتا ، والملك البات إذا ورد على الموقوف أبطله .

وكذا لو وهبه مولاه للغاصب أو تصدق به عليه أو مات فورثه فهذا كله يبطل الملك الموقوف لأنه لا يتصور اجتماع البات مع الموقوف في محل واحد على وجه يطرأ فيه البات ، وإلا فقد كان فيه ملك بات وعرض معه الملك الموقوف ( وصار كإعتاق المشتري من الراهن ) فإنه يتوقف بالاتفاق على إجازة المرتهن أو فك الرهن ، والجامع أنه إعتاق في بيع موقوف ( وكإعتاق الوارث عبدا من التركة المستغرقة بالدين يصح ثم ينفذ إذا قضى الدين . [ ص: 59 ] وأما ) عتق المشتري من الغاصب ( إذا أدى الغاصب الضمان ) فنقول ( ينفذ ) كذا ذكره هلال الرأي ابن يحيى البصري في وقفه وهو من أصحاب أبي يوسف .

ذكر فيمن غصب أرضا فباعها فوقفها المشتري ثم أدى الغاصب ضمانها حتى ملك قال ينفذ وقفه على طريقة الاستحسان فالعتق أولى ، وأما عدم وقوع الطلاق في النكاح الموقوف وفي التفويض الموقوف فالأصل فيه أن كل تصرف جعل شرعا سببا لحكم إذا وجد من غير ولاية شرعية فلم يستعقب حكمه وتوقف إن كان مما يصح تعليقه جعل معلقا وإلا احتجنا إلى أن نجعله سببا في الحال متأخرا حكمه إن أمكن فالبيع ليس مما يعلق فيجعل سببا في الحال ، فإذا زال المانع من ثبوت الحكم بوجود الإجازة ظهر أثره من وقت وجوده ولذا ملك الزوائد .

وأما التفويض فيحتمل التعليق فجعلنا الموجود من الفضولي معلقا بالإجازة فعندها يثبت التفويض للحال لا مستندا فلا يثبت حكمه إلا من وقت الإجازة . وأما النكاح فلا يتعلق ولا يمكن أن يعتبر في حال التوقف سببا لملك الطلاق بل لملك المتعة المستعقب له إذا ثبت ، وهذا لأنه لا يثبت لأجل صحة الطلاق مقصودا [ ص: 60 ] لأن شرعيته لضد ذلك من انتظام الصالح بينهما لا لوقوع الشتات بالفرقة فلا يثبت ذلك إلا بناء على ثبوت المقصود أولا وهو منتف هنا ، فلو ثبت لكان ليس إلا لصحة وقوع الطلاق ، بخلاف ملك اليمين فإنه يجوز أن ينعقد مقصودا لصحة العتاق ، والمراد من قوله صلى الله عليه وسلم " لا عتق " الحديث النافذ في الحال ، وغاية ما يفيد لزوم الملك للعتق وهو ثابت هنا فإنا لم نوقعه قبل الملك .

فحاصل الخلاف كما قال الإمام القاضي يرجع إلى أن بيع الفضولي لا ينعقد في حق الحكم عند محمد وهو الملك لانعدام الولاية فكان الإعتاق لا في ملك فيبطل ، كما لو باعه المشتري من الغاصب ، وعندهما يوجبه موقوفا لأن الأصل اتصال الحكم بالسبب والتأخير لدفع الضرر عن المالك والضرر في نفاذ الملك لا في توقفه ، وبعد فالمقدمة القائلة في كلام محمد إن المصحح للإعتاق الملك الكامل لم يصرح فيها بدفع .

ويمكن أن يستخرج من الدليل المذكور منع أنه يحتاج إلى ملك كامل وقت ثبوته بل وقت نفاذه وهو كذلك




الخدمات العلمية