الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 84 ] قال ( ولا خير في السلم في اللحم عند أبي حنيفة رحمه الله . وقالا : إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة معلومة جاز ) لأنه موزون مضبوط الوصف ولهذا يضمن بالمثل . ويجوز استقراضه وزنا ويجري فيه ربا الفضل ، بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه . وله أنه مجهول للتفاوت في قلة العظم وكثرته أو في سمنه وهزاله على اختلاف فصول السنة ، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة . وفي مخلوع العظم لا يجوز على [ ص: 85 ] الوجه الثاني وهو الأصح ، والتضمين بالمثل ممنوع .

وكذا الاستقراض ، وبعد التسليم فالمثل أعدل من القيمة ، ولأن القبض يعاين فيعرف مثل المقبوض به في وقته ، أما الوصف فلا يكتفى به .

التالي السابق


( قوله ولا خير في السلم في اللحم ) وهذه العبارة تأكيد في نفي الجواز كقوله لا خير في استقراض الخبز ، وقول من قال إن المجتهد يقوله فيما يستخرج من الحكم بالرأي تحرزا عن القطع في حكم الله تعالى بالرأي بعيد . فكل الأحكام القياسية المظنونة معبر عنها في الفقه بلا يجوز كذا أو يجوز كذا . وكلها من هذا القبيل لأنه قد استقر عند أهل العلم أنها مظنونات لا مقطوعات ، وأيضا المجتهد قاطع بأن حكم الله في حقه ذلك ( وقالا : إذا وصف من اللحم موضعا معلوما بصفة ) ككونه ذكرا وخصيا وسمينا بعد أن بين جنسه من نحو الضأن وسنه ثني ومن الفخذ الكتف أو الجنب مائة رطل .

وفي الحقائق والعيون الفتوى على قولهما ، وهذا على الأصح من ثبوت الخلاف بينهم . وقد قيل لا خلاف ، فمنع أبي حنيفة فيما إذا أطلقا السلم في اللحم وقولهما إذا بينا ما ذكرناه . ووجهه أنه موزون في عادة الناس مضبوط بما ذكرنا من الوصف .

وقوله ولهذا يضمن بالمثل استدلال على كونه موزونا وكذا كونه مضمونا بالمثل جائز الاستقراض ، وما ذكرنا من العادة المستمرة فيه في سائر الأقطار قاطع فيه ، وما فيه من العظم غير مانع لأنه إذا سمى موضعا ومعلوم أنه فيه عظم كان تراضيا على قطعه بما تضمنه من العظم ، ولأنه ثابت بأصل الخلقة كالنوى في التمر ولذا جاز السلم في الألية مع أنها لا تخلو من عظم والسلم فيها وفي الشحم بالإجماع ( بخلاف لحم الطيور لأنه لا يمكن وصف موضع منه ) لأن عضو الطير صغير وهذا ظاهر في منعه مطلقا . [ ص: 85 ] وحاصل الكلام فيه أن ما لا يصطاد من الطيور لا يجوز السلم فيه ولا في لحمه .

وما صيد قيل هو على الخلاف عندهما يجوز ، وعنده لا يجوز . وقيل يجوز عند الكل لأن ما فيه من العظم لا يعتبره الناس وهو الصحيح ، فيجب أن يكون محمل ما في الكتاب من المنع مطلقا في مخلوع العظم . فإن العلة حينئذ ثابتة . ثم يجب أنه إذا أسلم في مائة رطل من لحم الدجاج مثلا أن يعين الموضع بعد كونه بعظم .

فإن من الناس من لا يحب الصدر منها فيقول أوراكا أو غير الصدر أو ينص على صدرها وأوراكها ، فإن أطلق فقال من لحم الدجاج السمين يجب أن لا يجوز للمنازعة بسبب ما ذكرنا لاختلاف أغراض الناس .

ولأبي حنيفة رضي الله عنه وجهان : أحدهما أنه يقع سلما في المجهول لتفاوت اللحم بقلة العظم وكثرته ، بخلاف لحم السمك فإن مضمونه من العظم قليل معلوم إهداره بين الناس . ولذا هو فرق بين لحم السمك وغيره . وقولهما إذا سمى موضعا كان تراضيا على قطعه بما تضمنه من العظم .

قلت : للمشاهد في بيع اللحم حالا بعظمه جريان المعاكسة بين البائع والمشتري في العظم ، حتى أن المشتري يستكثره فيأمره بنزع بعضه والجزار يدسه عليه ، فكيف في المؤجل المستأخر التسليم ، وعلى هذا الوجه يجوز السلم في مخلوع العظم وهو رواية الحسن عنه . ثانيهما أنه يختلف بحسب الفصول سمنا وهزالا ، فلو سمى السمين قد يكون انتهاء الأجل في فصل الهزال . وحاصل هذا الوجه أنه سلم في المنقطع وعلى هذا لا يجوز في مخلوع العظم وهو رواية ابن شجاع عنه .

قال المصنف ( وهو الأصح ) لأن الحكم المعلل بعلتين مستقلتين يثبت مع إحداهما كما يثبت معهما . وقولهما يضمن بالمثل ممنوع بما ذكر في باب الاستحقاق من الجامع الكبير فيمن غصب لحما فشواه ثم استحقه رجل لا يسقط ضمان الغصب وللمغصوب منه أن يضمنه قيمة اللحم .

قيل ولا توجد رواية بأنه من ذوات القيم إلا هنا من الجامع الكبير ، لكن ذكر صاحب الفتاوى الصغرى أنه رأى وسط غصب المنتقى أن أبا يوسف روى عن أبي حنيفة : إذا استهلك لحما قال عليه قيمته ، وحل عبارة المصنف ( أن القبض ) أي قبض اللحم القرض ( يعاين فيعرف مثله به ) أي بالمقبوض . أما السلم فليس فيه مقبوض معين بل مجرد وصف فلا يكتفى به إلى آخر ما ذكرنا وكذا الاستقراض وزنا أيضا ممنوع بل ذاك مذهبهما ، وبعد التسليم أي تسليم أن ضمان اللحم بالمثل كما اختاره الإسبيجابي أنه يضمن بالمثل إلا أن ينقطع من أيدي الناس ، وهو الوجه لأن جريان ربا الفضل فيه قاطع بأنه مثلي فيفرق بين الضمان والسلم بأن المعادلة في الضمان منصوص عليها ، وتمام المعادلة بالمثل لأنه مثل صورة ومعنى . [ ص: 86 ] أما القيمة فمثل معنى فقط لأن الموجب الأصلي رد العين والمثل أقرب إلى العين ، بخلاف القيمة ، وكذا بتقدير تسليم استقراضه .

فالفرق بين السلم والقرض أن القبض في القرض معاين محسوس فأمكن اعتبار المقبوض ثانيا بالأول .

أما السلم فإنما يقع على الموصوف في الذمة وبالوصف عند العقد لا تعرف مطابقته للموجود عند القبض كمعرفة مطابقته بعد رؤية المقبوض الموجب للمثل ، وهذا معنى قوله أما الوصف فلا يكتفى به : أي لا يكتفي بالوصف في معرفة الموافقة بين الموصوف والمقبوض كما هو بين المقبوض أولا والمقبوض ثانيا .

ولما أهدر الشارع في باب الربا كون الجودة فارقا ثبت الربا بين لحمي نوع متفاضلا وإن اختلف موضعهما كلحم فخذ مع لحم ضلع




الخدمات العلمية