الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أسلم في كر حنطة فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم بقبضه قضاء لم يكن قضاء ، وإن أمره أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ثم اكتاله لنفسه جاز ) لأنه اجتمعت الصفقتان بشرط الكيل فلا بد من الكيل مرتين لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان ، وهذا هو محمل الحديث على ما مر [ ص: 104 ] والسلم وإن كان سابقا لكن قبض المسلم فيه لاحق وأنه بمنزلة ابتداء البيع لأن العين غير الدين حقيقة .

وإن جعل عينه في حق حكم خاص وهو حرمة الاستبدال فيتحقق البيع بعد الشراء ، وإن لم يكن سلما وكان قرضا فأمره بقبض الكر جاز لأن القرض إعارة ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة فكان المردود عين المأخوذ مطلقا حكما فلا تجتمع الصفقتان .

التالي السابق


( قوله ومن أسلم في كر ) وهو ستون قفيزا أو أربعون على خلاف فيه ، والقفيز ثمانية مكاكيك ، والمكوك صاع ونصف ( فلما حل الأجل اشترى المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم أن يقبضه قضاء ) عن المسلم فيه فاقتضاه رب السلم بحقه بأن اكتاله مرة وحازه إليه لم يكن مقتضيا حقه ، حتى لو هلك بعد ذلك يهلك من مال المسلم إليه ويطالبه رب السلم بحقه ( وإن أمره أن يقبضه له ) أي للمسلم إليه ( ثم يقبضه لنفسه فاكتاله له ) أي رب السلم للمسلم إليه ( ثم اكتاله ) مرة أخرى ( لنفسه ) صار مقتضيا مستوفيا حقه وهذا ( لأنه اجتمعت صفقتان بشرط الكيل فلا بد من الكيل مرتين لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه صاعان ) صاع البائع وصاع المشتري ( وهذا هو محمل الحديث على ما مر ) في الفصل الذي يلي باب المرابحة قال المصنف : ومحمل الحديث اجتماع الصفقتين .

والفقه فيه أن المستحق بالعقد ما سمي فيه وهو الكر ، وهو إنما يتحقق بالكيل فكان الكيل معينا للمستحق بالعقد وهذان عقدان ومشتريان فلا بد من توفير مقتضى كل عقد عليه ; ألا ترى أن الثاني لو كاله فزاد لم تطب له الزيادة ووجب ردها حتى لو كان المشتري كاله لنفسه بحضرة المشتري الثاني فقبضه الثاني لا بد من أن يكيله إقامة لحق العقد الثاني والصفقتان شراء المسلم إليه من بائعه الكر والصفقة التقديرية التي اعتبرت بين المسلم إليه ورب السلم عند قبضه لأن المسلم إليه يصير بائعا من رب السلم ما اشتراه لأن المأخوذ ليس عين حقه فإنه دين ، وهذا عين قاصصه به ، وقد أخذوا في صحة الأمر أن يقبضه له ثم يقبضه لنفسه . وعندي ليس هذا بشرط ، بل الشرط أن يكيله مرتين ، حتى لو قال له اقبض الكر الذي اشتريته من فلان عن حقك فذهب فاكتاله ثم أعاد كيله صار قابضا ، لأن الفرض أنه لا يصير قابضا لنفسه بالكيل الأول بل الثاني ، فلما قال له اقبضه عن حقك والمخاطب يعلم طريق صيرورته قابضا لنفسه أن يكيله مرة للقبض عن الآمر وثانيا ليصير هو قابضا لنفسه ففعل ذلك صار قابضا حقه كأنه قال له اذهب فافعل ما تصير به قابضا .

ولفظ الجامع يفيد ما قلنا ، فإنه لم يزد فيه على قول [ ص: 104 ] فاكتاله ثم اكتاله لنفسه جاز . وقوله ( والسلم وإن كان سابقا إلى آخره ) جواب سؤال مقدر وهو أن يقال بيع رب السلم مع المسلم إليه كان سابقا على شراء المسلم إليه من بائعه فلا يكون المسلم إليه بائعا بعد الشراء ما اشتراه فلم تجتمع الصفقتان فلا يدخل تحت النهي .

فأجاب بقوله السلم وإن كان سابقا على شراء المسلم إليه من بائعه ( لكن قبض ) رب السلم ( المسلم فيه لاحق ) لشرائه من بائعه ( وأنه ) أي قبض المسلم فيه ( بمنزلة ابتداء البيع لأن العين غير الدين حقيقة ) واعتباره عينه في حق حكم خاص وهو صحة قبضه عن المسلم فيه كي لا يلزم الاستبدال به قبل قبضه لا يستلزم اعتباره إياه مطلقا فأخذ العين عنه في حكم عقد جديد فيتحقق بيع المسلم إليه بعد شرائه من بائعه .

والدليل على هذا الاعتبار ما قال في الزيادات : لو أسلم مائة في كر ثم اشترى المسلم إليه من رب السلم كر حنطة بمائتي درهم إلى سنة فقبضه فلما حل السلم أعطاه ذلك الكر لم يجز لأنه اشترى ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن . يريد أن رب السلم اشترى ما باعه وهو الكر قبل نقد الثمن بأقل مما باعه . وإنما يلزم ذلك إذا جعلا عند القبض كأنهما جددا عقدا .

ومثل هذا فيما لو أسلم في موزون معين واشترى المسلم إليه موزونا كذلك إلى آخره لا يجوز قبض رب السلم ، بخلاف ما لو اشترى المسلم إليه حنطة مجازفة أو ملكها بإرث أو هبة أو وصية وأوفاه رب السلم فكاله مرة ، وتجوز به يكتفى بكيل واحد ، لأنه لم يوجد إلا عقد واحد بشرط الكيل وهو السلم .

ولو اشترى المعدود عدا والسلم في معدود فعلى الروايتين في وجوب إعادة العد في بيع المعدود بعد شرائه عدا هذا ( فلو لم يكن سلما ) ولكن أقرضه ( فأمره بقبض الكر ) ولم يقل اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك فقبضه بأن اكتاله مرة ( جاز لأن القرض إعارة ولهذا ينعقد بلفظ الإعارة وكان المردود عين المأخوذ مطلقا فلم تجتمع صفقتان ) فلم يجب الكيلان لأن هذا الاعتبار في القرض لو لم يكن ثابتا لزم تملك الشيء بجنسه نسيئة أو تفرق بلا قبض فيه وهو ربا ، ولهذا لا يلزم التأجيل في القرض لأنه بيع بجنسه نسيئة ، وكذا لو كان الدين الأول سلما فلما حل اقترض المسلم إليه من رجل كرا وأمر رب السلم بقبضه من المقرض ففعل جاز لما ذكرنا ، وهذا لأن عقد القرض عقد مساهلة لا يوجب الكيل بخلاف البيع مكايلة أو موازنة ، ولهذا لو استقرض من آخر حنطة على أنها عشرة أقفزة جاز له أن يتصرف فيها [ ص: 105 ] قبل الكيل




الخدمات العلمية