الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 118 ] ( مسائل منثورة )

قال ( ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع ، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء ) وعن أبي يوسف أنه لا يجوز بيع الكلب العقور لأنه غير منتفع به . وقال الشافعي : لا يجوز بيع الكلب ، لقوله [ ص: 119 ] عليه الصلاة والسلام { إن من السحت مهر البغي وثمن الكلب } ولأنه نجس العين والنجاسة تشعر بهوان المحل وجواز البيع يشعر بإعزازه فكان منتفيا . ولنا { أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية } [ ص: 120 ] ولأنه منتفع به حراسة واصطيادا فكان ما لا يجوز بيعه ، بخلاف الهوام المؤذية ; لأنه لا ينتفع بها ، والحديث محمول على الابتداء قلعا لهم عن الاقتناء [ ص: 121 ] ولا نسلم نجاسة العين ، ولو سلم فيحرم التناول دون البيع . وقال ( ولا يجوز بيع الخمر والخنزير ) لقوله عليه الصلاة والسلام " إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها " ولأنه ليس بمال في حقنا ، [ ص: 122 ] وقد ذكرناه . .

[ ص: 118 ]

التالي السابق


[ ص: 118 ] مسائل منثورة )

المسائل التي تشذ عن الأبواب المتقدمة فلم تذكر فيها إذا استدركت سميت مسائل منثورة : أي متفرقة عن أبوابها ( قوله ويجوز بيع الكلب والفهد والسباع ، المعلم وغير المعلم في ذلك سواء ) هكذا أطلق في الأصل ، فمشى بعضهم على إطلاقه كالقدوري . وفي نوادر هشام عن محمد : نص على جواز بيع الكلب العقور وتضمين من قتله قيمته . وروى الفضل بن غانم عن أبي يوسف نصه على منع بيع العقور ، وعلى هذا مشى في المبسوط فقال : يجوز بيع الكلب إذا كان بحال يقبل التعليم .

ونقل في النوادر أنه يجوز بيع الجرو لأنه يقبل التعليم ، وإنما لا يجوز بيع الكلب العقور الذي لا يقبل التعليم ، وقال : هذا هو الصحيح من المذهب . قال : وهكذا نقول في الأسد إذا كان يقبل التعليم ويصطاد به يجوز بيعه ، وإن كان لا يقبل التعليم والاصطياد به لا يجوز ، قال : والفهد والبازي يقبلان التعليم فيجوز بيعهما على كل حال انتهى .

فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز بيع النمر بحال لأنه لشره لا يقبل تعليما . وفي بيع القرد روايتان عن أبي حنيفة : رواية الحسن الجواز ، ورواية أبي يوسف بالمنع . وقال أبو يوسف : أكره بيعه لأنه لا منفعة له إنما هو للهو وهذه جهة محرمة . وجه رواية الجواز أنه يمكن الانتفاع بجلده وهذا هو وجه رواية إطلاق بيع الكلب والسباع فإنه مبني على أن كل ما يمكن الانتفاع بجلده أو عظمه يجوز بيعه .

ويجوز بيع الهرة لأنها تصطاد الفأر والهوام المؤذية فهي منتفع بها ، ولا يجوز بيع هوام الأرض كالخنافس والعقارب والفأرة والنمل والوزغ والقنافذ والضب ، ولا هوام البحر كالضفدع والسرطان . وذكر أبو الليث أنه يجوز بيع الحيات إذا كان ينتفع بها في الأدوية وإن لم ينتفع فلا يجوز ، ويجوز بيع الدهن النجس لأنه ينتفع به للاستصباح فهو كالسرقين ، وأما العذرة فلا ينتفع بها إلا إذا خلطت بالتراب فلا بجواز بيعها إلا تبعا للتراب المخلوط ، بخلاف الدم يمتنع مطلقا ( قوله وقال الشافعي : لا يجوز بيع الكلب ) مطلقا سواء كان للصيد أو لم يكن ، وأما اقتناؤه [ ص: 119 ] للصيد وحراسة الماشية والبيوت والزرع فيجوز بالإجماع ، لكن لا ينبغي أن يتخذه في داره إلا إن خاف لصوصا أو أعداء للحديث الصحيح { من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان } وجه قوله ما روى ابن حبان في صحيحه عن حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إن مهر البغي وثمن الكلب وكسب الحجام من السحت } وأخرجه الدارقطني بسندين فيهما ضعف .

وفي الصحيحين عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن } . وفي صحيح مسلم عن جابر { أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ثمن الكلب } ( ولأنه نجس العين والنجاسة تشعر بهوان المحل والبيع برفعته ) فلا يجتمعان ، وعارضه المصنف بوجهين : أحدهما ( أنه صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع الكلب إلا كلب صيد أو ماشية } ) وهو غريب بهذا اللفظ .

نعم أخرج الترمذي عن أبي هريرة قال { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب إلا كلب صيد } وضعفه الترمذي قال : وقد روي أيضا عن جابر مرفوعا ولا يصح إسناده ، والأحاديث الصحيحة ليس فيها هذا الاستثناء ، لكن روى أبو حنيفة في سنده عن الهيثم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : { أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمن كلب الصيد } وهذا سند جيد ، فإن الهيثم ذكره ابن حبان في الثقات من أثبات التابعين ، فهذا الحديث على رأيهم يصلح مخصصا والمخصص بيان للمراد بالعام فيجوز وإن كان دونه في القوة عندهم ، حتى أجازوا تخصيص العام القاطع بخبر الواحد ابتداء فبطل مدعاهم من عموم منع البيع ، ثم دليل التخصيص مما يعلل ويخرج من العام مرة أخرى ، وتعليل إخراج كلب الصيد ساطع أنه لكونه منتفعا به ، وخصوص الاصطياد ملغى إذ لا يظهر موجب [ ص: 120 ] لذلك فصار الكلب المنتفع به خارجا سواء انتفع به في صيد أو حراسة ماشية وخرج العقور .

ومن مشى من أهل المذهب على التعميم في جواز بيع الكلب يقول : كل كلب تتأتى منه الحراسة فيجوز بيع الكل . ويرد عليه أنه حينئذ نسخ لموجب العام بالتعليل ولا نسخ بقياس . فالوجه أن يعلل دليل التخصيص بنفع لا تربو عليه مفسدة ، ويدعي في العقور أن مفسدته تربو على منفعة حراسته ; لأن منفعته خاصة يقترن بها ضرر عام للناس فيخرج ما سواه .

وقصر بعض الشارحين نظره على الحديث فحكم بأنه ليس دليلا على المذهب بل ذكره لنفي مذهب الخصم : أعني شمول المنع فيحتاج بعده إلى دليل المذهب وليس إلا الوجه الثاني ، وعلى تقريرنا يتم الأول أيضا .

وقد استدل في الأسرار وغيره من الشروح على عموم بيع الكلب بأن عبد الله بن عمرو بن العاص روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنه قضى في كلب بأربعين درهما } ولم يخصص نوعا من أنواع الكلاب . وهذا الحديث أولا لا يعرف إلا موقوفا حدث به الطحاوي عن يونس وهو ابن عبد الأعلى عن ابن وهب عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو " أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما وقضى في كلب ماشية بكبش " . وثانيا هو واقعة حال لا توجب العموم في أنواع الكلاب فجعلها دليلا على العموم خطأ ظاهر .

ثانيهما هو قوله ( ولأنه ينتفع به حراسة واصطيادا فكان مالا ) يعني مالا مملوكا متقوما . أما كونه مالا فلأن المال اسم لغير الآدمي خلق لمنفعته المطلقة شرعا ، وهذا كذلك فكان مالا ، وأما أنه مملوك متقوم فلأنه محرز مأذون شرعا [ ص: 121 ] في الانتفاع به ، والملك يثبت بالإحراز بدار الإسلام والتقوم بالتمول ، وكلاهما مأذون فيه شرعا إذ قد أذن الشرع في اقتناء كلب الماشية والصيد ، وإذا كان كذلك جاز بيعه .

ولا يخفى أن هذا المعنى لا يترجح على النص الصريح الصحيح . غاية ما في الباب أن يسلم أنه مال محرز متقوم لكن ثبت منع الشرع من بيع هذا النوع من المال . فأجاب المصنف بادعاء نسخ المنع من ذلك ، وذلك لما قلنا أول الكتاب من أن الأمر بقتل الكلاب كان أمرا محققا في الأول من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم علم نسخ ذلك برواية ترك قتلها على ما حدث الطحاوي عن أبي بكرة قال : حدثنا سعيد بن عامر قال : حدثنا شعبة عن أبي التياح عن مطرف عن عبد الله بن المغفل قال : { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ، ثم قال : مالي وللكلاب ؟ ثم رخص في كلب الصيد وفي كلب آخر نسيه سعيد } .

ولهذا المعنى طرق كثيرة وجب حمل ما روي من التشديد في سؤرها والنهي عن ثمنها وبيعها ثم الترخيص في بيع النوع الذي أذن في اقتنائه ، الأول على الحالة الأولى والثاني على الثانية ، فكان منع البيع على العموم منسوخا بإطلاق بيع البعض بالضرورة . وأجاب عن قوله : نجس العين بالمنع بدليل إطلاق الانتفاع به . قال ( ولو سلم فنجاسة عينه توجب حرمة أكله لا منع بيعه ) بل منع البيع بمنع الانتفاع شرعا ، ولهذا أجزنا بيع السرقين والبعر مع نجاسة عينهما لإطلاق الانتفاع بهما عندنا ، بخلاف العذرة لم يطلق الانتفاع بها فمنع بيعها ، فإن ثبت شرعا إطلاق الانتفاع مخلوطة بالتراب ولو بالاستهلاك كالاستصباح بالزيت النجس كما قيل جاز بيع ذلك التراب التي هي في ضمنه ، وبه قال مشايخنا . وإنما امتنع بيع الخمر لنص خاص في منع بيعها وهو قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرج مسلم عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سألت ابن عباس عما يعصر من العنب ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما { إن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله حرم شربها ؟ قال : لا ، قال : فسار إنسانا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ، فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها } .

وأخرج البخاري عن جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول وهو بمكة { إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ قال : لا هو حرام ، ثم قال : قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوه فباعوه وأكلوا ثمنه } وهذا يتم به [ ص: 122 ] شرح المسألة المذكورة بعد هذه المسألة .

وقوله ( وقد ذكرناه ) يعني في باب البيع الفاسد ويقوم إشكالا على جواز بيع السرقين ، اللهم إلا أن يقال : لا شك أنه لا بد من تقدير في نحو : حرمت الخمر ، فإنا بينا في الأصول أن التحريم المضاف إلى الأعيان تقدر إضافته إلى ما هو المقصود من ذلك العين كالشرب من الخمر والأكل من الميتة واللبس من الحرير ، فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث { إن الله إذا حرم شيئا } يعني إذا حرم ما هو المقصود من الشيء " حرم بيعه وأكل ثمنه " كالمقصود من الخمر والمقصود من الميتة والخنزير وهو الأكل والشرب ، وليس هذا الحديث في السرقين فلم يثبت فيه تحريم البيع ، فإن قال النجاسة سبب ، قلنا : ممنوع فيحتاج إلى دليل آخر .

أما هذا الحديث فإنما يفيد أن تحريم ما هو المقصود من الشيء موجب لتحريم بيعه




الخدمات العلمية