الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 268 - 269 ] قال ( ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا في المسجد ) كي لا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين ، والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر . وقال الشافعي رحمه الله : يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه يحضره المشرك وهو نجس بالنص والحائض وهي ممنوعة عن دخوله . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى والحكم } . { وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفصل الخصومة في معتكفه } وكذا الخلفاء الراشدون كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات ، ولأن القضاء عبادة فيجوز إقامتها في المسجد كالصلاة . [ ص: 270 ] ونجاسة المشرك في اعتقاده لا في ظاهره فلا يمنع من دخوله ، والحائض تخبر بحالها فيخرج القاضي إليها أو إلى باب المسجد أو يبعث من يفصل بينها وبين خصمها كما إذا كانت الخصومة في الدابة . ولو جلس في داره لا بأس به ويأذن للناس بالدخول فيها ، [ ص: 271 ] ويجلس معه من كان قبل ذلك لأن في جلوسه وحده تهمة .

التالي السابق


( قوله ويجلس للحكم جلوسا ظاهرا كي لا يشتبه مكانه على الغرباء وبعض المقيمين ) وفي الخلاصة : ولا يتعب نفسه في طول الجلوس ولكن يجلس في طرفي النهار ، وكذا المفتي والفقيه ( والمسجد الجامع أولى لأنه أشهر ) ثم الذي تقام فيه الجماعات وإن لم تصل فيه الجمعة . قال فخر الإسلام : هذا إذا كان الجامع في وسط البلد ، أما إذا كان في طرف منها فلا لزيادة المشقة على أهل الشقة المقابلة له ، فالأولى أن يختار مسجدا في وسط البلد وفي السوق .

ويجوز أن يحكم في بيته وحيث كان إلا أن الأولى ما ذكرنا ، وبقولنا قال أحمد ومالك في الصحيح عنه ( وقال الشافعي : يكره الجلوس في المسجد للقضاء لأنه ) أي القضاء ( يحضره المشرك وهو نجس بالنص ) قال تعالى { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد } ( والحائض وهي ممنوعة عن دخوله ) ولأن المساجد بنيت للصلاة والذكر ، والخصومات تقترن بالمعاصي كثيرا من اليمين الغموس والكذب في الدعاوى ( ولنا ) ما في الصحيحين من حديث اللعان من حديث سهل بن سعد ، وفيه { فتلاعنا في المسجد وأنا شاهد } ولا بد من كون أحدهما كاذبا حانثا في يمين غموس ، وفي الصحيحين أيضا عن كعب بن مالك { أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى : يا كعب ، فقال : لبيك يا رسول الله ، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك ، قال كعب : قد فعلت يا رسول الله ، قال : قم فاقضه } وأخرج الطبراني مسندا إلى ابن عباس قال { بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أتى رجل فتخطى الناس حتى قرب إليه فقال : يا رسول الله أقم علي الحد ، فقال : اجلس فجلس ، ثم قام الثانية فقال : يا رسول الله أقم علي الحد ، فقال اجلس فجلس ثم قام الثالثة فقال يا رسول الله أقم علي الحد ، قال وما حدك ؟ قال : أتيت امرأة حراما ، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي وابن عباس وزيد بن حارثة [ ص: 270 ] وعثمان بن عفان رضي الله عنهم انطلقوا به فاجلدوه ولم يكن تزوج ، فقيل يا رسول الله ألا تجلد التي خبث بها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صاحبتك ؟ قال : فلانة فدعاها ثم سألها ، فقالت : يا رسول الله كذب علي والله إني لا أعرفه ، فقال صلى الله عليه وسلم : من شاهدك ؟ فقال : يا رسول الله ما لي شاهد ، فأمر به فجلد حد الفرية ثمانين جلدة } وأما إن الخلفاء الراشدين كانوا يجلسون في المساجد لفصل الخصومات فنقل بالمعنى : يعني وقع منهم هذا ، ولا يكاد يشك في أن عمر وعثمان رضي الله عنهما وقع لهما ذلك .

ومن تتبع السير رأى من ذلك شيئا كثيرا . ففي البخاري : " لاعن عمر عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . " . وأسند الإمام أبو بكر الرازي إلى الحسن أنه رأى عثمان قضى في المسجد وذكر القصة في ذلك ، فما قيل إنه غريب مبني على أن المراد رواية هذا اللفظ ، وليس كذلك .

وفي الطبقات لابن سعد بسنده إلى ربيعة بن أبي عبد الرحمن " أنه رأى أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقضي في المسجد عند القبر . " ، وكان على القضاء بالمدينة في ولاية عمر بن عبد العزيز وأسند إلى سعيد بن مسلم بن بانك . قال : رأيت سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يقضي في المسجد وكان قد ولي قضاء المدينة .

وإلى محمد بن عمر قال : لما ولى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم إمرة المدينة لعمر بن عبد العزيز ولى أبا طوالة القضاء بها فكان يقضي في المسجد ، قال : أبو طوالة ثقة يروي عن أنس بن مالك . وإلى إسماعيل بن أبي خالد قال : رأيت شريحا يقضي في المسجد ، وإلى الأسود بن شيبان قال : رأيت الشعبي وهو يومئذ قاضي الكوفة يقضي في المسجد ، وكل قضاء صدر من هؤلاء كان بين السلف مشهورا وفيهم الصحابة والتابعون ولم يرو إنكاره عن أحد .

وأما الحديث الذي ذكره المصنف { إنما بنيت المساجد لذكر الله والحكم } فلم يعرف ، وإنما أخرج مسلم حديث { الأعرابي الذي قام يبول في المسجد فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا تزرموه دعوه فتركوه حتى بال ، ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر ، وإنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن ، قال : وأمر رجلا من القوم فدعا بدلو من ماء فشنه عليه } وأما نجاسة المشرك ففي الاعتقاد على معنى التشبيه ( والحائض تخبر بحالها ليخرج إليها القاضي ) أو يرسل نائبه ( كما لو كانت الدعوى في دابة ، ولو جلس في داره فحسن ب ) شرط ( أن يأذن للناس ) على العموم ولا يمنع أحدا من الناس لأن لكل أحد حقا في مجلسه ، وعلى [ ص: 271 ] قياس ما ذكرنا في المسجد أن الأولى أن يكون في وسط البلد .

وفي المبسوط : ولا يقضي وهو يمشي أو يسير على دابته لأنه إذ ذاك غير معتدل الحال ، ولما فيه من الاستخفاف بالقضاء ، ولأنه مشغول بما هو فيه ، ولا بأس بأن يتكئ لأنه نوع جلسة كالتربع وغيره ، وطباع الناس في الجلوس مختلفة ، وينبغي أن لا يقضي وهو غضبان أو فرحان أو جائع أو عطشان أو مهموم أو ناعس أو في حال برد شديد أو حر أو وهو يدافع الأخبثين أو به حاجة إلى الجماع . والحاصل أنه لا يقضي حال شغل قلبه ، وأصله حديث { لا يقضي القاضي وهو غضبان } معلول به ولا ينبغي أن يتطوع بالصوم في اليوم الذي يريد الجلوس ولا يسمع من رجل حجتين فأكثر إلا أن يكون الناس قليلا ، ولا يقدم رجلا جاء الآخر قبله ، ولا يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا ( و ) ينبغي أن ( يجلس معه من كان يجالسه قبل ذلك لأن في جلوسه وحده تهمة ) الرشوة أو الظلم . وروي أن عثمان رضي الله عنه ما كان يحكم حتى يحضر أربع من الصحابة ، ويستحب أن يحضر مجلسه جماعة من الفقهاء ويشاورهم ، وكان أبو بكر يحضر عمر وعثمان وعليا حتى قال أحمد : يحضر مجلسه الفقهاء من كل مذهب ويشاورهم فيما يشكل عليه . وفي المبسوط : فإن دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله عن شيء من أمور المسلمين جلس وحده ، فإن طباع الناس تختلف ، فمنهم من يمنعهم حشمة الفقهاء من فصل القضاء ، ومنهم من يزداد قوة على ذلك ، فإذا كان ممن يدخله حصر جلس وحده . وفي المبسوط ما حاصله أنه ينبغي للقاضي أن يعتذر للمقضي عليه ويبين له وجه قضائه ويبين له أنه فهم حجته ، ولكن الحكم في الشرع كذا يقتضي القضاء عليه فلم يمكن غيره ليكون ذلك أدفع لشكايته للناس ، ونسبته إلى أنه جار عليه . ومن يسمع يخل ، فربما تفسد العامة غرضه وهو بريء ، وإذا أمكن إقامة الحق مع عدم إيغار الصدور كان أولى .




الخدمات العلمية