الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 404 ] ( وإن مرت امرأة بين يدي المصلي لم تقطع صلاته ) لقوله عليه الصلاة والسلام { لا يقطع الصلاة مرور شيء إلا أن المار [ ص: 405 ] آثم } لقوله عليه الصلاة والسلام { لو علم المار بين يدي المصلي ماذا عليه من الوزر لوقف أربعين } وإنما يأثم إذا مر في موضع سجوده على ما قيل ولا يكون بينهما حائل [ ص: 406 ] وتحاذي أعضاء المار أعضاءه لو كان يصلي على الدكان

التالي السابق


( قوله وإن مرت امرأة ) خصها للتنصيص على رد قول الظاهرية أن مرورها يفسد ، وكذا الحمار والكلب عندهم . ووجه الجواز حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأنا معترضة بين يديه فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي ، فإن قام بسطتها } .

والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح . وقوله صلى الله عليه وسلم { لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرءوا ما استطعتم فإنما هو شيطان } وفي سنده مجالد فيه مقال ، وإنما روى له مسلم مقرونا بجماعة من أصحاب الشعبي ، وأخرج الدارقطني عن سالم بن عبد الله عن أبيه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر قالوا : لا يقطع الصلاة مرور شيء ، وادرءوا ما استطعتم } ، ضعف رفعه ووقفه مالك في الموطأ .

وقال النووي في شرح مسلم : حديث لا يقطع الصلاة مرور شيء ضعيف ، والذي يظهر أنه لا ينزل عن الحسن لأنه يروى من عدة طرق عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وأبي أمامة وأنس وجابر رضي الله عنهم ، والروايات في أبي داود والدارقطني والطبراني في الأوسط ، وعلى كل حال لا يقاوم ما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم { يقطع الصلاة إذا لم يكن بين يديه كآخرة الرحل المرأة والحمار والكلب الأسود . قلنا : ما بال الأسود [ ص: 405 ] من الأحمر ؟ قال : يا ابن أخي سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال الكلب الأسود شيطان } قال الإمام أحمد : لا أشك أن الكلب الأسود يقطع ، وفي نفسي من المرأة والحمار شيء .

قال ابن الجوزي : وإنما قال ذلك لأنه صح حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : وذكرت ما رويناه آنفا ، وصح عن { ابن عباس أنه قال أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ، فنزلت عن الحمار وتركته أمام الصف فما بالاه } ولم نجد في الكلب شيئا انتهى . والحاصل أنه قام المعارض فيهما ولم يوجد في الكلب ، وتأول الجمهور ذلك على قطع الخشوع لأنه محتمله ، بخلاف معارضه من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما فإنهما محكمان في عدم الإفساد .

ويجب في مثله حمل المحتمل على ما يحتمله مما لم يعارض به المحكم ، ولا شك أن الكلب معطوف على معمول يقطع ، فإذا لزم في عامله هذا كون المراد قطع الخشوع بالنسبة إلى المرأة والحمار لزم فيه بالنسبة إلى الكلب أيضا ذلك وإلا أريد به معنيان مختلفان وذلك لا يجوز عندنا .

ثم الكلام في هذه المسألة في عشرة مواضع كلها في الكتاب إلا واحدا وهو أنه لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ( قوله لقوله صلى الله عليه وسلم ) الحديث في الصحيحين عن أبي النضر عن بسر بن سعيد أن زيد بن خالد أرسله إلى أبي جهيم يسأله ماذا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في المار بين يدي المصلي فقال أبو جهيم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه } قال أبو النضر : لا أدري قال أربعين يوما أو شهرا أو سنة . ورواه البزار عن أبي النضر عن بسر بن سعيد قال : أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد فساقه ، وفيه لكان أن يقف أربعين خريفا ، وسكت عنه البزار ، وفيه أن المسئول زيد بن خالد خلاف ما في الصحيحين .

قال ابن القطان : وقد خطأ الناس ابن عيينة في ذلك لمخالفته مالكا ، وليس بمتعين لاحتمال كون أبي جهيم بعث بسرا إلى زيد بن خالد وزيد بن خالد بعثه إلى أبي جهيم بعد أن أخبره بما عنده ليستثبته فيما عنده وهل عنده ما يخالفه ، فأخبر كل بمحفوظه ، وشك أحدهما وجزم الآخر ، واجتمع ذلك كله عن أبي النضر فحدث بهما .

غير أن مالكا حفظ حديث أبي جهيم وابن عيينة حفظ حديث زيد بن خالد ( قوله وإنما يأثم إذا مر في موضع سجوده على ما قيل ولا يكون بينهما حائل ) قيل هذا هو الأصح لأن من قدمه إلى موضع سجوده هو موضع صلاته ، ومنهم من قدره [ ص: 406 ] بثلاثة أذرع ، ومنهم بخمسة ، ومنهم بأربعين ، ومنهم بمقدار صفين أو ثلاثة ، وفي النهاية الأصح أنه إن كان بحال لو صلى صلاة الخاشعين نحو أن يكون بصره في قيامه في موضع سجوده وفي موضع قدميه في ركوعه وإلى أرنبة أنفه في سجوده وفي حجره في قعوده وإلى منكبه في سلامه لا يقع بصره على المار لا يكره .

ومختار السرخسي ما في الهداية ، وما صحح في النهاية مختار فخر الإسلام ، ورجحه في النهاية بأن المصلي إذا صلى على الدكان وحاذى أعضاء المار أعضاءه يكره المرور ، وإن كان المار أسفل وهو ليس موضع سجوده : يعني أنه لو كان على الأرض لم يكن سجوده فيه لأن الفرض أنه يسجد على الدكان فكان موضع سجوده ألبتة دون محل المرور لو كان على الأرض .

ومع ذلك ثبتت الكراهة اتفاقا فكان ذلك نقضا لما اختاره شمس الأئمة ، بخلاف مختار فخر الإسلام فإنه ممشى في كل الصور غير منقوض قال : ثم ذكر شيخ الإسلام هذا الحد الذي ذكرناه إذا كان يصلي في الصحراء . فأما في المسجد فالحد هو المسجد إلا أن يكون بينه وبين المار أسطوانة أو غيرها : يعني أنه ما لم يكن بينهما حائل فالكراهة ثابتة ، إلا أن يخرج من حد المسجد فيمر فيما ليس بمسجد . وفي جوامع الفقه في المسجد يكره وإن كان بعيدا .

وفي الخلاصة : وإن كان في المسجد لا ينبغي لأحد أن يمر بينه وبين حائط القبلة . وقال بعضهم : يمر ما وراء خمسين ذراعا . وقال بعضهم : قدر ما بين الصف الأول وحائط القبلة . ومنشأ هذه الاختلافات ما يفهم من لفظ بين يدي المصلي ، فمن فهم أن بين يديه يخص ما بينه وبين محل سجوده قال به ، ومن فهم أنه يصدق مع أكثر من ذلك نفاه وعين ما وقع عنده .

والذي يظهر ترجح ما اختاره في النهاية من مختار فخر الإسلام وكونه من غير تفصيل بين المسجد وغيره ، فإن المؤثم المرور بين يديه ، وكون ذلك البيت برمته اعتبر بقعة واحدة في حق بعض الأحكام لا يستلزم تغيير الأمر الحسي من المرور من بعيد فيجعل البعيد قريبا ( قوله ويحاذى إلخ ) فلو كانت الدكان قدر القامة فهو سترة فلا يأثم المار ، ومن المشايخ من حده بطول السترة وهو ذراع ، وغلظ بأنه لو كان كذلك لما كره مرور الراكب وإن استتر بظهر جالس كان سترة وكذا الدابة .

واختلفوا في القائم وقالوا : حيلة الراكب أن ينزل فيجعل الدابة بينه وبين المصلي فتصير هي سترة فيمر ، ولو مر رجلان فالإثم على من يلي المصلي




الخدمات العلمية