الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 513 ] ( وإذا وكل الحر العاقل البالغ أو المأذون مثلهما جاز ) لأن الموكل مالك للتصرف والوكيل من أهل العبارة ( وإن وكلا صبيا محجورا يعقل البيع والشراء أو عبدا محجورا جاز ، ولا يتعلق بهما الحقوق ويتعلق بموكلهما ) لأن الصبي [ ص: 514 ] من أهل العبارة ; ألا ترى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه ، والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له وإنما لا يملكه في حق المولى ، والتوكيل ليس تصرفا في حقه إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة . أما الصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده فتلزم الموكل .

وعن أبي يوسف رحمه الله أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو مجنون له خيار الفسخ لأنه دخل في العقد على أن حقوقه تتعلق بالعاقد ، فإذا ظهر خلافه يتخير كما إذا عثر على عيب .

التالي السابق


( قوله وإذا وكل الحر البالغ أو المأذون مثلهما جاز ) وأطلق في المأذون ليشمل كلا من العبد والصبي المأذونين في التجارة لاجتماع الشروط وهي ملك الموكل التصرف ولزوم الأحكام وعقلية الوكيل معنى العقد ، ولم يذكر العقل مع البلوغ لأن اشتراط العقل يعرفه كل أحد ، ومعلوم أيضا أن قوله مثلهما ليس بقيد بل مثلهما أو أعلى حالا منهما كتوكيل العبد المأذون حرا أو دونهما كتوكيل الحر البالغ عبدا مأذونا ( قوله وإن وكل صبيا محجورا عليه يعقل البيع والشراء أو عبدا محجورا عليه جاز ولا تتعلق الحقوق بهما بل بموكلهما ) هذا الكلام له منطوق ومفهوم ، فمنطوقه ظاهر ، ووجهه ما ذكر المصنف ( من أن الصبي ) أي [ ص: 514 ] العاقل ( من أهل العبارة ) حتى ( نفذ تصرفه بإذن وليه ، والعبد ) من أهل التصرف في ( حق نفسه مالك له ، وإنما لا يملكه في حق المولى ، والتوكيل ليس تصرفا ) من الموكل ( في حقه إلا أنه لا يصح منهما التزام العهدة ، فالصبي لقصور أهليته والعبد لحق سيده فتلزم الموكل ) ويعرف من كون انتفاء تعلق الحقوق بالعبد لحق السيد أنه لو أعتق بعد أن باشر الشراء لزمته الحقوق ، بخلاف الصبي لو باشر ما وكل به ثم بلغ لا ترجع إليه .

وأما مفهومه فهو أن الوكيل لو كان صبيا مأذونا أو عبدا مأذونا تعلقت الحقوق بهما لكنه ليس بمطلق بل ذكر فيه تفصيلا في الذخيرة قال : إن كان الوكيل صبيا مأذونا ، فإن وكل بالبيع بثمن حال ومؤجل فباع لزمته العهدة أو بالشراء إن كان بثمن مؤجل لا تلزمه العهدة قياسا واستحسانا فيطالب البائع بالثمن الآمر لا الصبي ، وذلك لأن ما يلزمه من العهدة ضمان كفالة لا ضمان ثمن ، لأن ضمان الثمن ما يفيد الملك للضامن في المشتري وهذا لا يفيد الملك للضامن إنما التزم ما لا على موكله استوجب مثله في ذمته وهو معنى الكفالة ، والصبي المأذون يلزمه ضمان الثمن لا ضمان كفالة .

وأما إذا وكله بالشراء بثمن حال فالقياس أن لا تلزمه العهدة . وفي الاستحسان تلزمه لأن للصبي ملكا حكميا في المشتري فإنه يحبسه بالثمن عن الموكل حتى يستوفيه كما لو اشترى لنفسه ثم باعه منه . والصبي المأذون من أهل أن يلزمه ضمان الثمن ، بخلاف ما إذا كان الثمن مؤجلا لأنه بما يضمن من الثمن لا يملك المشتري لا حقيقة ولا حكما فإنه لا يحبسه عن الموكل إلى الاستيفاء ، والعبد إذا توكل على هذا التفصيل .

ثم اعلم أن العبد والصبي المحجورين وإن [ ص: 515 ] لم تتعلق بهما الحقوق فلقبضهما الثمن وتسليمها المبيع اعتبارا لما ذكر في الكتاب بعد هذا في التوكيل بعقد السلم فقال : والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل فيصح قبضه وإن لم تتعلق بهما الحقوق كالصبي والعبد .

وفي المبسوط : إن كان المأذون مرتدا جاز بيعه لأنه من أهل العبارة المعتبرة ولكن يتوقف حكم العهدة عند أبي حنيفة ، فإن أسلم كانت العهدة عليه وإلا فعلى الآمر وعندهما العهدة عليه على كل حال وهو نظير اختلافهم في تصرفات المرتد لنفسه بيعا وشراء ، ونظير الصبي والعبد المحجورين في عدم تعلق الحقوق الرسول والقاضي وأمينه ( قوله والعقد ) .



[ ص: 3 ] بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوكالة

لما فرغ من بيان أحكام الشهادات بأنواعها وما يتبعها من الرجوع عنها شرع في بيان أحكام الوكالة ، إما لمناسبة أن كل واحد من الشهادة والوكالة صفة من صفات الله تعالى لقوله تعالى { ثم الله شهيد على ما يفعلون } وقوله تعالى حكاية حسبنا الله ونعم الوكيل ، وإما ; لأن كلا منهما إيصال النفع إلى الغير بالإعانة في حقه ، وإما ; لأن كلا منهما يصلح سببا لاكتساب الثواب والصيانة عن العقاب في المعاملات ، كذا في النهاية . قال صاحب العناية عقب الشهادة بالوكالة لأن الإنسان خلق مدنيا بالطبع يحتاج في معاشه إلى تعاضد وتعاوض ، والشهادة من التعاضد والوكالة منه ; وقد يكون فيها التعاوض أيضا فصارت كالمركب من المفرد فآثر تأخيرها انتهى . وقال بعض الفضلاء في بيان قوله وقد يكون فيها التعاوض أيضا كما إذا كان وكيلا بالبيع أو الشراء مثلا انتهى .

أقول : هذا سهو ظاهر ; لأن التعاوض فيما ذكره من المثال إنما هو في متعلق الوكالة ، أعني الموكل به ، وهو البيع أو الشراء لا نفس الوكالة ، والكلام فيها لا في الأول ، وإلا فقد يكون التعاوض في متعلق الشهادة أيضا كما إذا شهد بالبيع أو الشراء مثلا .

والصواب أن مراد صاحب العناية هو أنه قد يكون في نفس الوكالة التعاوض كما إذا أخذ الوكيل الأجرة لإقامة الوكالة فإنه غير ممنوع شرعا ، إذ الوكالة عقد جائز لا يجب على الوكيل إقامتها فيجوز أخذ الأجرة فيها ، بخلاف الشهادة فإنها فرض يجب على الشاهد أداؤها فلا يجوز فيها التعاوض أصلا . ثم إن محاسن شرعية الوكالة ظاهرة ، إذ فيها قضاء حوائج المحتاجين إلى مباشرة أفعال لا يقدرون عليها بأنفسهم ، فإن الله تعالى خلق الخلائق على همم شتى وطبائع مختلفة وأقوياء وضعفاء ، وليس كل أحد يرضى أن يباشر الأعمال بنفسه ، ولا كل أحد يهتدي إلى المعاملات ، فمست الحاجة إلى شرعية الوكالة ، فنبينا صلى الله عليه وسلم باشر بعض الأمور بنفسه الكريمة تعليما لسنة التواضع ، وفوض بعضها إلى غيره ترفيها لأصحاب المروءات . ثم إن هاهنا أمورا يحتاج إلى معرفتها تفسيرا للوكالة لغة وشرعا . ودليل جوازها وسببها وركنها وشرطها وصفتها وحكمها .

أما تفسيرها لغة : فالوكالة بفتح الواو وكسرها اسم للتوكيل ، من وكله بكذا إذا فوض إليه ذلك . والوكيل هو القائم بما فوض إليه ، والجمع الوكلاء كأنه فعيل بمعنى مفعول ; لأنه موكول إليه الأمر : أي مفوض إليه . وأما شرعا : فهي عبارة عن إقامة الإنسان غيره مقام نفسه في تصرف معلوم . وأما دليل جوازها فالكتاب وهو قوله تعالى { فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة } [ ص: 4 ] لأن ذاك كان توكيلا وقد قصه الله تعالى عن أصحاب الكهف بلا نكير فكان شريعة لنا .

والسنة وهي ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل حكيم بن حزام بشراء الأضحية وعروة البارقي به أيضا ، ووكل عمر بن أم سلمة بالتزويج } .

والإجماع فإن الأمة أجمعت على جوازها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ، وكذا المعقول يدل عليه على ما سيأتي في الكتاب .

وأما سببها فتعلق البقاء المقدر بتعاطيها كما في سائر المعاملات .



وأما ركنها : فالألفاظ التي تثبت بها الوكالة كلفظ وكلت وأشباهه . روى بشر بن غياث عن أبي يوسف رحمه الله : إذا قال الرجل لغيره أحببت أن تبيع عبدي هذا أو هويت أو رضيت أو شئت أو أردت فذاك توكيل وأمر بالبيع .



وأما شرطها : فأن يكون الموكل ممن يملك التصرف وتلزمه الأحكام كما سيأتي في الكتاب ، وستعرفه مشروحا .



وأما صفتها : فهي أنها عقد جائز غير لازم حتى يملك كل واحد من الموكل والوكيل العزل بدون رضا صاحبه .



وأما حكمها : فجواز مباشرة الوكيل ما فوض إليه ( قال ) أي القدوري رحمه الله تعالى في مختصره ( كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره ) هذه ضابطة يتبين بها ما يجوز التوكيل به لأحد ، فلا يرد عليها أن المسلم لا يجوز له عقد بيع الخمر وشرائها بنفسه . ولو وكل ذميا بذلك جاز عند أبي حنيفة رحمه الله ; لأن إبطال القواعد بإبطال الطرد لا العكس على ما نصوا عليه . والعجب هاهنا أن صاحب العناية مع اعترافه بذلك حيث أجاب عن الاعتراض بالصورة المذكورة بأن العكس غير لازم وليس بمقصود .

قال في شرح هذا المقام : هذه ضابطة يتبين بها ما يجوز التوكيل به وما لا يجوز انتهى ، فإن العكس إذا لم يكن لازما ولا مقصودا في الضوابط كيف يتبين بهذه الضابطة ما لا يجوز التوكيل به ، وقد اعترض على طرد هذه الضابطة بوجوه :

الأول : أن الوكيل جاز له أن يعقد بنفسه ، وإذا وكل غيره ولم يؤذن له في ذلك لا يجوز .

والثاني : أن الإنسان جاز له أن يستقرض بنفسه ، ولو وكل غيره بالاستقراض لا يجوز .

والثالث : أن الذمي يملك بيع الخمر بنفسه ، ولا يجوز له أن يوكل المسلم ببيعها .

وأجيب عن الأول بأن المراد بقوله يعقده الإنسان بنفسه هو أن يكون مستبدا به والوكيل ليس كذلك .

وعن الثاني بأن محل العقد من شروطه لكون المحال شروطا على ما عرف ، وذاك ليس بموجود في التوكيل بالاستقراض ; لأن الدراهم التي استقرضها الوكيل ملك المقرض والأمر بالتصرف في ملك الغير باطل ، ورد هذا بأنه مقرر للنقض لا دافع . ودفع بأنه من باب التخلف لمانع ، وقيد عدم المانع في الأحكام الكلية غير لازم ، ونقض بالتوكيل بالشراء فإنه جائز وما ذكرتم موجود فيه . وفرق بأن محل عقد الوكالة في الشراء هو الثمن وهو ملك الموكل ، وفي الاستقراض الدراهم المستقرضة وهي ليست ملكه .

وقيل : هلا جعلتم المحل فيه بدلها وهو ملك الموكل ؟ ودفع بأن ذاك محل التوكيل بإيفاء القرض لا بالاستقراض ، هذا نهاية ما في العناية . أقول : ولقائل أن يقول كما أن الأمر بالتصرف في ملك الغير باطل كذلك التصرف بنفسه في ملك الغير باطل فيلزم أن يكون الاستقراض بنفسه أيضا باطلا بناء على هذا ، وليس كذلك . ثم أقول : يمكن أن يدفع ذلك بأن المستقرض بنفسه متصرف في ملك نفسه وهو عبارته دون ملك غيره وهو الدراهم المستقرضة . وأما المأمور بالاستقراض فإن تصرف في عبارة نفسه بأن قال للمقرض مثلا أقرضني عشرة دراهم كان الاستقراض لنفسه لا للآمر فله أن يمنع العشرة من الآمر كما صرحوا به ، وإن تصرف في عبارة الآمر بأن قال مثلا : إن فلانا يستقرض منك عشرة دراهم ففعل المقرض كانت العشرة للآمر ، ولكن المأمور يصير في هذه الصورة رسولا لا وكيلا ، والباطل هو الوكالة في الاستقراض دون الرسالة فيه ، فإن الرسالة موضوعة لنقل عبارة المرسل ، فالرسول معبر والعبارة ملك المرسل ، فقد أمره بالتصرف في ملكه باعتبار العبارة فيصح فيما هو حقه .

وأما الوكالة فغير موضوعة لنقل عبارة الموكل بل العبارة للوكيل فلا يمكننا تصحيح هذا الأمر باعتبار العبارة كما نص عليه في الذخيرة . بقي هاهنا شيء وهو أن ما ذكر منقوض بجواز التوكيل بالاستيهاب والاستعارة ; وسيأتي تمام بحثه إن شاء الله تعالى . وأجيب عن الثالث بأن الذمي كما يملك بيع الخمر بنفسه يملك توكيل غيره ببيعها أيضا ، حتى أنه لو وكل ذميا آخر ببيعها يجوز ، وإنما لم يجز توكيل المسلم هاهنا لمعنى في المسلم ، وهو أنه مأمور بالاجتناب عنها وفي جواز التوكيل ببيعها اقترابها فكان ذلك أمرا عارضا في الوكيل ، والعوارض لا تقدح في القواعد ، حتى أن قائلا لو قال : كل من تزوج امرأة بنكاح صحيح حل له وطؤها لا يرد عليه الحائض والمحرمة ، هذا زبدة ما في أكثر الشروح . وأجاب عنه صاحب [ ص: 5 ] العناية بوجه آخر حيث قال : والذمي جاز له توكيل المسلم والممتنع توكل المسلم عنه ، وليس كلامنا في ذلك لجواز أن يمنع مانع عن التوكل وإن صح التوكيل ، وقد وجد المانع وهو حرمة اقترابه منها انتهى . وقال بعض الفضلاء : هذا على تقدير صحته يكون جوابا عن النقض بالاستقراض أيضا ، إلا أنه لما كان مخالفا لما سيجيء من المصنف من أن التوكيل بالاستقراض باطل لم يذكره الشارح في معرض الجواب ، ولم يجب بما أجاب به غيره من الشراح لذلك أيضا انتهى . أقول : ليس هذا بسديد ، أما أولا فلأن ما ذكره صاحب العناية هاهنا لا يكاد يكون جوابا عن النقض بالاستقراض ; لأن المانع هناك في نفس التوكيل وهو بطلان الأمر بالتصرف في ملك الغير ، والمانع هاهنا على رأيه إنما هو حق التوكل وهو حرمة اقتراب المسلم من الخمر فأين هذا من ذاك .

وأما ثانيا فلأنه لا معنى لقوله ولم يجب بما أجاب به غيره من الشراح على ما ذكرناه من قبل وليس فيه شيء مناف لما سيجيء من المصنف رحمه الله من أن التوكيل بالاستقراض باطل كما لا يخفى على الفطن ، فلا وجه لدرج قوله المذكور في حيز جواب لما في قوله إلا أنه لما كان مخالفا لما سيجيء من المصنف إلخ . ثم قال ذلك القائل : بقي فيه بحث ، إذ التوكيل والتوكل كالكسر والانكسار ، ثم ليت شعري ما معنى جوازه انتهى . أقول : هذا ساقط جدا ، إذ لا يذهب على ذي مسكة أن الانكسار مطاوع الكسر فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر ، بخلاف التوكيل والتوكل ، فإن التوكيل تفويض الأمر إلى الغير ، والتوكل قبول الوكالة على ما صرحوا به ، ولا شك في جواز تحقق الأول بدون الثاني ، ثم لا ينبغي أن يتوهم لزوم مطاوع لكل فعل متعد ، ألا يرى إلى صحة قولك خيرته فلم يختر ، وصحة قولك نبهته فلم يتنبه وما أشبههما ، فمن ذلك قولك وكلته فلم يتوكل فلا إشكال أصلا .



قال المصنف رحمه الله في تعليل جواز الوكالة فيما ذكره ( لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال ) بأن كان مريضا أو شيخا فانيا أو رجلا ذا وجاهة لا يتولى الأمور بنفسه ( فيحتاج إلى أن يوكل غيره ) فلو لم يجز التوكيل لزم الحرج وهو منتف بالنص ( فيكون ) أي الإنسان ( بسبيل منه ) أي من التوكيل ( دفعا لحاجته ) ونفيا للحرج . واعترض على هذا بأنه دليل أخص من المدلول وهو جواز الوكالة فإنها جائزة وإن لم يكن ثمة عجز أصلا . وأجيب بأن ذلك بيان حكمة الحكم وهي تراعى في الجنس لا في الأفراد . قال صاحب العناية بعد ذكر ذلك الاعتراض مع جوابه المزبور : ويجوز أن يقال ذكر الخاص وأراد العام ، وهو الحاجة ; لأن الحاجة للعجز حاجة خاصة وهو مجاز شائع ، وحينئذ يكون المناط هو الحاجة وقد توجد بلا عجز انتهى .

أقول : وجود الحاجة بدون العجز في باب الوكالة ممنوع ، فإنهم صرحوا ومنهم الشارح ابن الهمام بأن الوكالة أبدا إما للعجز وإما للترفه ، والظاهر أن ليس في صورة الترفه حاجة فتأمل ( وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل بالشراء ) أي بشراء الأضحية ( حكيم بن حزام ) ويكنى أبا خالد . ولد قبل الفيل بثلاث عشرة سنة أو باثنتي عشرة سنة على اختلاف الروايتين ، أسلم يوم الفتح وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما ، وكان من وجوه قريش وأشرافها ، وعاش في الجاهلية ستين سنة وفي الإسلام ستين سنة ، ومات بالمدينة في خلافة معاوية رضي الله عنه سنة أربع وخمسين وهو ابن مائة وعشرين سنة ، كذا ذكره ابن شاهين في كتاب المعجم .

وقال الكرخي في أول كتاب الوكالة في مختصره : حدثنا إبراهيم بن موسى الجوزي قال : حدثنا يعقوب الدورقي قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبزى عن سفيان عن أبي حصين عن شيخ من أهل المدينة { عن حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا يشتري له به أضحية ، فاشترى له أضحية بدينار فباعها بدينارين ، ثم اشترى أضحية بدينار فجاءه بدينار وأضحية ، فتصدق النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار ودعا له بالبركة } ( وبالتزويج عمر بن أم سلمة ) أي وكله بتزويج أمه أم سلمة من النبي صلى الله عليه وسلم كذا في الشروح . قال صاحب غاية البيان : ولنا في توكيل عمر بن أم سلمة نظر ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة بعد وقعة بدر في سنة اثنتين ، كذا قال أبو عبيدة معمر بن المثنى ، وكان عمر بن أبي سلمة يوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين ، قاله الواقدي . ويكون على هذا الحساب سن عمر بن أم سلمة يوم تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمه سنة واحدة فكيف يوكله رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو طفل لا يعقل ؟ انتهى . وقد سبقه إلى هذا النظر ابن الجوزي حيث قال : في هذا الحديث نظر ; لأن عمر بن أم سلمة كان له من العمر يوم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ، وكيف يقال لمثل هذا زوج . بيانه أنه عليه الصلاة والسلام [ ص: 6 ] تزوجها في سنة أربع ، ومات عليه الصلاة والسلام ولعمر تسع سنين انتهى . وقال ابن عبد الهادي صاحب التنقيح : قوله إنه عليه الصلاة والسلام مات ولعمر تسع سنين بعيد وإن كان قد قاله الكلاباذي وغيره . وقال : قال ابن عبد البر : إنه ولد في السنة الثانية من الهجرة إلى الحبشة . ويقوي هذا ما أخرجه مسلم في صحيحه { عن عمر بن أم سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال عليه الصلاة والسلام : سل هذه ، فأخبرته أمه أم سلمة أنه عليه الصلاة والسلام يصنع ذلك ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال صلى الله عليه وسلم : أما والله إني لأتقاكم لله تعالى وأخشاكم } وظاهر هذا أنه كان كبيرا .

وأقول : ظاهر قول المصنف رحمه الله وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل إلخ يدل على أن المراد به ذكر الدليل النقلي على قوله كل عقد جاز أن يعقده الإنسان بنفسه جاز أن يوكل به غيره بعد أن ذكر دليلا عقليا عليه ، فيتجه على ذلك أن توكيل النبي صلى الله عليه وسلم في المادتين المخصوصتين لا يدل على ما في الدعوى المذكورة من الكلية ، فلعل الوجه أن يكون المراد به مجرد تأييد ما تقدم من التعليل العقلي الذي مبناه دفع الحاجة بوقوع التوكيل عند الحاجة من النبي صلى الله عليه وسلم لا إقامة دليل مستقل على دعوى الكلية السابقة ، وكأنه عن هذا قال : وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل إلخ ، ولم يقل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وكل إلخ



( قال ) أي القدوري رحمه الله تعالى في مختصره : ( وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق ) أي في جميعها ( لما قدمنا من الحاجة ) يشير إلى قوله ; لأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه على اعتبار بعض الأحوال فيحتاج إلى أن يوكل غيره ( إذ ليس كل أحد يهتدي إلى وجوه الخصومات ) تعليل لجريان ما قدمه هاهنا . قال صاحب غاية البيان : أما التوكيل بالخصومة في سائر الحقوق فإنما جاز لما روينا قبل هذا { أن النبي صلى الله عليه وسلم وكل في الشراء } ، فإذا جاز التوكيل فيه جاز في غيره ; لأن كل عقد يجوز أن يتولاه الموكل بنفسه جاز أن يوكل غيره كالبيع ، ولأن الإنسان قد يعجز عن المباشرة بنفسه فجاز أن يوكل غيره ، وهو المراد من قوله لما قدمنا انتهى . أقول : تعليله الثاني الذي هو مراد المصنف رحمه الله بقوله لما قدمنا صحيح لا ريب فيه ، وأما تعليله الأول فغير صحيح ; لأن الكلام هاهنا في التوكيل بالخصومات لا في التوكيل في العقود ، وما ذكره في تعليله الأول إنما يتمشى في العقود دون الخصومات ، ولذلك قال المصنف رحمه الله ( وقد صح أن عليا رضي الله تعالى عنه وكل عقيلا ) أي وكله في الخصومات ، وإنما كان يختار عقيلا ; لأنه كان ذكيا حاضر الجواب ; حتى حكي أن عليا رضي الله عنه استقبله يوما ومعه عنز فقال علي رضي الله عنه على سبيل الدعابة أحد الثلاثة أحمق ، فقال عقيل : أما أنا وعنزي فعاقلان ( وبعدما أسن عقيل وكل عبد الله بن جعفر ) الطيار رضي الله تعالى عنه ، إما ; لأنه وقر عقيلا رضي الله عنه لكبر سنه ، أو لأنه انتقص ذهنه فوكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنه وكان شابا ذكيا ، كذا في المبسوط .

أخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر قال : كان علي رضي الله عنه يكره الخصومة ، وكان إذا كانت له خصومة وكل فيها عقيل بن أبي طالب فلما كبر عقيل وكلني . وأخرج عن علي رضي الله عنه أنه كان وكل عبد الله بن جعفر بالخصومة . وقال الخصاف في أدب القاضي : حدثنا معاذ بن أسد الخراساني قال : حدثنا عبد الله بن المبارك عن محمد بن إسحاق عن جهم بن أبي الجهم عن عبد الله بن جعفر أن عليا رضي الله عنه كان لا يحضر الخصومة وكان يقول : إن لها قحما تحضرها الشياطين ، فجعل علي رضي الله عنه الخصومة إلى عقيل ، فلما كبر ورق حولها إلي ، فكان علي رضي الله عنه يقول : ما قضي لوكيلي فلي وما قضي على وكيلي فعلي انتهى . وقال الزمخشري في الفائق : إن عليا رضي الله عنه وكل أخاه عقيلا بالخصومة ، ثم وكل بعده عبد الله بن جعفر رضي الله عنه ، وكان لا يحضر الخصومة ويقول : إن لها لقحما ، وإن الشياطين تحضرها : أي مهالك وشدائد . وقحم الطريق ما صعب منه وشق على سالكه انتهى . وفي هذا الحديث دليل على جواز التوكيل بالخصومة . وفيه دليل أيضا على أن لا يحضر مجلس الخصومة بنفسه ، وهو مذهبنا ومذهب عامة العلماء لصنع علي رضي الله عنه .

وقال بعض العلماء : الأولى أن يحضر بنفسه ; لأن الامتناع من الحضور إلى مجلس القاضي من علامات المنافقين ، وقد ورد الذم على ذلك ، قال الله تعالى { وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } ، { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } وجوابه أن تأويل الآية الرد من المنافق والإجابة من المؤمن اعتقادا ، كذا في شرح أدب القاضي . وذكر في [ ص: 7 ] غاية البيان



( وكذا بإيفائها واستيفائها ) أي وكذا تجوز الوكالة بإيفاء الحقوق واستيفائها لما مر من دفع الحاجة ( إلا في الحدود والقصاص فإن الوكالة لا تصح باستيفائها ) أي باستيفاء الحدود والقصاص ( مع غيبة الموكل عن المجلس ) وأما الوكالة بإيفاء الحدود والقصاص فعدم صحتها مطلقا : أي مع غيبة الموكل ومع حضوره أمر بين ; لأن إيفاءها إنما يكون بتسليم النفس أو البدن لإقامة العقوبة الواجبة ، وهذا لا يصح إلا من الجاني ، إذ إقامة العقوبة على غير الجاني ظلم صريح . فلذلك اكتفى المصنف رحمه الله بنفي صحة الوكالة باستيفائها مع غيبة الموكل ، وقال في تعليله ( لأنها ) أي الحدود والقصاص ( تندرئ بالشبهات ) فلا تستوفى بمن يقوم مقام الغير لما في ذلك من ضرب شبهة كما في كتاب القاضي إلى القاضي والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال ( وشبهة العفو ثابتة حال غيبته ) أي غيبة الموكل ، وهذا الوجه مخصوص بالقصاص ، إذ الحدود لا يعفى عنها ، فالمراد أن في القصاص ثبوت شبهة أخرى حال غيبة الموكل وهي شبهة العفو لجواز أن يكون الموكل قد عفا ولم يشعر به الوكيل ( بل هو الظاهر ) أي بل العفو هو الظاهر ( للندب الشرعي ) لقوله { وأن تعفوا أقرب للتقوى } وفي القصاص خلاف الشافعي رحمه الله فإنه يقول : هو خالص حق العبد فيستوفى بالتوكيل كسائر حقوقه دفعا للضرر عن نفسه ، ولكنا نقول : هذه عقوبة تندرئ بالشبهات ، بخلاف سائر حقوقه فافترقا ( بخلاف غيبة الشاهد ) حيث يستوفي الحدود والقصاص عند غيبته ( لأن الظاهر عدم الرجوع ) يعني أن الشبهة في حق الشاهد هي الرجوع والظاهر في حقه عدم الرجوع ، إذ الصدق هو الأصل لا سيما في العدول فلم يعتبر مثل هاتيك الشبهة .

أقول : يرد عليه أن الرجم من الحدود ولا يستوفى عند غيبة الشهود في ظاهر الرواية كما مر في كتاب الحدود ، ويقتضي ذلك اعتبار شبهة الرجوع في حق الشهود هناك ، اللهم إلا أن يقال : عدم استيفاء الحد إذ ذاك لفوات الشرط وهو بداءة الشهود بالرجم لا بمجرد شبهة الرجوع فتأمل ( وبخلاف حالة الحضرة ) أي حضرة الموكل في المجلس حيث يستوفى ذلك عندها ( لانتفاء هذه الشبهة ) أي شبهة العفو ، فإن العفو عند حضور الموكل مما لا يخفى فلا شبهة ، أقول : لقائل أن يقول إن انتفاء الشبهة المعينة لا يقتضي انتفاء الشبهة مطلقا ، والحدود والقصاص تندرئ بمطلق الشبهات فلا يتم التقريب على أن شبهة العفو مخصوصة بالقصاص ، فلم يظهر الفرق بين الحضرة والغيبة في استيفاء الحدود أصلا . ولما استشعر أن يقال إذا كان الموكل حاضرا لم يحتج إلى التوكيل بالاستيفاء رأسا إذ هو يستوفيه بنفسه أجاب بقوله ( وليس كل أحد يحسن الاستيفاء ) إما لقلة هدايته ، أو لأن قلبه لا يتحمل ذلك ( فلو منع عنه ) أي عن التوكيل بالاستيفاء ( ينسد باب الاستيفاء أصلا ) أي ينسد بابه بالنسبة إليه بالكلية فجاز التوكيل بالاستيفاء عند حضوره استحسانا لئلا ينسد بابه .

قال المصنف رحمه الله ( وهذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله ) وقال جمهور الشراح في تفسير كلام المصنف : هذا أي جواز التوكيل بإثبات الحدود والقصاص قول أبي حنيفة رحمه الله . وقالوا في توجيه تفسيرهم إياه بهذا المعنى : لأنه لما قال وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق : أي جميعها وبإيفائها واستيفائها ، واستثنى إيفاء الحدود والقصاص واستيفاءها بقيت الخصومة بالحدود والقصاص داخلة في قوله بالخصومة في سائر الحقوق فقال : هذا الذي ذكرناه قول أبي حنيفة رحمه الله . أقول : لا يذهب على ذي فطرة سليمة أن هذا الذي ارتكبوه في حل كلام المصنف رحمه الله هاهنا تكلف بارد وتعسف شارد ، حيث جعلوا البعض الغير المعين في الكلام السابق بل الداخل في مجرد كليته مشارا إليه بلفظ هذا الذي يشار به إلى المحسوس المشاهد ، أو إلى ما هو بمنزلة المحسوس المشاهد . ثم إن هاهنا لمندوحة عن ذلك بحمل كلام المصنف رحمه الله على معنى ظاهر منه ، وهو أن هذا الذي ذكرناه صريحا فيما مر آنفا من قولنا وتجوز الوكالة بالخصومة في سائر الحقوق قول أبي حنيفة رحمه الله .

( وقال أبو يوسف رحمه الله : لا تجوز الوكالة بإثبات الحدود والقصاص بإقامة الشهود أيضا ) أي قال أبو يوسف رحمه الله : لا تجوز الوكالة بالخصومة في بعض من تلك الحقوق وهو إثبات الحدود والقصاص أيضا : أي كما لا تجوز الوكالة بإيفاء الحدود والقصاص واستيفائها بالاتفاق . ( وقول محمد مع أبي حنيفة رحمهما الله تعالى ، وقيل مع أبي يوسف رحمه الله ) يعني أن قول محمد مضطرب يذكر تارة مع أبي حنيفة وتارة مع أبي يوسف ، ولكن الظاهر من تحرير المصنف ترجيح الأول كما لا يخفى على الفطن . قال في الكافي بعد قوله وقول محمد مضطرب : والأظهر أنه مع أبي حنيفة ( وقيل هذا الاختلاف ) بين أبي حنيفة وأبي يوسف ( في غيبته ) أي [ ص: 8 ] غيبة الموكل ( دون حضرته ) أي هو جائز في حضرته بالاتفاق ( لأن كلام الوكيل ينتقل إلى الموكل عند حضوره ) فصار كأنه متكلم بنفسه . ( له ) أي لأبي يوسف رحمه الله تعالى ( أن التوكيل إنابة ) والإنابة فيها شبهة لا محالة ( وشبهة النيابة يتحرز عنها في هذا الباب ) أي في باب الحدود والقصاص ; لأنه مما يندرئ بالشبهات ( كما في الشهادة على الشهادة ) أي كالشبهة التي في الشهادة على الشهادة حتى لا يثبت بها الحدود والقصاص بالاتفاق ، كما لا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بكتاب القاضي إلى القاضي ( وكما في الاستيفاء ) أي وكالشبهة التي في التوكيل باستيفاء الحدود والقصاص عند غيبة الموكل فإنها مانعة لصحة التوكيل بالاتفاق ( ولأبي حنيفة رحمه الله أن الخصومة شرط محض ) أي لا حظ لها في الوجوب ولا في الظهور ( لأن الوجوب مضاف إلى الجناية والظهور إلى الشهادة ) والشرط المحض حق من الحقوق يجوز للموكل مباشرته بنفسه ( فيجري فيه التوكيل كما في سائر الحقوق ) أي باقيها لقيام المقتضى وانتفاء المانع . لا يقال : المانع موجود وهو الشبهة كما في الاستيفاء والشهادة على الشهادة على ما مر ; لأنا نقول : الشبهة في الشرط لا تصلح للمنع ، إذ لا يتعلق به الوجوب ولا الوجود ولا الظهور ، بخلاف الاستيفاء فإنه يتعلق به الوجود بخلاف الشهادة على الشهادة فإنها يتعلق بها الظهور ( وعلى هذا خلاف ) المذكور



( التوكيل بالجواب من جانب من عليه ) أي من جهة من عليه ( الحد ) أو القصاص ; فأجازه أبو حنيفة ومنعه أبو يوسف وقول محمد مضطرب . قال المصنف ( وكلام أبي حنيفة فيه ) أي في التوكيل بالجواب ( أظهر ; لأن الشبهة لا تمنع الدفع ) يعني أن التوكيل بالجواب إنما يكون للدفع ، ودفع الحدود والقصاص يثبت بالشبهات حتى يثبت العفو عن القصاص بالشهادة على الشهادة وبشهادة النساء مع الرجال ، فالشبهة التي ذكرت في دليل أبي يوسف رحمه الله على تقدير كونها معتبرة لا تمنع هاهنا ( غير أن إقرار الوكيل غير مقبول عليه ) أي على موكله : يعني لو أقر الوكيل في مجلس القضاء بوجوب الحد والقصاص على موكله لم يقبل إقراره استحسانا ( لما فيه ) أي لما في إقراره ( من شبهة عدم الأمر به ) فلم يعتبر فيما يندرئ بالشبهات . والقياس أن يقبل إقراره لقيامه مقام موكله بعد صحة التوكيل كما في الإقرار بسائر الحقوق . ووجه الاستحسان ما ذكره المصنف رحمه الله . وتوضيحه أنا حملنا التوكيل بالخصومة على الجواب ; لأن جواب الخصم من الخصومة ، ولكن هذا نوع من المجاز ، فأما في الحقيقة فالإقرار ضد الخصومة ، والمجاز وإن اعتبر لقيام الدليل فالحقيقة شبهة معتبرة فيما يندرئ بالشبهات دون ما يثبت مع الشبهات . كذا في المبسوط ، وذكر في كثير من الشروح .

واعلم أن جواز التوكيل بإثبات الحدود عند من جوزه إنما هو في حد القذف وحد السرقة . وأما التوكيل بإثبات حد الزنا وحد الشرب فلا يصح اتفاقا ; لأنه لا حق فيهما لأحد من العباد ، وإنما تقام البينة على وجه الحسبة ، فإذا كان أجنبيا عنه لا يصح توكيله به ، نص عليه في الكافي والتبيين



( وقال أبو حنيفة : لا يجوز التوكيل بالخصومة ) سواء كان التوكيل من قبل الطالب أو من قبل المطلوب ( بغير رضا الخصم ) ويستوي فيه الشريف والوضيع والرجل والمرأة والبكر والثيب ، كذا في الشروح والفتاوى ( إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا ) يعني إلا أن يكون الموكل معذورا بعذر المرض أو السفر فحينئذ يجوز التوكيل بالخصومة بدون رضا الخصم عنده أيضا ( وقالا ) أي أبو يوسف ومحمد ( يجوز التوكيل بغير رضا الخصم ) أي يجوز ذلك عندهما في جميع الأحوال سواء رضي الخصم أم لا ، وسواء كان الموكل معذورا أم لا ، وكان أبو يوسف يقول : أو لا يقبل ذلك من النساء دون الرجال ، ثم رجع عن ذلك وقال : يقبل من النساء والرجال جميعا ( وهو قول الشافعي رحمه الله ) أيضا ، وفي الخلاصة : والفقيه أبو الليث يفتي بقولهما .

وفي فتاوى قاضي خان . وبه أخذ أبو القاسم الصفار . وقال : شمس الأئمة السرخسي : الصحيح عندي أن القاضي إذا علم بالمدعي التعنت في إباء الوكيل يقبل التوكيل ولا يلتفت إليه ، وإن علم من الموكل القصد إلى الإضرار بالمدعي ليشتغل الوكيل بالحيل والأباطيل والتلبيس لا يقبل منه التوكيل .

وذكر شمس الأئمة الحلواني أن ذلك يفوض إلى رأي القاضي ، وهذا قريب من الأول انتهى . قال المصنف رحمه الله ( ولا خلاف في الجواز ) أي لا خلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه والشافعي رحمهم الله في الجواز ، حتى إذا وكل فرضي الخصم لا يحتاج في سماع خصومة الوكيل إلى تجديد وكالة ( إنما الخلاف في اللزوم ) معناه إذا وكل من غير رضا الخصم هل يرتد برده أم لا ؟ عنده يرتد خلافا لهم ، فعلى هذا التأويل يكون معنى قول القدوري . قال أبو حنيفة : لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا [ ص: 9 ] برضا الخصم : أي لا يلزم ذكر الجواز ، وأراد اللزوم ; لأن الجواز من لوازم اللزوم فيجوز ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، كذا في الشروح . وقد تصرف فيه صاحب العناية تحريرا وإيرادا حيث قال : فعلى هذا يكون قوله لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم مجازا لقوله ولا يلزم ذكر الجواز ، وأراد اللزوم فإن الجواز لازم اللزوم فيكون من ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وقال : فيه نظر ; لأنا لا نسلم أن الجواز لازم اللزوم عرف ذلك في أصول الفقه . سلمنا لكن ذلك ليس بمجاز انتهى .

أقول : الظاهر أن مراده بقوله لكن ذلك ليس بمجاز الرد على قوله مجازا بأن ما ذكره ليس من قبيل المجاز بل هو من قبيل الكناية بناء على ما ذهب إليه الكاكي من أن الانتقال في المجاز من الملزوم إلى اللازم ، وفي الكناية من اللازم إلى الملزوم لكنه ليس بشيء . أما أولا فلأن لفظ المجاز لم يذكر في تحرير غيره من الشراح ولا يتوقف عليه صحة التأويل المذكور فإنه يصح سواء كان بطريق المجاز أو بطريق الكناية فكان مدار رده المزبور على لفظ زاده من عند نفسه في بيان التأويل المذكور . وأما ثانيا فلأنهم حققوا أن الانتقال في المجاز والكناية كليهما من الملزوم إلى اللازم . وردوا ما ذهب إليه الكاكي بأن اللازم ما لم يكن ملزوما لم ينتقل منه إلى الملزوم ، وجعلوا العمدة في الفرق بينهما جواز إرادة المعنى الموضوع له وعدم جوازها ، فحينئذ يجوز أن يجعل لفظ يجوز فيما نحن فيه مجازا عن معنى يلزم بلا محذور أصلا .

ثم قال صاحب العناية : والحق أن قوله لا يجوز له التوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم في قوة قولنا : التوكيل بالخصومة غير لازم ، بل إن رضي به الخصم وإلا فلا فلا حاجة إلى قوله ولا خلاف في الجواز وإلى التوجيه بجعله مجازا انتهى . أقول : لا يخفى على الفطن أن هذا كلام خال عن التحصيل ; لأنه إن أراد بقوله إن قوله لا يجوز التوكيل بالخصومة إلا برضا الخصم في قوة قولنا التوكيل بالخصومة غير لازم أن معنى الأول من حيث الحقيقة هو معنى الثاني بعينه ، وليس كذلك إذ لا شك أن معنى الجواز من حيث الحقيقة يغاير معنى اللزوم ، فنفي الأول يغاير نفي الثاني قطعا ، وإن أراد بذلك أن الثاني هو المراد من الأول مجازا أو كناية فلا وجه لقوله فلا حاجة إلى قوله ولا خلاف في الجواز ، فإن المتبادر من الألفاظ معانيها الحقيقية فيتبادر إلى ذهن الناظر في مسألتنا هذه أن يكون الخلاف المذكور في نفس الجواز ، فدفع المصنف ذلك بقوله ولا خلاف في الجواز إنما الخلاف في اللزوم فهذا الكلام لا غبار عليه . ثم اعلم أن المصنف رحمه الله ليس بأول من حمل الخلاف المذكور على اللزوم ، بل سبقه إلى ذلك كثير من المشايخ منهم الإمام شمس الأئمة السرخسي حيث قال في شرح أدب القاضي : إن التوكيل عند أبي حنيفة بغير رضا الخصم صحيح ، ولكن للخصم أن يطالب الموكل بأن يحضر بنفسه ويجيب ، ومنهم الإمام علاء الدين العالم حيث قال في طريقة الخلاف : التوكيل بغير رضا الخصم لا يقع لازما . وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله : يقع لازما . وذكر في المحيط البرهاني أن رضا الخصم ليس بشرط لصحة التوكيل ولزومه عند أبي يوسف ومحمد .

وقد اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة . بعضهم قالوا : رضا الخصم عنده ليس بشرط صحة التوكيل بل هو شرط لزومه ، وقال بعضهم : لا بل رضا الخصم عنده شرط صحة التوكيل ، وإنما اختلفوا باختلاف ألفاظ الكتاب . ذكر في شفعة الأصل أن التوكيل بغير رضا الخصم باطل في قول أبي حنيفة رحمه الله ، وذكر في وكالة الأصل : لا يقبل التوكيل بغير رضا الخصم عند أبي حنيفة . والصحيح أن التوكيل عنده صحيح غير لازم حتى لا يلزم الخصم الحضور . والجواب لخصومة الوكيل إلا أن يكون الموكل مريضا مرضا لا يمكنه الحضور بنفسه مجلس الحكم ، أو غائبا مسيرة سفر فحينئذ يلزم عنده انتهى .

وهكذا ذكر في الذخيرة أيضا ( لهما ) أي لأبي يوسف ومحمد ( أن التوكيل تصرف في خالص حقه ) أي في خالص حق الموكل ، وهذا ; لأنه إما أن يوكله بالخصومة أو بالجواب وكلاهما من خالص حقه . أما الخصومة فلأنها الدعوى وهي خالص حق المدعي حتى لا يجبر عليها . وأما الجواب فلأنه إما إنكار أو إقرار ، وكل واحد منهما خالص حق المدعى عليه ، وإذا كان كذلك ( فلا يتوقف على رضا غيره ) فصار ( كالتوكيل بتقاضي الديون ) وقبضها وإيفائها ( وله ) أي لأبي حنيفة رحمه الله ( أن الجواب مستحق على الخصم ) يعني أن الجواب حق واجب للمدعي على المدعى عليه ( ولهذا يستحضره ) أي يستحضر المدعي الخصم في مجلس القاضي قبل أن يثبت له عليه شيء ليجيبه عما يدعيه عليه ، وغاية ما في الباب أن يكون التوكيل تصرفا في خالص حق الموكل ، لكن تصرف الإنسان في خالص حقه إنما ينفذ إذا لم يتعد إلى الإضرار بالغير ( و ) هاهنا ليس كذلك ، إذ لا شك أن ( الناس [ ص: 10 ] متفاوتون في الخصومة ) أي من جهة الدعوى والإثبات ، ومن جهة الدفع والجواب . فرب إنسان يصور الباطل في صورة الحق ، ورب إنسان لا يمكنه تمشية الحق على وجهه ، وقد دل عليه قوله عليه الصلاة والسلام { إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض . فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار } ذكره في أدب القاضي والأسرار ، ومعلوم أنه لا يوكل عادة إلا من هو ألد وأشد في الخصومات ليغلب على الخصم ( فلو قلنا بلزومه ) أي بلزوم التوكيل بالخصومة بلا رضا الخصم ( يتضرر به ) أي يتضرر الخصم به ( فيتوقف على رضاه ) فصار ( كالعبد المشترك إذا كاتبه أحدهما ) أي أحد الشريكين ( يتخير الآخر ) أي يتخير الشريك الآخر بين إمضاء الكتابة وفسخها ، فكان تصرف أحدهما متوقفا على رضا الآخر ، وإن كان تصرفا في خالص حقه لمكان ضرر شريكه .

قال صاحب النهاية في شرح الدليل المذكور من قبل أبي حنيفة رحمه الله : ومعنى هذا الكلام أن الحضور والجواب مستحق عليه بدليل أن القاضي يقطعه عن أشغاله ويحضره ليجيب خصمه ، والناس يتفاوتون في هذا الجواب ; فرب إنكار يكون أشد دفعا للمدعي من إنكار . والظاهر أن الموكل إنما يطلب من الوكيل ذلك الأشد ، فإن الناس إنما يقصدون بهذا التوكيل أن يشتغل الوكيل بالحيل والأباطيل ليدفع حق الخصم عن الموكل وفيه إضرار بالخصم ، وأكثر ما في هذا الباب أن يكون توكيله بما هو من خالص حقه ، ولكن لما كان يتصل به ضرر بالغير من الوجه الذي قلنا لا يملك بدون رضاه انتهى . كلامه .

وعلى هذا المنوال سبق الدليل المزبور في الكافي ومعراج الدراية أيضا . أقول : فيه نظر ; لأن أصل هذه المسألة عام لصورة التوكيل من جانب المدعي ، ولصورة التوكيل من جانب المدعى عليه كما أفصح عنه الشراح قاطبة في صدر هذه المسألة وصرح به في عامة كتب الفتاوى أيضا . وفي تقرير الدليل المزبور على الوجه الذي ذكره هؤلاء الشراح تخصيص ذلك بصورة التوكيل من جانب المدعى عليه كما ترى فكان تقصيرا منهم لتحمله التقرير بوجه يعم الصورتين معا كما ذكرناه في شرحنا . وقال صاحب العناية في شرح هذا المقام : ولأبي حنيفة رحمه الله أنا لا نسلم أنه تصرف في خالص حقه ، فإن الجواب مستحق على الخصم ولهذا يستحضره في مجلس القاضي ، والمستحق للغير لا يكون خالصا له . سلمنا خلوصه له لكن تصرف الإنسان في خالص حقه إنما يصح إذا لم يتضرر به غيره ، وها هنا ليس كذلك ; لأن الناس يتفاوتون في الخصومة ، فلو قلنا بلزومه لتضرر به فيتوقف على رضاه انتهى . أقول : فيه أيضا نظر ; لأنه جعل ما ذكر في الكتاب من قبل أبي حنيفة دليلين :

أحدهما : منعي لما قالاه ، والآخر : تسليمي له ، فيرد حينئذ على الدليل الأول ما يرد على تقرير صاحب النهاية وغيره من كون الدليل مخصوصا بإحدى صورتي المسألة العامة المدعاة تأمل تقف .

فالوجه أن يجعل المجموع دليلا واحدا ويقرر بوجه يعم الصورتين معا كما فعلناه في شرحنا ، لكن الإنصاف أن تأثير المقدمة القائلة إن الجواب مستحق على الخصم إنما هو في صورة التوكيل من جانب المدعى عليه كما لا يخفى على الفطن المتأمل ( بخلاف المريض والمسافر ) متصل بقوله إلا أن يكون الموكل مريضا أو غائبا ، والمراد بيان وجه مخالفة المستثنى للمستثنى منه وذلك ( لأن الجواب غير مستحق ) أي غير واجب ( عليهما ) أي على المريض والمسافر ( هنالك ) أي فيما إذا كان الموكل مريضا أو مسافرا لعجز المريض بالمرض وعجز المسافر بالغيبة ، فلو لم يسقط عنهما الجواب لزم الحرج وهو منتف بالنص ، قال الله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أقول : هاهنا شيء ، وهو أن ما ذكره المصنف من الفرق إنما ينفذ في صورة إن كان التوكيل من جانب المدعى عليه ، وأما في صورة إن كان من جانب المدعي فلا ; لأن الجواب غير مستحق على المدعي سواء كان صحيحا مقيما أو مريضا مسافرا ، فإن الجواب إنما يجب على من يجبر على الخصومة لا على من لا يجبر عليها ، مع أن المسألة عامة للصورتين معا كما تحققته ، فكان ينبغي أن يزاد عليه أن يقال : إن توقع الضرر اللازم بالمرض والسفر من الموت وآفات التأخير أشد من الضرر اللازم بتفاوت الناس في الخصومة فيتحمل الأدنى دون الأعلى .

وفي فتاوى قاضي خان : وأجمعوا على أن الموكل لو كان غائبا أدنى مدة السفر أو كان مريضا في المصر لا يقدر أن يمشي على قدميه إلى باب القاضي كان له أن يوكل مدعيا كان أو مدعى عليه ، وإن كان لا يستطيع أن يمشي على قدميه ولكنه يستطيع أن يمشي على ظهر دابة أو ظهر إنسان ، فإن ازداد مرضه بذلك صح التوكيل ، وإن كان لا يزداد اختلفوا فيه ، قال بعضهم : هو على الخلاف أيضا ، وقال بعضهم : له أن يوكل وهو الصحيح انتهى ( ثم كما يلزم التوكيل [ ص: 11 ] عنده ) أي عند أبي حنيفة ( من المسافر يلزم إذا أراد السفر لتحقق الضرورة ) إذ لو لم يلزم يلحقه الحرج بالانقطاع عن مصالحه . وفي فتاوى قاضي خان : وكما يجوز للمسافر أدنى مدة السفر أن يوكل بغير رضا الخصم يجوز لمن أراد أن يخرج إلى السفر لكن لا يصدق أنه يريد السفر ، ولكن القاضي ينظر إلى زيه وعدة سفره أو يسأل عمن يريد أن يخرج معه فيسأل عن رفقائه كما في فسخ الإجارة انتهى



( ولو كانت المرأة مخدرة ) اختلفت عبارات المشايخ في تفسير المخدرة ; فقال بعضهم : هي التي لم تجر عادتها بالبروز وحضور المجلس القاضي . وقال الإمام البزدوي : هي التي لا يراها غير المحارم ، وأما التي جلست على المنصة فرآها الأجانب لا تكون مخدرة ، فاختار المصنف التفسير الأول حيث قال ( لم تجر عادتها بالبروز وحضور مجلس الحاكم ) فإن هذا صفة كاشفة لمخدرة جارية مجرى التفسير لها ( قال الرازي ) أراد به الإمام أبا بكر الجصاص أحمد بن علي الرازي صاحب التصانيف الكثيرة في الأصول والفروع وأحكام القرآن ، وإليه انتهت رياسة أصحاب أبي حنيفة ببغداد بعد الشيخ أبي الحسن الكرخي ، وكانت ولادته سنة خمس وثلثمائة ومات سنة سبعين وثلثمائة ( يلزم التوكيل ) أي يلزم التوكيل منها بلا رضا الخصم وبدون عذر المرض والسفر ( لأنها لو حضرت لا يمكنها أن تنطق بحقها لحيائها فيلزم توكيلها ) دفعا للحرج ، فلو وكلت بالخصومة فوجب عليها اليمين وهي لا تعرف بالخروج ومخالطة الرجال في الحوائج يبعث إليها الحاكم ثلاثة من العدول يستحلفها أحدهم ويشهد الآخران على حلفها ، وكذا في المريضة إذا وجب عليها يمين ; لأن النيابة لا تجري في الأيمان ، هكذا ذكر الصدر الشهيد في أدب القاضي ، وذكر فيه وإن كان يبعث إلى المخدرة والمريضة أو إلى المريض خليفة فيفصل الخصومة هنالك يجوز ; لأن مجلس الخليفة كمجلسه كذا في معراج الدراية وغيره ( قال رضي الله عنه ) أي قال المصنف ( وهذا ) أي ما قاله الرازي ( شيء استحسنه المتأخرون ) وفي فتاوى قاضي خان : ويجوز للمرأة المخدرة أن توكل وهي التي لم تخالط الرجال بكرا كانت أو ثيبا ، كذا ذكره أبو بكر الرازي . وقال الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده : ظاهر المذهب عن أبي حنيفة أنها على الاختلاف أيضا ، وعامة المشايخ أخذوا بما ذكره أبو بكر الرازي وعليه الفتوى انتهى



( قال ) أي القدوري في مختصره ( ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ) قيل هذا على قول أبي يوسف ومحمد ، فأما على قول أبي حنيفة فالشرط أن يكون التوكيل حاصلا بما يملكه الوكيل ، فأما كون الموكل مالكا للتصرف فليس بشرط حتى يجوز عنده توكيل المسلم الذمي بشراء الخمر والخنزير وتوكيل المحرم الحلال ببيع الصيد .

وقيل المراد به أن يكون مالكا للتصرف نظرا إلى أصل التصرف وإن امتنع لعارض ، وبيع الخمر يجوز للمسلم في الأصل ، وإنما امتنع بعارض النهي ، كذا في الكافي والكفاية والتبيين . قال صاحب النهاية في تفسير قوله ممن يملك التصرف : أي ممن يملك ذلك التصرف الذي وكل الوكيل به ، وقال : قد ذكرنا في أوائل كتاب الوكالة من رواية الذخيرة أن هذا القيد وقع على قول أبي يوسف ومحمد . وأما على قول أبي حنيفة فمن شرط الوكالة كون التوكيل حاصلا بما يملكه الوكيل ، فأما كون الموكل مالكا لذلك التصرف الذي وكل الوكيل به فليس بشرط ، ثم قال : فإن قلت : يشكل على ما ذكرناه في الكتاب ما ذكره في الذخيرة بقوله وإذا قال الرجل لغيره خذ عبدي هذا وبعه بعبد أو قال اشتر لي به عبدا صح التوكيل بهذا ، وإن لم يصح مباشرة الموكل في مثل هذا التصرف ، فإن من قال لغيره بعتك هذا العبد بعبد أو قال اشتريت منك بهذا العبد عبدا لا يجوز . قلت : إنما جاز ذلك في التوكيل بهذا ولم يجز في مباشرة نفسه لوجود المعنى الفارق بينهما وهو أن الجهالة إنما تمنع عن الجواز لإفضائها إلى المنازعة .

وأما إذا لم تؤد إليها فلا تمنع كما في بيع قفيز من صبرة طعام أو شرائه ثم جهالة الوصف في التوكيل لا تفضي إلى المنازعة ; لأن التوكيل ليس بأمر لازم ، ولا كذلك المباشرة ; لأنها لازمة فتفضي إلى المنازعة ، والمانع من الصحة المنازعة لا نفس الجهالة انتهى كلامه . أقول : في جوابه بحث ; لأن الفارق المذكور فيه إنما أفاد كمية صحة التوكيل في مسألة الذخيرة وعدم صحة المباشرة بنفسه في مثلها ، وهذا القدر لا يدفع السؤال المذكور بل يقويه ; لأنه حاصله أن ما ذكر في الكتاب من شرط الوكالة غير متحقق في مسألة الذخيرة مع تحقق المشروط فيها . والفارق المذكور يقرر هذا المعنى كما لا يخفى . وقال صاحب العناية : قال صاحب النهاية : إن هذا القيد وقع على قول أبي يوسف ومحمد . وأما على قول أبي حنيفة فمن شرطها أن يكون الوكيل ممن يملك التصرف ; لأن المسلم لا يملك التصرف في الخمر ، ولو وكل به جاز عنده [ ص: 12 ] ومنشأ هذا التوهم أنه جعل اللام في قوله يملك التصرف للعهد : أي لا يملك التصرف الذي وكل به ، وأما إذا جعلت للجنس حتى يكون معناه يملك جنس التصرف احترازا عن الصبي والمجنون فيكون على مذهب الكل ، وهو المراد بدليل قوله ممن يملك التصرف حيث لم يقل أن يكون الموكل يملك التصرف فإن الأنسب لكلمة " من " جنس التصرف انتهى . وأورد بعض الفضلاء على قوله فإن الأنسب لكلمة " من " جنس التصرف ، وأجاب حيث قال : لا يخفى عليك أن مدخول كلمة " من " هو قوله من يملك دون التصرف . والجواب أن مراده أن المالك للتصرف المخصوص لا يتعدد حتى يستقيم إدخال " من " في من يملك انتهى .

أقول : ليس الأمر كما زعمه ، فإنا لا نسلم أن المالك للتصرف المخصوص لا يتعدد ، ألا يرى إلى الحقوق المشتركة مالا كانت أو غيره ، فإن كل واحد من أصحابنا يملك التصرف فيها تصرفا مخصوصا ، وإن وصل مبلغهم في التعدد إلى الألف ، مثلا إذا كانت دار مشتركة بين كثيرين فلا شك أن كل واحد منهم يملك التصرف فيها بسكنى أو غيره . ولئن سلمنا ذلك فلا نسلم عدم استقامة إدخال " من " حينئذ في من يملك ، فإن ذلك إنما يتوهم لو كانت كلمة " من " هاهنا للتبعيض ، وأما إذا كانت للتبيين كما هو الظاهر في المقام فيستقيم جدا كما لا يخفى . ثم إن ما ذكره كله مبني على فهم أن يكون مراد صاحب العناية بكلمة " من " في قوله فإن الأنسب لكلمة " من " جنس التصرف حرف الجر الداخلة على الاسم الموصول . والظاهر أن مراده بها نفس الاسم الموصول بدليل قوله يملك التصرف في قوله حيث لم يقل أن يكون الموكل يملك التصرف . إذ لو كان مدار كلامه زيادة حرف الجر لقال حيث لم يقل أن يكون الموكل من يملك التصرف بحذف حرف الجر فقط ، فوجه الأنسبية حينئذ أن الاسم المذكور من مبهمات المعارف على ما عرف في النحو ومن ألفاظ العام على ما عرف في الأصول ، فيكون المراد به جنس المالك لا الفرد المعين منه ، ولا شك أن الذي يملكه جنس المالك هو جنس التصرف دون التصرف المعهود ، ثم قال ذلك البعض : إن الأنسبية قد فاتت في قوله ويقصده كما لا يخفى .

أقول : هذا أيضا ليس بسديد ، فإن قوله ويقصده وإن لم يكن مقرونا بكلمة من صراحة لكنه مقرون بها حكما فإنه معطوف على ما هو في حيز كلمة من وهو قوله يعقل العقد في قوله ممن يعقل العقد . ولا شك أن المعطوف في حكم المعطوف عليه بالنظر إلى ما قبله على ما تقرر في علم الأدب ، فقد حصلت الأنسبية المذكورة هناك أيضا . ثم إن حمل التصرف في قول القدوري : ومن شرط الوكالة أن يكون الموكل ممن يملك التصرف على جنس التصرف دون التصرف الذي وكل به مما سبق إليه صاحب غاية البيان حيث قال : قيل لا يستقيم هذا الشرط إلا على مذهب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ; لأنه لو كان شرط الوكالة أن يكون الموكل مالكا للتصرف على مذهب أبي حنيفة لم يجز أن يوكل المسلم الذمي ببيع الخمر وشرائها ، وهو جائز على مذهب أبي حنيفة مع أن المسلم لا يملك التصرف بنفسه . فعلم أنه ليس بشرط على مذهبه ، بل الشرط عنده أن يكون الوكيل مالكا لذلك التصرف الذي وكل به .

ثم قال : قلت هذا الشرط الذي شرطه القدوري يستقيم على مذهب الكل ، وإنما خص هذا القائل الاستقامة على مذهبهما ; لأنه لا يدرك كنه كلام القدوري ، إذ مضمون كلامه أن الوكالة لها شرط في الموكل وشرط في الوكيل .

فالأول : أن يكون الموكل ممن يملك التصرف ويلزمه الأحكام .

والثاني : أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد ويقصده ، ومعنى قوله أن يكون ممن يملك التصرف أن يكون له ولاية شرعا في جنس التصرف بأهلية نفسه بأن يكون بالغا عاقلا على وجه يلزمه حكم التصرف ، وهذا المعنى حاصل في توكيل المسلم الذمي في الخمر والخنزير بيعا وشراء ; لأن المسلم الموكل عاقل بالغ له ولاية شرعا في جنس التصرف على وجه يلزمه حكم التصرف فيما تصرف بولايته .

والشرط الآخر وهو أن يعقل العقد ويقصده حاصل في الوكيل أيضا وهو الذمي ; لأنه يعقل معنى البيع والشراء ويقصده ، فصح الشرط إذن على مذهب الكل ، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، إلى هنا كلامه .

ورد عليه الشارح ابن الهمام حيث قال : قيل إنما يستقيم الشرط الأول على قولهما أما على قوله فلا ; لأنه يجيز توكيل المسلم الذمي ببيع خمر وشرائها والمسلم لا يملكه . أجاب بعضهم بأن المراد بملكه التصرف أن يكون له ولاية شرعية في جنس التصرف بأهلية نفسه بأن يكون عاقلا بالغا ، وهذا حاصل في توكيل المسلم الذمي ببيع خمر وشرائها ، ثم حمد الله على ما هداه لذلك ، وهو خطأ إذ يقتضي أن لا يصح توكيل الصبي المأذون لعدم البلوغ وليس بصحيح ، بل إذا وكل الصبي المأذون يصح بعد أن يعقل معنى البيع انتهى كلامه . أقول : ما ذهب إليه [ ص: 13 ] صاحب الغاية هاهنا ليس بمثابة أن يقال له هو خطأ بمجرد ما ذكره ابن الهمام ، فإن الذي يهمه في توجيه المقام هو قوله المراد بملكه التصرف أن يكون له ولاية شرعية في جنس التصرف بأهلية نفسه ، وهذا لا يقتضي أن لا يصح توكيل الصبي المأذون كما لا يخفى على العارف بحكم الصبي المأذون على مذهبنا في فصله .

وأما قوله بأن يكون بالغا عاقلا ففضلة من التوجيه ذكره لبيان أن المقصود بالشرط المذكور هو الاحتراز من المجنون والصبي المحجور . وأما الصبي المأذون فكونه بمنزلة البالغ في عامة التصرفات معلوم في محله فهو في حكم المستثنى ، وعن هذا ترى الفقهاء في كل عقد جعلوا العقل والبلوغ شرطا فيه وقصدوا به الاحتراز عن الصبي والمجنون لم يستثنوا الصبي المأذون عنه صراحة ( وتلزمه الأحكام ) قيل هذا احتراز عن الوكيل فإن الوكيل ممن لا يثبت له حكم تصرفه وهو الملك ; لأن الوكيل بالشراء لا يملك المبيع والوكيل بالبيع لا يملك الثمن فلذلك لا يصح توكيل الوكيل غيره .

وقيل هو احتراز عن الصبي والعبد المحجورين ; فإنهما لو اشتريا شيئا لا يملكانه فلذلك لم يصح توكيلهما ، كذا في أكثر الشروح . قال صاحب غاية البيان للقيل الثاني : وهذا هو الأصح من الأول ولم يبين وجهه .

وقال صاحب العناية : قوله ويلزمه الأحكام يحتمل أحكام ذلك التصرف وجنس الأحكام . فالأول احتراز عن الوكيل إذا وكل فإنه يملك ذلك التصرف دون التوكيل به ; لأنه لم تلزمه الأحكام ، وعلى هذا يكون في الكلام شرطان . والثاني : احتراز عن الصبي والمجنون ويكون ملك التصرف ولزوم الأحكام شرطا واحدا ، وهذا أصح ; لأن الوكيل إذا أذن له بالتوكيل صح ولم يلزمه أحكام ذلك التصرف . فإن قلت : إذا جعلتهما شرطا واحدا لزمك الوكيل فإنه ممن يملك جنس التصرف ويلزمه جنس الأحكام ولا يجوز توكيلهقلت : غلط ; لأن وجود الشرط لا يستلزم وجود المشروط لا سيما مع وجود المانع وهو فوات رأيه انتهى كلامه ( لأن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل ) تعليل لاشتراط ما شرطت الوكالة به : يعني أن الوكيل يملك التصرف من جهة الموكل لكونه نائبا عنه فيكون التوكيل تمليك التصرف وتمليك التصرف ممن لا يملكه محال ( فلا بد أن يكون الموكل مالكا ) أي للتصرف ( ليملكه من غيره ) قال صاحب العناية : ولقائل أن يقول : الوكيل يملك جنس التصرف من جهة الموكل أو التصرف الذي وكل فيه ، والثاني مسلم وينتقض بتوكيل المسلم الذمي ببيع الخمر ، والأول ممنوع فإنه يملكه بأهليته ولهذا لو تصرف لنفسه صح . والجواب أن الوكيل من حيث هو وكيل يملك جنس التصرف من جهة الموكل على أن المالك يثبت له خلافة عن الموكل فيما تصرف فيه بطريق الوكالة . وتصرفه لنفسه ليس بطريق الوكالة ولا الكلام فيه ، ولا ينافيه أيضا لجواز ثبوت شيء بأمرين على البدل انتهى أقول : في جوابه نظر ; لأن كون الوكيل من حيث هو وكيل مالكا لجنس التصرف من جهة الموكل إنما يتوهم في التوكيل بتصرف لا بعينه بأن قال : اصنع ما شئت أو اعمل برأيك ، وأما في التوكيل بتصرف بعينه كما فيما نحن فيه من مادة النقض بتوكيل مسلم ذميا ببيع خمر فلا يتصور ذلك قطعا ، إذ لا شك أن الوكيل هناك إنما يملك من جهة الموكل التصرف المعين المعهود الذي وكل به وهو بيع الخمر لا جنس التصرف مطلقا وإلا لصح له أن يتصرف هناك بتصرف آخر ، كأن يهب الخمر التي وكل ببيعها لذمي أو يشتري بها منه شيئا أو نحو ذلك من جنس التصرفات ، وليس كذلك قطعا . والحق عندي في الجواب أن يختار الشق الثاني وهو أن الوكيل يملك التصرف الذي وكل به من جهة الموكل .

ويدفع النقض المذكور بحمل ما في الكتاب على قول أبي يوسف ومحمد أو بناء ذلك على الأصل فإن بيع الخمر جائز للمسلم في الأصل . وإنما امتنع بعارض النهي ، وقد ذكرنا كلا الوجهين في صدر الكلام نقلا عن الكتب المعتبرة ( ويشترط أن يكون الوكيل ممن يعقل العقد ) بأن يعرف مثلا أن البيع سالب والشراء جالب ويعرف الغبن اليسير من الغبن الفاحش ، كذا ذكره في مأذون الذخيرة وفي أكثر المعتبرات ، وهو احتراز عن الصبي الذي لم يعقل والمجنون ( ويقصده ) أي يقصد العقد ، والمراد أن لا يكون هازلا فيه ، كذا رأى جمهور الشراح . ورد عليهم الشارح ابن الهمام حيث قال بعد نقل قولهم : أي ارتباط بين صحة الوكالة وكون الوكيل هازلا في البيع ولو كان في بيع ما وكل ببيعه غايته أن لا يصح ذلك البيع والوكالة صحيحة انتهى .

أقول : يخرج الجواب عنه مما ذكره الشارح تاج الشريعة هاهنا حيث قال : القصد شرط في وقوع العقد عن الآمر ، حتى لو تصرف هازلا لا يقع عنه انتهى فتأمل ، وإنما اشترط ذلك في الوكيل ( لأنه يقوم مقام الموكل في العبارة فلا بد أن يكون من أهل العبارة ) وأهلية العبارة لا تكون إلا بالعقل والتمييز ; لأن كلام غير المميز [ ص: 14 ] كألحان الطيور ( حتى لو كان ) أي الوكيل ( صبيا لا يعقل أو مجنونا كان التوكيل باطلا ) إذ ليس لهما أهلية العبارة فلا يتعلق بقولهما حكم . قال صاحب العناية : وهذا يشير إلى أن معرفة الغبن اليسير من الفاحش ليس بشرط في صحة التوكيل ، لكن ذكر في الكتاب أن ذلك شرط ، وهو مشكل ; لأنهم اتفقوا على أن توكيل الصبي العاقل صحيح ، ومعرفة ما زاد على " ده نيم " في المتاع و " ده يازده " في الحيوان و " ده دوازده " في العقار ، أو ما يدخل تحت تقويم المقومين مما لا يطلع عليه أحد إلا بعد الاشتغال بعلم الفقه . انتهى .

أقول : فيه بحث ; لأنه إن أراد أن معرفة نفس الغبن الفاحش الداخل تحت أحد التفسيرين المذكورين مما لا يطلع عليه أحد إلا بعد الاشتغال بعلم الفقه فممنوع ، إذ لا شك أن من لا يمارس العلم أصلا فضلا عن الاشتغال بعلم الفقه يعرف باختلاطه بالناس وتعامله معهم أن ما زاد على ما يدخل تحت تقويم المقومين أو ما زاد على " ده نيم " في المتاع و " ده يازده " في الحيوان ، و " ده دوازده " في العقار غبن فاحش ، وما دون ذلك غبن يسير كما هو حال أكثر أهل السوق . وإن أراد أن معرفة عبارات أهل الشرع في الغبن الفاحش واليسير واصطلاحاتهم فيه مما لا يطلع عليه أحد إلا بعد الاشتغال بعلم الفقه فمسلم ، لكن لا يجدي ذلك شيئا ، إذ لا يخفى أن المراد بما ذكر في الكتاب معرفة الغبن اليسير من الفاحش على الوجه الأول دون الثاني



( وإذا وكل الحر البالغ أو المأذون مثلهما جاز ) هذا لفظ القدوري في مختصره ، وكان ينبغي أن يقيد بالعاقل أيضا ; لأن المجنون إذا وكل غيره لا يجوز ، وكأنه إنما لم يقيد بذلك بناء على الغالب ; لأن غالب أحوال الإنسان أن يكون عاقلا ، أو بناء على أن اشتراط العقل مما يعرفه كل أحد ، وإنما أطلق المأذون ليشمل العبد والصبي المأذون ، فإن توكيل كل واحد منهما غيره جائز كسائر تصرفاتهما . ثم إن هذا غير منحصر في المثلية في صفة الحرية والرقية ، بل يجوز للموكل أن يوكل من فوقه كتوكيل العبد المأذون الحر أو من دونه كتوكيل الحر العبد المأذون ; ألا يرى أن التعليل بقوله ( لأن الموكل مالك للتصرف والوكيل من أهل العبارة ) يشمل الأوجه الثلاثة من المثلية والفوقية والدونية كما ذكر في النهاية ومعراج الدراية ، وعن هذا قال صدر الشريعة في شرح الوقاية : ولو قال كلا منهما كان أشمل لتناوله توكيل الحر البالغ مثله أو المأذون ، وتوكيل المأذون مثله أو الحر البالغ انتهى . وصاحب العناية قد رام توجيه الكلام في هذا المقام حيث قال : ويفهم من قوله مثلهما جواز توكيل من كان فوقهما بطريق الأولى . أقول : لا يذهب عليك أنه لا يجدي كثير طائل ، إذ يبقى حينئذ جواز توكيل من كان دون الموكل محلا للكلام ، على أن قوله من كان فوقهما لا يخلو عن سماجة إذ لا أحد فوق الحر البالغ



( وإن وكل ) أي الحر البالغ أو المأذون ( صبيا محجورا يعقل البيع والشراء أو عبدا محجورا عليه جاز ) خلافا للشافعي رحمه الله ( ولا يتعلق بهما الحقوق ) أي حقوق ما باشراه من العقد كالقاضي وأمينه حيث لا عهدة عليهما فيما فعلاه ( وتتعلق بموكلهما ) وإنما جاز توكيلهما عندنا لانتفاء ما يمنعه ، أما من جانب الموكل فظاهر ، وأما من جانب الوكيل فلما ذكره بقوله ( لأن الصبي من أهل العبارة ; ألا يرى أنه ينفذ تصرفه بإذن وليه والعبد من أهل التصرف على نفسه مالك له ) أي للتصرف على نفسه ولهذا صح طلاقه وإقراره بالحدود والقصاص ( وإنما لا يملكه ) أي التصرف ( في حق المولى ) دفعا للضرر عنه ( والتوكيل ليس تصرفا في حقه ) أي في حق المولى ; لأن صحة التوكيل تتعلق بصحة العبارة والعبد باق على أصل الحرية في حق صحة العبارة ، فإن صحتها بكونه آدميا ( إلا أنه لا يصح منهما ) أي من الصبي والعبد المحجور ( التزام العهدة ، أما الصبي لقصور أهليته ) أي أما الصبي المحجور عليه فلقصور أهليته بعدم البلوغ ( والعبد لحق سيده ) أي وأما العبد المحجور عليه فلثبوت حق سيده في ماليته ، فلو لزمه العهدة لتضرر به المولى ، وإذا كان كذلك ( فتلزم ) أي العهدة ( الموكل ) ; لأنه أقرب الناس إليهما حيث انتفع بتصرفهما .

ويفهم من هذا التعليل أن العبد إذا أعتق لزمه العهدة ; لأن المانع من لزومها كان حق المولى وقد زال ذلك بالعتق ، وأن الصبي إذا بلغ لم يلزمه العهدة ; لأن المانع من لزومها كان قصور أهليته حيث لم يكن قوله ملزما في حق نفسه في ذلك الوقت فلم تلزمه بعد البلوغ أيضا .

والفرق بينهما بهذا الوجه مما ذكر صريحا في المبسوط وشرح الجامع الصغير للإمام قاضي خان . ثم إن في تقييد الصبي والعبد بقوله محجورا عليه إشارة إلى أنهما لو كانا مأذونين تعلق الحقوق بهما لكن ذلك ليس بمطلق بل فيه تفصيل ذكر في الذخيرة . وهو أن الصبي المأذون إذا وكل بالبيع فباع لزمه العهدة سواء كان الثمن حالا أو مؤجلا وإذا وكل بالشراء ; فإن وكل بالشراء بثمن مؤجل لم تلزمه العهدة قياسا واستحسانا بل تكون العهدة على [ ص: 15 ] الآمر حتى إن البائع يطالب الآمر بالثمن ; لأن ما يلزمه من العهدة ضمان كفالة لا ضمان ثمن ; لأن ضمان الثمن ما يفيد الملك للضامن في المشتري ، وهذا ليس كذلك إنما هذا التزم مالا في ذمته استوجب مثل ذلك على موكله وهذا هو معنى الكفالة ، والصبي المأذون يلزمه ضمان الثمن لا ضمان الكفالة .

وأما إذا وكل بالشراء بثمن حال فالقياس أن لا يلزمه العهدة . وفي الاستحسان يلزمه ; لأن ما التزمه ضمان ثمن حيث ملك المشتري من حيث الحكم فإنه يحبسه بالثمن حتى يستوفي من الموكل ، كما لو اشترى لنفسه ثم باع منه والصبي المأذون من أهل ذلك ، بخلاف ما إذا كان الثمن مؤجلا ; لأنه بما يضمن من الثمن لا يملك المشتري لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الحكم ; لأنه لا يملك حبسه بذلك فكان ضمان كفالة من حيث المعنى . والجواب في العبد المأذون إذا وكل بالبيع أو الشراء على هذا التفصيل . ثم اعلم أن الصبي والعبد المحجورين وإن لم يتعلق بهما الحقوق فلقبضهما الثمن وتسليمهما المبيع اعتبار لما ذكر في الكتاب من بعد في فصل الشراء في التوكيل بعقد السلم حيث قال : والمستحق بالعقد قبض العاقد وهو الوكيل فيصح قبضه وإن كان لا يتعلق به الحقوق كالصبي والعبد المحجور عليه انتهى .

( وعن أبي يوسف أن المشتري إذا لم يعلم بحال البائع ثم علم أنه صبي أو عبد محجور ) وفي بعض النسخ : أو مجنون ، فقيل المراد به من يجن ويفيق ، وقيل على حاشية نسخة المصنف محجور مقام مجنون . قال صاحب الكفاية عند نقل هذين القولين : وفي الكافي للعلامة النسفي : ثم علم أنه صبي محجور أو عبد محجور فالظاهر أن قوله مجنون تصحيف انتهى ( له خيار الفسخ ) أي للمشتري خيار الفسخ في هذه الصورة ( لأنه ) أي ; لأن المشتري ( دخل في العقد على ) ظن ( أن حقوقه تتعلق بالعاقد ) يعني أن المشتري ما رضي بالعقد إلا على اعتقاد أن حقوقه تتعلق بالعاقد ( فإذا ظهر خلافه يتخير ) ; لأنه فات عنه وصف مرغوب فيه ، فصار ( كما إذا عثر ) أي اطلع ( على عيب ) أي على عيب لم يرض به والجامع بينهما عدم الرضا . وفي ظاهر الرواية لا خيار للمشتري ولا للبائع ذكره تاج الشريعة .




الخدمات العلمية