الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 58 ] قال ( ومن له على آخر ألف درهم فأمره أن يشتري بها هذا العبد فاشتراه جاز ) ; لأن في تعيين المبيع تعيين البائع ; ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى . قال ( وإن أمره أن يشتري بها عبدا بغير عينه فاشتراه فمات في يده قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري ، وإن قبضه الآمر فهو له ) وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ( وقالا : هو لازم للآمر إذا قبضه المأمور ) وعلى هذا إذا أمره أن يسلم ما عليه أو يصرف ما عليه . لهما أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في المعاوضات دينا كانت أو عينا ، ألا يرى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد فصار الإطلاق والتقييد فيه سواء فيصح التوكيل ويلزم الآمر ; لأن يد الوكيل كيده . [ ص: 59 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أنها تتعين في الوكالات ; ألا ترى أنه لو قيد الوكالة بالعين منها أو بالدين منها ثم استهلك العين أو أسقط الدين بطلت الوكالة ، [ ص: 60 - 61 ] وإذا تعينت كان هذا تمليك الدين من غير من عليه الدين من دون أن يوكله بقبضه وذلك لا يجوز ، كما إذا اشترى بدين على غير المشتري أو يكون أمرا بصرف ما لا يملكه إلا بالقبض قبله وذلك باطل كما إذا قال أعط مالي عليك [ ص: 62 ] من شئت ، بخلاف ما إذا عين البائع ; لأنه يصير وكيلا عنه في القبض ثم يتملكه ، وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق ; لأنه جعل المال لله وهو معلوم .

[ ص: 63 ] وإذا لم يصح التوكيل نفذ الشراء على المأمور فيهلك من ماله إلا إذا قبضه الآمر منه لانعقاد البيع تعاطيا .

التالي السابق


( قال ) أي محمد في الجامع الصغير ( ومن له على آخر ألف درهم فأمره ) أي الآخر ( بأن يشتري بها ) أي بتلك الألف ( هذا العبد ) يعني العبد المعين ( فاشتراه جاز ) ولزم الآمر قبضه أو مات قبله عند المأمور ( لأن في تعيين المبيع تعيين البائع ، ولو عين البائع يجوز على ما نذكره إن شاء الله تعالى ) يشير إلى ما سيذكره بقوله بخلاف ما إذا عين البائع إلخ ( وإن أمره أن يشتري بها ) أي بالألف التي عليه ( عبدا بغير عينه فاشتراه فمات في يده ) أي فمات العبد في يد المشتري ( قبل أن يقبضه الآمر مات من مال المشتري ) فالألف عليه ( وإن قبضه الآمر فهو ) أي العبد ( له ) أي للآمر ( وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا ) أي أبو يوسف ومحمد رحمهما الله ( هو ) أي العبد ( لازم للآمر إذا قبضه المأمور ) سواء قبضه الآمر أو مات في يد المأمور .

قال المصنف ( وعلى هذا ) أي على هذا التفصيل ( إذا أمره ) أي إذا أمر من عليه الدين ( أن يسلم ما عليه ) أي يعقد عقد السلم ( أو يصرف ما عليه ) أي أو يعقد عقد الصرف فإن عين المسلم إليه ومن يعقد به عقد الصرف صح بالاتفاق ، وإلا فعلى الاختلاف . قال الشراح : وإنما خصهما بالذكر لدفع ما عسى يتوهم أن التوكيل فيهما لا يجوز لاشتراط القبض في المجلس . أقول : فيه نظر ، إذ قد سبق في أوائل هذا الفصل مسألة جواز التوكيل بعقد الصرف والسلم مدللة ومفصلة مع التعرض لأحوال القبض مستوفى ، فكيف يتوهم بعد ذلك عدم جواز التوكيل فيهما ، وهل يليق بشأن المصنف دفع مثل ذلك التوهم .

فالحق عندي أن تخصيصهما بالذكر إنما هو لإزالة ما يتردد في الذهن من أن التفصيل المذكور هل هو جار بعينه في بابي السلم والصرف أيضا أم لا ، بناء على أن لهما شأنا مخصوصا في بعض الأحكام ، فقوله هذا على نهج قوله فيما مر في آخر مسألة التوكيل بشراء شيء بغير عينه ، والتوكيل في الإسلام بالطعام على هذه الوجوه ( لهما ) أي لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله ( أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في المعاوضات دينا كانت أو عينا ) يعني سواء كانت الدراهم والدنانير دينا ثابتا في الذمة أو عينا غير ثابتة في الذمة ، ونور ذلك بقوله ( ألا يرى أنه لو تبايعا عينا بدين ثم تصادقا أن لا دين لا يبطل العقد ) ويجب مثل الدين وكل ما لا يتعين بالتعيين كان الإطلاق والتقييد فيه سواء ( فصار الإطلاق ) بأن قال بألف ولم يضفه إلى ما عليه ( والتقييد ) بأن أضافه إلى ما عليه ( فيه ) أي في العقد المزبور ( سواء فيصح التوكيل ويلزم الآمر ) أي ويلزم العقد الآمر ، وصار كما لو قال تصدق بمالي عليك على المساكين فإنه يجوز [ ص: 59 ] ولأبي حنيفة رحمه الله أنها ) أي الدراهم والدنانير ( تتعين في الوكالات ) قال صاحب النهاية : لكن هذا على قول بعض المشايخ بعد التسليم إلى الوكيل .

وأما قبل التسليم إليه فلا تتعين في الوكالات أيضا بالإجماع ; لأنه ذكر في الذخيرة . وقال : قال محمد في الزيادات : رجل قال لغيره اشتر لي بهذه الألف الدرهم جارية وأراه الدراهم فلم يسلمها إلى الوكيل حتى سرقت الدراهم ، ثم اشترى الوكيل جارية بألف درهم لزم الموكل . ثم قال : والأصل أن الدراهم والدنانير لا يتعينان في الوكالات قبل التسليم بلا خلاف ; لأن الوكالات وسيلة إلى الشراء فتعتبر بنفس الشراء ، والدراهم والدنانير لا يتعينان في الشراء قبل التسليم فكذا فيما هو وسيلة إلى الشراء . وأما بعد التسليم إلى الوكيل هل تتعين ؟ اختلف المشايخ فيه . بعضهم قال : تتعين حتى تبطل الوكالة بهلاكها لما ذكرنا أن الوكالة وسيلة إلى الشراء والدراهم والدنانير يتعينان في الشراء بعد التسليم ، فكذا فيما هو وسيلة إليه ، ولأن يد الوكيل يد أمانة ، والدراهم والدنانير يتعينان في الأمانات . وعامتهم على أنها لا تتعين .

وفائدة النقد والتسليم على قول عامة المشايخ شيئان : أحدهما يؤقت بقاء الوكيل ببقاء الدراهم المنقودة ، فإن العرف الظاهر فيما بين الناس أن الموكل إذا دفع الدراهم إلى الوكيل يريد شراءه حال قيام الدراهم في يد الوكيل . والثاني قطع رجوع الوكيل على الموكل فيما وجب للوكيل على الموكل ، وهذا ; لأن شراء الوكيل يوجب دينين ، دينا للبائع على الوكيل ، ودينا للوكيل على الموكل ، إلى هنا لفظ النهاية . وقال صاحب العناية بعد نقل ما في النهاية بنوع إجمال : ولقائل أن يقول : فعلى هذا في كلام المصنف نظر ; لأنه أثبت قول أبي حنيفة بقول بعض المشايخ الذين حدثوا بعد أبي حنيفة بمائتي سنة . والجواب أن المصنف لم يتعرض بأن ذلك قول بعض المشايخ ، فلعل اعتماده في ذلك كان على ما نقل عن محمد رحمه الله في الزيادات من التقييد بعد التسليم انتهى .

أقول : ليس السؤال بشيء ولا الجواب . أما الأول فلأن بعض المشايخ الذين حدثوا بعد أبي حنيفة لم يقولوا ما ذهبوا إليه من تعين النقود في الوكالات بعد التسليم إلى الوكيل باجتهادهم من عند أنفسهم بل بتخريجهم إياه من أصل أبي حنيفة كما هو حال أصحاب التخريج في كثير من المسائل فكان ما ذكره المصنف هاهنا من قبيل إثبات قول أبي حنيفة بأصله على تخريج بعض المشايخ ، وأمثال هذا أكثر من أن تحصى . وأما الثاني فلأن حاصله أن المصنف أخذ ما ذكره هاهنا من مفهوم قول محمد في الزيادات فلم يسلمها إلى الوكيل . فيرد عليه أن محمدا لم يذكر الخلاف هناك ، فإن لم يكن ما ذكره على قول نفسه فقط فلا أقل من أن يكون ذلك مما قال به أيضا ، فلو عمل بمفهوم القيد المذكور لزم أن يكون المشترى للوكيل عند محمد فيما إذا سلم الموكل الدراهم إلى الوكيل وقال له اشتر لي بها عينا فاشتراه وقبضه فهلك في يده قبل أن يقبضه الآمر مع أن قول محمد وقول أبي يوسف بخلافه كما صرحوا به قاطبة ، وذكر في مسألة الكتاب ، وأورد بعض الفضلاء على الجواب المذكور بوجه آخر حيث قال فيه نظر ، إذ لا يفصل ما في الكتاب بين ما قبل القبض وما بعده كما مر انتهى .

أقول : هو مدفوع بحمل إطلاق ما في الكتاب على ما هو المقيد في كلام الثقات ، إذ قد تقرر في الأصول أن المطلق والمقيد إذا وردا واتحد الحكم والحادثة يحمل المطلق على المقيد وها هنا كذلك فتدبر ( ألا ترى ) تنوير لتعين الدراهم والدنانير في الوكالات ( أنه ) أي الآمر ( لو قيد الوكالة بالعين منها ) أي من الدراهم والدنانير ( أو بالدين منها ثم استهلك ) أي الآمر أو الوكيل ( العين ) كذا في معراج الدراية ويجوز أن يكون استهلك على بناء المفعول ( أو أسقط ) أي الموكل ( الدين ) بأن أبرأه عن الدين بعد التوكيل كذا في معراج الدراية أيضا . ويجوز فيه أيضا بناء المفعول ( بطلت الوكالة ) جواب [ ص: 60 ] لو قيد الوكالة . ونقل الناطفي في الأجناس عن الأصل أن الوكيل بالشراء إذا قبض الدنانير من الموكل وقد أمره أن يشتري بها طعاما فاشترى بدنانير غيرها ثم نقد دنانير الموكل فالطعام للوكيل وهو ضامن لدنانير الموكل . ثم قال : هذه المسألة تدل على أن الدراهم والدنانير يتعينان في الوكالة . قال صاحب النهاية : إنما قيد : يعني المصنف بالاستهلاك دون الهلاك ; لأن بطلان الوكالة مخصوص بالاستهلاك دون الهلاك . والدليل على هذا ما ذكره الإمام قاضي خان في السلم من بيوع فتاواه فقال : رجل دفع إلى رجل عشرة دراهم ليشتري بها ثوبا قد سماه فأنفق الوكيل على نفسه دراهم الموكل واشترى ثوبا للآمر بدراهم نفسه فإن الثوب للمشتري لا للآمر ; لأن الوكالة تقيدت بتلك الدراهم فبطلت الوكالة بهلاكها ، ولو اشترى ثوبا للآمر ونقد الثمن من مال نفسه أمسك دراهم الآمر كان الثوب للآمر وتطيب له دراهم الموكل استحسانا ، كالوارث والوصي إذا قضى دين الميت بمال نفسه انتهى كلامه .

أقول : دلالة ما نقله عن الإمام قاضي خان على أن بطلان الوكالة مخصوص بالاستهلاك ممنوعة . غاية الأمر أنه صور المسألة بما إذا أنفق الوكيل على نفسه دراهم الموكل ، ولا يلزم منه أن لا يكون الحكم كذلك فيما إذا هلكت دراهم الموكل بغير صنع الوكيل ، ألا يرى أنه قال فبطلت الوكالة بهلاكها ولم يقل باستهلاكها ، ولو كان مراده الفرق بين الاستهلاك والهلاك لما قال كذلك . وقال صاحب غاية البيان : قال بعض الشارحين : إنما قيد بالاستهلاك دون الهلاك ; لأن بطلان الوكالة مخصوص [ ص: 61 ] بالاستهلاك دون الهلاك ، هذا الذي ذكره مخالف لما ذكروا في شروح الجامع الصغير في هذا الموضع حيث قالوا : لو هلكت الدراهم المسلمة إلى الوكيل بالشراء بطلت الوكالة . فأقول : كأن المصنف قيد بالاستهلاك حتى لا يتوهم متوهم أن الوكالة لا تبطل إذا استهلك الوكيل الدراهم المسلمة إليه ; لأنه يضمن الدراهم كما في هلاك المبيع قبل التسليم ، إلى هنا كلامه . وقال صاحب العناية : ثم قال صاحب النهاية : إنما قيد بالاستهلاك ; لأن بطلان الوكالة مخصوص به . ونقل عن كل من الذخيرة وفتاوى قاضي خان مسألة تدل على ذلك . ورد بأنه مخالف لما ذكروا في شروح الجامع الصغير في هذا الموضع حيث قالوا : لو هلكت الدراهم المسلمة إلى الوكيل بالشراء بطلت الوكالة ، بل إنما قيد المصنف بذلك لئلا يتوهم أن الوكالة لا تبطل إذا استهلك الوكيل الدراهم المسلمة إليه ; لأنه يضمن الدراهم فيقوم مثلها مقامها فتصير كأن عينها باقية ، فذكر الاستهلاك لبيان تساويهما في بطلان الوكالة بهما انتهى .

أقول : هذا حاصل ما ذكره صاحب العناية خلا قوله ونقل عن كل من الذخيرة وفتاوى قاضي خان مسألة تدل على ذلك ، وأنه ليس بسديد ، إذ لم نجد في نسخ النهاية هنا مسألة منقولة عن الذخيرة تدل على ذلك ، بل المذكور فيها هاهنا إنما هي مسألة فتاوى قاضي خان كما نقلناه فيما قبل ( فإذا تعينت ) أي الدراهم والدنانير ، وهذا من تتمة الدليل ، وتقريره أن الدراهم والدنانير تتعين في الوكالات ، وإذا تعينت ( كان هذا ) أي التوكيل المذكور ( تمليك الدين من غير من عليه الدين من غير أن يوكله ) أي ذلك الغير ( بقبضه ) أي بقبض الدين ( وذلك ) أي تمليك الدين على الوجه المزبور ( لا يجوز ) لعدم القدرة على التسليم ( كما إذا اشترى بدين على غير المشتري ) بأن كان لزيد على عمرو مثلا دين فاشترى زيد من آخر شيئا بذلك الدين الذي له على عمرو فإنه لا يجوز ، فكان تقديره كما إذا اشترى المشتري شيئا بدين على غير نفسه ، كذا في النهاية وعليه أكثر الشراح . وقال تاج الشريعة في شرح هذا المقام : أي كما إذا اشترى هذا المأمور بدين هو حق الآمر على غير هذا المأمور انتهى .

ووافقه صاحب الغاية حيث قال : يعني كما إذ اشترى الوكيل بدين على غيره كما إذا أمره زيد مثلا أن يشتري بدين لزيد على عمرو شيئا من آخر فإنه لا يجوز لكونه تمليك الدين من غير من عليه الدين ، فكذا فيما نحن فيه انتهى .

وبين المعنيين تغاير لا يخفى ( أو يكون أمرا بصرف ) أي بدفع ( ما لا يملكه إلا بالقبض قبله ) أي قبل القبض متعلق بصرف ، وهذه الجملة عطف على قوله كان هذا تمليك الدين لغير من عليه الدين ، والمعنى : أو يكون التوكيل المذكور أمرا من رب الدين للمديون بدفع ما لا يملكه رب الدين إلا بالقبض قبل القبض ، وذلك ; لأن الديون تقضى بأمثالها فكان ما أدى المديون إلى البائع أو إلى رب الدين ملك المديون ولا يملكه الدائن قبل القبض ( وذلك باطل ) أي أمر الإنسان بدفع ما لا يملكه باطل ( كما إذا قال أعط ما لي عليك [ ص: 62 ] من شئت ) فإنه باطل ; لأنه أمر بصرف ما لا يملكه الآمر إلا بالقبض إلى من يختاره المديون بنفسه ( بخلاف ما إذا عين البائع ) يعني بخلاف ما إذا كان الموكل عين البائع ، فإن التوكيل صحيح هناك ( لأنه ) أي البائع ( يصير ) أولا ( وكيلا عنه ) أي عن الموكل ( في القبض ) تصحيحا لتصرفه بقدر الإمكان ( ثم يتملكه ) أي ثم يتملكه البائع فيصير قابضا لرب الدين أولا ثم يصير قابضا لنفسه كما لو وهب دينه على غيره ووكل الموهوب له بقبضه ، وكذا إذا عين المبيع ; لأن في تعيين المبيع تعيين البائع كما مر في صدر المسألة فصار كما لو عين البائع ، ومتى أبهم المبيع أو البائع يكون البائع مجهولا والمجهول لا يصلح وكيلا . قيل : يشكل بما لو آجر حماما بأجرة معلومة وأمر المستأجر بالمرمة من الأجرة أجر فإنه يجوز ، وإن كان هذا أمرا بتمليك الدين من غير من عليه الدين وهو الأجير من غير أن يوكله بقبضه ; لأن الأجير مجهول وتوكيل المجهول لا يصح .

وأجيب بأن ذاك قولهما ، ولئن كان قول الكل فإنما جاز باعتبار الضرورة ، فإن المستأجر لا يجد الآجر في كل وقت فجعلنا الحمام قائما مقام الآجر في القبض ، كذا في الكفاية وغيرها . واعترض بأن لو اشترى شيئا بدين على آخر ينبغي أن يجوز أن يجعل البائع وكيلا بالقبض أولا لكونه معينا . وأجيب بأن عدم الجواز هنا لكونه بيعا بشرط وهو أداء الثمن على الغير ، كذا في العناية وبعض الشراح . أقول : في هذا الجواب بحث ، أما أولا فلأن البائع لو جعل هنا وكيلا بالقبض لم يكن العقد بيعا بشرط أداء الثمن على الغير ، بل يكون أداء الثمن على المشتري بيد وكيله كما فيما إذا كان الموكل عين البائع . وأما ثانيا فلأن النقود لما لم تتعين في المعاوضات لم يلزم الاشتراط المذكور هنا أصلا . وأما ثالثا فلأنه لو كان عدم الجواز هنا لكونه بيعا بشرط لا لكون تمليك الدين من غير من عليه الدين من غير أن يوكله بقبضه لما كان لقول المصنف فيما مر آنفا كما إذا اشترى بدين على غير المشتري ارتباط بما قبله ، ولما كان لقول صاحب العناية في شرح ذلك فإنه لا يجوز لذلك معنى ، فإن أمكن تخليص كلام المصنف بحمل مراده بقوله كما إذا اشترى بدين على غير المشتري على المعنى الذي ذهب إليه بعض الشراح دون المعنى الذي ذهب إليه أكثرهم كما عرفته فيما قبل لا يمكن تخليص كلام صاحب العناية فإنه ذهب إلى ما ذهب إليه الأكثر فتأمل .

وأجيب عن الاعتراض المذكور في بعض الشروح بوجه آخر أيضا ، وهو أن البائع لو صار وكيلا فإنما يصير وكيلا في ضمن المبايعة ، ولا بد من أن يثبت المتضمن ليثبت المتضمن ، والمبايعة لم تثبت لما فيه من تمليك الدين من غير من عليه الدين فلا يثبت المتضمن ، بخلاف ما نحن فيه ; لأن التوكيل بالقبض يثبت فيه بأمر الآمر ، وأنه يسبق الشراء ، وبخلاف ما إذا وهب الدين من غير من عليه الدين حيث تصح الهبة ويثبت الأمر من الواهب للموهوب له بالقبض في ضمن الهبة ; لأن الملك يتوقف إلى زمان القبض فيكون التوكيل بالقبض سابقا على التمليك معنى ( وبخلاف ما إذا أمره بالتصدق ) جواب عن قياسهما على الآمر بالتصدق ولم يذكر في الكتاب وقد ذكرناه في سياق دليلهما ( لأنه ) أي الآمر بالتصدق ( جعل المال لله تعالى ) ونصب الفقير وكيلا عن الله عز وجل في قبض حقه ، كذا في الكافي وغيره ( وهو معلوم ) أي الله تبارك وتعالى معلوم فكان كتعيين البائع في المسألة الأولى .

وأما مسألة التصادق في الشراء بأن لا دين له [ ص: 63 ] عليه فلأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في الشراء عينا أو دينا ولكن يتعينان في الوكالات ، فلما لم يتعينا في الشراء لم يبطل الشراء ببطلان الدين ، كذا ذكره الإمام المرغيناني والمحبوبي وقاضي خان ( وإذا لم يصح التوكيل ) رجوع إلى أول البحث : يعني لما ثبت بالدليل أن التوكيل بشراء عبد غير معين لم يعلم بائعه غير صحيح ( نفذ الشراء على المأمور فهلك من ماله ) يعني إذا هلك هلك من مال المأمور ( إلا إذا قبضه الآمر منه ) فإنه إذا هلك حينئذ هلك من مال الآمر ( لانعقاد البيع ) بينهما ( تعاطيا ) فكان هالكا في ملك الآمر .

قال الإمام الزيلعي في التبيين : وذكر في النهاية أن النقود لا تتعين في الوكالة قبل القبض بالإجماع ، وكذا بعده عند عامتهم ; لأن الوكالة وسيلة إلى الشراء فتعتبر بالشراء ، وعزاه إلى الزيادات والذخيرة ، فعلى هذا لا يلزمهما ما قاله أبو حنيفة . والتعليل الصحيح له أن يقال : إن تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يجوز ، فكذا التوكيل به ، وإنما جاز في المعين لكونه أمرا له بالقبض ثم بالتمليك لا توكيلا للمدين بالتمليك ، وإن لم يكن معينا لا يصح الأمر للمجهول فكان توكيلا للمدين بالتمليك في الإسلام والشراء والصرف ولا يجوز ، إلى هنا كلامه .

أقول : فيه نظر إذ لا يلزمهما التعليل الذي ذكره أيضا ، إذ يجوز أن يقال من قبلهما إن عدم جواز تمليك الدين من غير من عليه الدين لا يقتضي عدم صحة التوكيل فيما نحن فيه ، فإنه لما لم تتعين النقود في الوكالات لم يكن لتعيين الآمر الألف التي على المأمور تأثير فيما أمره به من اشتراء عبد له ، بل صح اشتراء المأمور عبدا له بأية ألف كانت ، فكان ذكر تلك الألف في التوكيل بشراء عبد له وعدم ذكرها فيه سواء فصح التوكيل . وقد أشار إليه المصنف في أثناء دليلهما حيث قال : فكان الإطلاق والتقييد فيه سواء فيصح التوكيل ، ولا بد في تمام التعليل من قبل أبي حنيفة رحمه الله من المصير إلى تعيين النقود في الوكالات وإن كان على قول بعض المشايخ كما فعله المصنف ، فلله دره في تدقيقه وتحقيقه




الخدمات العلمية