الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 97 ] ( قال : أو بطلاق زوجته بغير عوض أو بعتق عبده بغير عوض أو برد وديعة عنده أو قضاء دين عليه ) لأن هذه الأشياء لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو تعبير محض ، وعبارة المثنى والواحد سواء . وهذا [ ص: 98 ] بخلاف ما إذا قال لهما طلقاها إن شئتما أو قال أمرها بأيديكما لأنه تفويض إلى رأيهما ; ألا ترى أنه تمليك مقتصر على المجلس ، ولأنه علق الطلاق بفعلهما فاعتبره بدخولهما .

التالي السابق


( قال ) أي القدوري في مختصره ( أو بطلاق زوجته بغير عوض ) هذا وما بعده معطوف على المستثنى وهو قوله بالخصومة أي أو أن يوكلهما بطلاق زوجته بغير عوض ، فإن لأحدهما أن يطلقها بانفراده ( أو بعتق عبده بغير عوض ) أي أو أن يوكلهما بعتق عبده بغير عوض ، فإن لأحدهما أن يعتقه وحده ( أو يرد وديعة عنده ) أي أو أن يوكلهما برد وديعة ، فإن لأحدهما أن يردها منفردا . قيد بردها ، إذ لو وكلهما بقبض وديعة له لم يكن لواحد منها أن ينفرد بالقبض ، صرح به في الذخيرة ، فقال : قال محمد رحمه الله في الأصل : إذا وكل رجلين بقبض وديعة له فقبض أحدهما بغير إذن صاحبه كان ضامنا لأنه شرط اجتماعهما على القبض ، واجتماعهما عليه ممكن وللموكل فيه فائدة ، لأن حفظ اثنين أنفع ، فإذا قبض أحدهما صار قابضا بغير إذن المالك فيصير ضامنا . ثم قال : فإن قيل : ينبغي أن يصير ضامنا للنصف ، لأن كل واحد منهما مأمور بقبض النصف . قلنا : كل واحد منهما مأمور بقبض النصف إذا قبض مع صاحبه ، وأما في حالة الانفراد فغير مأمور بقبض شيء منه انتهى .

وذكر صاحب العناية مضمون ما في الذخيرة هاهنا . ولكن ما عزاه إلى الذخيرة . وقال بعض الفضلاء بعد نقل ذلك عن العناية : وفيه كلام ، وهو أن هذا إنما يتم فيما يقسم عند أبي حنيفة على ما سيجيء في الوديعة انتهى . أقول : ليس كلامه بشيء ، إذ منشؤه الغفول عن قيد الإذن ، فإن الذي سيجيء في الوديعة هو أنه إن أودع رجل عند رجلين شيئا مما يقسم لم يجز أن يدفعه أحدهما إلى الآخر ولكنهما يقتسمانه فيحفظ كل واحد منهما نصفه ، وإن كان مما لا يقسم جاز أن يحفظه أحدهما بإذن الآخر ، وهذا عند أبي حنيفة . وقالا : لأحدهما أن يحفظه بإذن الآخر في الوجهين انتهى .

ولا يخفى أن المفهوم منه أن لا يجوز حفظ أحدهما الكل بلا إذن صاحبه في الوجهين معا بلا خلاف ، وأن لا يجوز ذلك بإذن الآخر أيضا فيما يقسم عند أبي حنيفة خلافا لهما . وما ذكر في الذخيرة وفي العناية إنما هو فيما إذا قبض أحدهما الكل بغير إذن صاحبه ، فهو تام في الوجهين معا بالاتفاق ( أو بقضاء دين عليه ) أي أو أن يوكلهما بقضاء دين على الموكل ، فإن لأحدهما الانفراد فيه أيضا ( لأن هذه الأشياء ) يعني الطلاق بغير عوض والعتاق بغير عوض ورد الوديعة وقضاء الدين ( لا يحتاج فيها إلى الرأي بل هو ) أي بل أداء الوكالة فيها ( تعبير محض ) أي تعبير محض لكلام الموكل ( وعبارة المثنى والواحد سواء ) لعدم الاختلاف في المعنى ( وهذا ) أي جواز [ ص: 98 ] انفراد أحدهما ( بخلاف ما إذا قال لهما طلقاها إن شئتما ، أو قال أمرها بأيديكما ) حيث لا يجوز انفراد أحدهما في هاتين الصورتين ( لأنه ) أي لأن ما قاله لهما فيهما ( تفويض إلى رأيهما ) فلا بد من اجتماعهما ، ونور ذلك بقوله ( ألا ترى أنه تمليك مقتصر على المجلس ) كما مر في باب تفويض الطلاق .

وإذا كان تمليكا صار التطليق مملوكا لهما فلا يقدر أحدهما على التصرف في ملك الآخر . قيل ينبغي أن يقدر أحدهما على إيقاع نصف تطليقة . وأجيب بأن فيه إبطال حق الآخر ، إذ بإيقاع النصف تقع تطليقة كاملة . فإن قيل : الإبطال هنا ضمني فلا يعتبر . وأجيب بأنه لا حاجة إلى ذلك الإبطال مع قدرتهما إلى الاجتماع . وقال بعض الفضلاء : قوله ألا يرى أنه تمليك مقتصر على المجلس منقوض بقوله طلقاها فإنه تمليك أيضا كما سبق في باب الاختلاف في الشهادة ، ولا مدخل للاقتصار على المجلس في كونه تمليكا انتهى .

أقول : جميع مقدمات دليله على النقض سقيم ، أما قوله فإنه تمليك أيضا فلأنه خلاف المقرر ، لأن قوله طلقاها بدون التعليق بالمشيئة توكيل لا تمليك ، وقد صرح به المصنف في باب تفويض الطلاق حيث قال : وإن قال لرجل طلق امرأتي فله أن يطلقها في المجلس وبعده ، وله أن يرجع لأنه توكيل وأنه استعانة فلا يلزم ولا يقتصر على المجلس ، بخلاف قوله لامرأته طلقي نفسك لأنها عاملة لنفسها فكان تمليكا لا توكيلا ا هـ . وأما قوله كما سبق في باب الاختلاف في الشهادة فلأنه خلاف الواقع كما يظهر بمراجعة محله ، وأما قوله ولا مدخل للاقتصار على المجلس في كونه تمليكا فلأنه خلاف المصرح به ألا يرى إلى قول المصنف في أول فصل الاختيار من باب تفويض الطلاق ، ولأنه تمليك الفعل منها والتمليكات تقتضي جوابا في المجلس كما في البيع انتهى . وإلى قوله في أواسط فصل الأمر باليد من ذلك الباب والتمليك يقتصر على المجلس وقد بيناه انتهى ( ولأنه ) أي الآمر ( علق الطلاق بفعلهما ) أي بفعل المأمورين ( فاعتبره ) صيغة أمر من الاعتبار ( بدخولهما ) أي فاعتبر تعليق الطلاق بفعل الرجلين بتعليق الطلاق بدخول الرجلين : أي بدخولهما الدار مثلا . يعني يشترط ثمة لوقوع الطلاق دخولهما جميعا ، حتى لو قال : إن دخلتما الدار فهي طالق لا تطلق ما لم يوجد الدخول منهما جميعا ، فكذلك هاهنا لا يقع الطلاق ما لم يوجد فعل التطليق منهما جميعا .

قال صاحب النهاية : قوله ولأنه علق الطلاق بفعلهما راجع إلى قوله طلقاها إن شئتما ، وقوله لأنه تفويض إلى رأيهما راجع إليه . وإلى قوله أمرها بأيديكما وقد تبعه في جعل قوله ، ولأنه علق الطلاق بفعلهما راجعا إلى قوله طلقاها إن شئتما كثير من الشراح ; فمنهم من صرح به كصاحب العناية حيث قال : قوله ولأنه علق الطلاق متعلق بقوله طلقاها إن شئتما ، ومنهم من أظهره في أثناء التحرير وهو صاحب غاية البيان وغيره حيث قالوا بصدد بيان قول المصنف فاعتبره بدخولهما ، حتى لو قال إن دخلتما الدار فهي طالق لا تطلق ما لم يوجد الدخول منهما جميعا ، فكذا هنا في قوله طلقاها إن شئتما لا يقع الطلاق ما لم يوجد فعل التطليق منهما جميعا .

أقول : وأنا لا أرى بأسا في إبقاء كلام المصنف هاهنا على ظاهر حاله ، وهو أن يكون كل واحد من تعليليه عاما للصورتين معا بناء على أن التعليق كما يوجد في صورة إن قال لهما طلقاها إن شئتما يوجد أيضا في صورة إن قال لهما أمرها بأيديكما ، وقد صرح المصنف في فصل الأمر باليد من باب تفويض الطلاق بأن جعل الأمر باليد فيه معنى التعليق . وقال الشراح في بيانه : وهذا لأن معنى أمرك بيدك إن أردت طلاقك فأنت [ ص: 99 ] طالق انتهى . ولذلك لم أخصص قوله ولأنه علق الطلاق بفعلهما إلخ بصورة إن قال لهما طلقاها إن شئتما ، بل شرحته بوجه يعم الصورتين معا كما رأيته




الخدمات العلمية