الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 19 ] كتاب الهبة الهبة عقد مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام { تهادوا تحابوا } وعلى ذلك انعقد الإجماع ( وتصح بالإيجاب والقبول والقبض ) أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد ، والعقد ينعقد بالإيجاب ، والقبول ، والقبض لا بد منه لثبوت الملك . وقال مالك : يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا [ ص: 20 ] بالبيع ، وعلى هذا الخلاف الصدقة . ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { لا تجوز الهبة إلا مقبوضة } والمراد نفي الملك ، [ ص: 21 ] لأن الجواز بدونه ثابت ، ولأنه عقد تبرع ، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به ، وهو التسليم فلا يصح ، بخلاف الوصية ; لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت ولا إلزام على المتبرع ; لعدم أهلية اللزوم ، وحق الوارث متأخر عن الوصية فلم يملكها .

التالي السابق


( كتاب الهبة ) ذكرنا وجه المناسبة والترتيب في الوديعة وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى ، ولأن العارية كالمفرد والهبة كالمركب ; لأن فيها تمليك [ ص: 19 ] العين مع المنفعة . ثم محاسن الهبة لا تحصى ولا تخفى على ذوي النهى . فقد وصف الله تعالى ذاته بالوهاب فقال { إنك أنت الوهاب } وهذا يكفي لمحاسنها . ثم إن الهبة في اللغة أصلها من الوهب ، والوهب بتسكين الهاء وتحريكها ، وكذلك في كل معتل الفاء كالوعد والعدة والوعظ والعظة فكانت من المصادر التي تحذف أوائلها ويعوض في أواخرها التاء ، ومعناها : إيصال الشيء إلى الغير بما ينفعه سواء كان مالا أو غير مال ، يقال وهب له مالا وهبا وهبة ، ويقال وهب الله فلانا ولدا صالحا ، ومنه قوله تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني } ويقال وهبه مالا ولا يقال وهب منه ، ويسمى الموهوب هبة وموهبة والجمع هبات ومواهب ، واتهبه منه قبله واستوهبه طلب الهبة ، كذا في معراج الدراية وغيره .

وأما في الشريعة فهي تمليك المال بلا عوض

كذا في عامة الشروح بل المتون . أقول : يرد عليه النقض عكسا بالهبة بشرط العوض كما ترى ، ولم أر أحدا من شراح الكتاب حام حول التعرض للجواب عن هذا النقض ولا لإيراده مع ظهور وروده جدا ، غير أن صاحب الدرر والغرر قصد إلى الجواب عنه حيث قال في متنه : هي تمليك عين بلا عوض . وقال في شرحه : أي بلا شرط عوض ; لأن عدم العوض شرط فيه لينتقض بالهبة بشرط العوض فتدبر . ا هـ كلامه .

أقول : فيه نظر ، إذ لو كان المراد بقولهم بلا عوض في تعريف الهبة معنى بلا شرط عوض ليعم ما كان بشرط العوض من الهبة بناء على ما تقرر في العلوم العقلية من أن بلا شرط شيء أعم من بشرط شيء ، ومن بشرط لا شيء لكان تعريف الهبة صادقا على البيع أيضا كما لا يخفى ، فلزم أن ينتقض به طردا على عكس ما في المعنى الظاهر فلا يندفع المحذور بذلك بل يشتد . ثم أقول : يمكن الجواب عن أصل النقض بأنه يجوز أن يكون المراد بقولهم بلا عوض في تعريف الهبة بلا اكتساب عوض ، فالمعنى أن الهبة هي تمليك المال بشرط عدم اكتساب العوض فلا ينتقض بالهبة بشرط العوض ، فإنها وإن كانت بشرط العوض إلا أنها ليست بشرط الاكتساب ، ألا ترى أنهم فسروا البيع بمبادلة المال بالمال بطريق الاكتساب ، وقالوا خرج بقولنا بطريق الاكتساب الهبة بشرط العوض . ثم أقول : بقي في التعريف المزبور شيء وهو أنه يصدق على الوصية بالمال ، فإنها أيضا تمليك المال بلا اكتساب عوض فلم يكن مانعا عن دخول الأغيار ، فلو زادوا قيد في الحال فقالوا : هي تمليك المال بلا عوض في الحال لخرج ذلك ، فإن الوصية تمليك بعد الموت لا في الحال .

( قوله : وتصح بالإيجاب والقبول إلخ ) قال صاحب النهاية : أي تصح بالإيجاب وحده في حق الواهب ، وبالإيجاب والقبول في حق الموهوب له ; لأن الهبة عقد تبرع فيتم بالمتبرع فصار هو عندنا بمنزلة الإقرار والوصية ، ولكن [ ص: 20 ] لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض . وثمرة ذلك تظهر فيما ذكرنا في مسائل متفرقة من كتاب الأيمان في قوله : ومن حلف أن يهب عبده لفلان فوهب ولم يقبل فقد بر في يمينه ، بخلاف البيع . ا هـ كلامه .

واقتفى أثره صاحب معراج الدراية كما هو دأبه في أكثر المحال ، ونسج صاحب غاية البيان معنى المقام على هذا المنوال أيضا وعزاه إلى الحصر والمختلف . وبنى صاحب العناية أيضا كلامه هاهنا على اختيار هذا المعنى حيث قال في شرح هذا المقام : وهذا بخلاف البيع من جهة العاقدين ، أما من جهة الواهب فلأن الإيجاب كاف ، ولهذا لو حلف أن يهب عبده لفلان فوهب ولم يقبل بر في يمينه بخلاف البيع ، وأما من جهة الموهوب له فلأن الملك لا يثبت بالقبول بدون القبض ، بخلاف البيع ا هـ .

والشارح العيني أيضا اقتفى أثر هؤلاء ، وبالجملة أكثر الشراح هاهنا على أن الهبة تتم بالإيجاب وحده . أقول : هذا الذي ذكروه وإن كان مطابقا جدا لما ذكره المصنف في مسائل متفرقة من كتاب الأيمان فإنه قال هناك : ومن حلف أن يهب عبده لفلان فوهب ولم يقبل بر في يمينه خلافا لزفر فإنه يعتبره بالبيع ; لأنه تمليك مثله . ولنا أنه عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولهذا يقال وهب ولم يقبل ا هـ . إلا أنه غير مطابق لما ذكره في هذا المقام ; لأن قوله أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد ، والعقد ينعقد بالإيجاب والقبول بمنزلة الصريح في أن عقد الهبة لا يتم إلا بالإيجاب والقبول كسائر العقود ، ويشهد بهذا أيضا قوله : والقبض لا بد منه لثبوت الملك ، إذ لو كان مراده أن الهبة عقد تبرع فيتم بالمتبرع ولكن لا يملكه الموهوب له إلا بالقبول والقبض لقال والقبول والقبض لثبوت الملك ، وهذا كله مما لا سترة به عند من له ذوق صحيح .

ثم إن صاحب النهاية ومعراج الدراية قد كانا صرحا قبيل هذا الكلام بأن ركن الهبة هو الإيجاب والقبول ، ولا يخفى أن ذاك التصريح منهما ينافي القول منهما هاهنا بأن الهبة تتم بالإيجاب وحده ، إذا لا شك أن الشيء لا يتم ببعض أركانه بدون حصول الآخر ضرورة انتفاء الكل بانتفاء جزء واحد منه . واعلم أن صاحب الكافي وصاحب الكفاية سلكا هاهنا مسلكا آخر فقالا وركنها الإيجاب والقبول ; لأنها عقد ، وقيام العقد بالإيجاب والقبول ; لأن ملك الإنسان لا ينتقل إلى الغير بدون تمليكه ، وإلزام الملك على الغير لا يكون بدون قبوله ، وإنما يحنث لو حلف أن لا يهب فوهب ولم يقبل ; لأنه إنما يمنع نفسه عما هو مقدور له وهو الإيجاب لا القبول ; لأنه فعل الغير . ا هـ كلامهما .

أقول : هذا التقرير وإن كان مناسبا لما ذكره المصنف هاهنا إلا أنه غير ملائم لما ذكره في مسائل متفرقة من كتاب الأيمان كما نقلناه آنفا ، وأيضا يرد عليه أن التعليل المذكور للحنث فيما لو حلف أن لا يهب فوهب ولم يقبل يقتضي أن يحنث أيضا فيما لو حلف أن لا يبيع فباع ولم يقبل ; لأن المقدور له في كل عقد هو الإيجاب لا القبول ، مع أنه لا يحنث في صورة البيع كما صرحوا به ، والحاصل أن كلمات القوم في هذا المقام لا تخلو عن الاضطراب ، وعن هذا قال صاحب غاية البيان : وأما ركنها فقد اختلف المشايخ فيه ، قال شيخ الإسلام خواهر زاده في مبسوطه : هو مجرد إيجاب الواهب وهو قوله : وهبت ولم يجعل قبول الموهوب له ركنا ; لأن العقد ينعقد بمجرد إيجاب الواهب ، ولهذا قال علماؤنا : إذا حلف لا يهب فوهب ولم يقبل يحنث في يمينه عندنا . وقال صاحب التحفة : ركنها الإيجاب والقبول .

ووجهه أن الهبة عقد والعقد هو الإيجاب والقبول إلى هنا كلامه . وقال صاحب البدائع : أما ركن الهبة فهو الإيجاب من الواهب ، فأما القبول من الموهوب له فليس بركن استحسانا . والقياس أن يكون ركنا وهو قول زفر . وفي قول قال : القبض أيضا ركن . وفائدة هذا الاختلاف تظهر فيمن حلف لا يهب هذا الشيء لفلان فوهبه له فلم يقبل أنه يحنث استحسانا ، وعند زفر لا يحنث ما لم يقبل ، وفي قول ما لم يقبل ويقبض ، وأجمعوا على أنه إذا حلف لا يبيع هذا الشيء لفلان فباعه فلم يقبل أنه لا يحنث ، إلى [ ص: 21 ] هنا كلامه ( قوله : ولأنه عقد تبرع ، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به وهو التسليم فلا يصح ) يعني لو ثبت الملك بمجرد العقد تتوجه المطالبة عليه بالتسليم فيؤدي إلى إيجاب التسليم على المتبرع وهو لم يتبرع به ، وإيجاب شيء لم يتبرع به يخالف موضوع التبرعات ، بخلاف المعاوضات ، كذا في الكافي وبعض الشروح .

ورد بأن المتبرع بالشيء قد يلزمه ما لم يتبرع به إذا كان من تمامه ضرورة تصحيحه ، كمن نذر أن يصلي وهو محدث لزمه الوضوء ، ومن شرع في صوم أو صلاة لزمه الإتمام . وأجيب بأنه مغالطة ، فإن ما لا يتم الشيء إلا به فهو واجب إذا كان ذلك الشيء واجبا كما ذكرت من الصور فإنه يجب بالنذر أو الشروع ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، والهبة عقد تبرع ابتداء وانتهاء ، فإنه لو وهب وسلم جاز له الرجوع فكيف قبل التسليم فلا يجب ما يتم به ، كذا في العناية أخذا من النهاية . أقول : فيه كلام ، أما أولا فلأن قوله فإنه لو وهب وسلم جاز له الرجوع فكيف قبل التسليم منقوض بالهبة للقريب وبالهبة المعوض عنها وبغيرهما مما يتحقق فيه المانع عن الرجوع كما سيأتي . وأما ثانيا فلأنه إذا جاز له الرجوع قبل التسليم وبعده لم يكن في إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به وهو التسليم ، إذ بجواز الرجوع قبل التسليم ينتفي لزوم التسليم فمن أين يجب إلزام التسليم فليتأمل في الدفع .




الخدمات العلمية