الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة ، والأجرة معلومة ) لما روينا ، ولأن الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع ( وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة في الإجارة ) ; لأن الأجرة ثمن المنفعة ، فتعتبر بثمن المبيع . [ ص: 62 ] وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان . [ ص: 63 ] فهذا اللفظ لا ينفي صلاحية غيره ; لأنه عوض مالي ( والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار الدور ، للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد على مدة معلومة أي مدة كانت ) ; لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت . وقوله أي مدة كانت إشارة إلى أنه يجوز طالت المدة أو قصرت لكونها معلومة ولتحقق الحاجة إليها عسى ، [ ص: 64 ] إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين هو المختار . قال : ( وتارة تصير معلومة بنفسه كمن استأجر رجلا على صبغ ثوبه أو خياطته أو استأجر دابة ; ليحمل عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها ) ; لأنه إذا بين الثوب ولون الصبغ وقدره وجنس الخياطة والقدر المحمول وجنسه والمسافة صارت المنفعة معلومة فيصح العقد ، [ ص: 65 ] وربما يقال : الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار القصار والخياط ، ولا بد أن يكون العمل معلوما وذلك في الأجير المشترك ، وقد تكون عقدا على المنفعة كما في أجير الوحد ، ولا بد من بيان الوقت . قال : ( وتارة تصير المنفعة معلومة بالتعيين والإشارة كمن استأجر رجلا ، لينقل له هذا الطعام إلى موضع معلوم ) ; لأنه إذا أراه ما ينقله والموضع الذي يحمل إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد .

التالي السابق


( قوله : وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان ) أي كالأعيان التي ليست من ذوات الأمثال كالحيوان ، والثياب مثلا ، فإنها إذا كانت معينة صلح أن تكون أجرة كما إذا استأجر دارا بثوب معين ، وإن كان لا يصلح ثمنا ، لما تقرر في البيوع أن الأموال ثلاثة : ثمن محض كالدراهم ومبيع محض كالأعيان التي ليست من ذوات الأمثال وما كان بينهما كالمكيلات ، والموزونات ، كذا في الشروح . قال صاحب العناية : وفيه نظر ، فإن المقايضة بيع وليس فيها إلا العين من الجانبين ، فلو لم تصلح العين ثمنا كانت بيعا بلا ثمن ، وهو باطل .

ويمكن أن يجاب عنه بأن النظر على المثال ليس من دأب المناظرين ، فإذا كان الأصل صحيحا جاز أن يمثل بمثال آخر فليمثل بالمنفعة فإنها تصلح أجرة إذا اختلف جنس المنافع . كما إذا استأجر سكنى دار بركوب دابة ولا تصلح ثمنا أصلا ، إلى هنا كلامه . أقول : لا النظر شيء ولا الجواب . أما النظر فلأن مراد المصنف بالثمن هاهنا ما يجب في الذمة ، وعن هذا ترى صاحب الكافي وكثيرا من الشراح يقولون بعد قولهم : لأن الأجرة عوض مالي فيعتمد وجود المال . وأما الثمن فهو ما يجب في الذمة فيختص بما يثبت في الذمة . ولقد أفصح عنه صاحب العناية نفسه أيضا فيما بعد حيث قال : إن الثمن مشروط بكونه مما يجب في الذمة فيختص بذلك بخلاف الأجرة ، ولا شك في عدم صلاحية الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال ; لأن تكون ثمنا بهذا المعنى ، ولا في عدم بطلان أن تكون المقايضة بيعا بلا ثمن بهذا المعنى ، ألا يرى أن الشارح المذكور نفسه قال في أول كتاب البيوع : وأنواع البيع أربعة : بيع السلعة بمثلها ويسمى مقايضة ، وبيعها بالدين أعني الثمن ، وبيع الثمن بالثمن كبيع النقدين ويسمى الصرف ، وبيع الدين بالعين ، ويسمى سلما انتهى .

حيث جعل الدين مقابلا للعين ، وفسر الدين بالثمن ، وجعل أحد أنواع البيع وهو المسمى بالمقايضة ما لا ثمن فيه أصلا . نعم للثمن معنى آخر وهو ما يكون عوضا عن المبيع ، نص عليه في المغرب وغيره ، وذلك المعنى يعم الدين ، والعين ، وهو الذي لا يتحقق البيع بدونه ، ويبطل كون المقايضة بيعا بلا ثمن بذلك المعنى ، ولكنه ليس بمراد المصنف بالثمن في قوله وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان ، فلا يرد النظر المزبور عليه جدا . وأما الجواب فلأنه من ضيق العطن إذ فيه اعتراف ببطلان المثال الذي ذكره المصنف وحاشا له . ثم أقول : بقي هاهنا شيء ، وهو أن لقائل أن يقول لا شك أن مراد المصنف بالثمن في قوله وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا هو ما يجب في الذمة ، وأن تمثيله ما لا يصلح ثمنا بقوله كالأعيان صحيح على هذا المعنى المراد ، [ ص: 63 ] إلا أنه لم يحمل الثمن الواقع في لفظ القدوري وهو قوله : وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون أجرة على المعنى الذي يعم الدين ، والعين ، وهو العوض المقابل للمبيع كما حمل الزيلعي الثمن الواقع في قول صاحب الكنز ، وما صح ثمنا صح أجرة على ذلك المعنى الأعم ، مع أن ما ذكره المصنف في تعليل مسألة القدوري بقوله ; لأن الأجرة ثمن المنفعة فتعتبر بثمن المبيع يتحمل التعميم لصورتي الدين ، والعين كما ترى .

ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما كان المتبادر من لفظ الثمن في عرف الفقهاء هو معنى ما يجب في الذمة وكان لفظ القدوري غير موف حق المقام على تقدير حمل الثمن على المعنى الآخر العام للعين أيضا فإن ما لا يجوز أن يكون ثمنا في البيع على المعنى العام للعين جاز أن يكون أجرة أيضا كالمنفعة فإنها لا تصلح ثمنا في البيع أصلا وتصلح أجرة فيما إذا اختلف جنس المنافع كما صرحوا به . حمل المصنف لفظ الثمن الواقع في مسألة القدوري على ما هو المتبادر منه وقال : تتميما لهاتيك المسألة وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان ، كما قال الشيخ أبو نصر البغدادي في شرح مختصر القدوري ، وهذا الذي ذكره ليس على وجه الحد وأنه لا يجوز غيره ، يبين ذلك أن الأعيان لا تكون أثمانا وتكون أجرة ، وإنما ذكر ذلك ; لأنه هو الغالب ، إلى هنا لفظه . ولكن الإنصاف أن المنفعة كانت حقيقا بأن تذكر في تمثيل ما لا يصلح ثمنا ويصلح أجرة ، فإن كون المنفعة مما يصلح أجرة أخفى من كون الأعيان منه ، وليس ذلك مما يمكن أن يستفاد من مسألة القدوري ، بخلاف كون الأعيان منه فإنه يمكن أن يستفاد منها بحمل الثمن على المعنى العام للعين أيضا كما عرفت آنفا ( قوله : لأنه عوض مالي ) أي ; لأن الأجرة على تأويل الأجر عوض مالي فيعتمد وجود المال ، والأعيان مال فتصح أن تكون أجرة ، كذا في النهاية وغيرها . وقال صاحب العناية بعدما شرح المحل على هذا المنوال . ولقائل أن يقول الثمن عوض مالي إلخ . ويمكن أن يجاب عنه بأن الثمن مشروط بكونه مما يجب في الذمة فيختص بذلك كالنقود ، والمقدرات الموصوفة التي تجب في الذمة ، بخلاف الأجرة ، إلى هنا كلامه .

أقول : [ ص: 64 ] ولقائل أن يقول : إذا كان الثمن مشروطا بكونه مما يجب في الذمة كانت الأجرة أيضا مشروطة بكونها ثمن المنفعة كما صرح به المصنف في تعليل مسألة القدوري . فإن قيل : إن المشروط بذلك ثمن المبيع لا ثمن المنفعة . قلنا : فلقائل أن يقول إذا كان ثمن المنفعة مخالفا لثمن المبيع في أن يكون أحدهما مشروطا بشيء دون الآخر ، فهل يتم القياس المستفاد من قول المصنف ; لأن الأجرة ثمن المنفعة فتعتبر بثمن المبيع فليتأمل .

وأورد بعض الفضلاء على الجواب الذي ذكره صاحب العناية بوجه آخر حيث قال : فيلزم خلو البيع عن الثمن فيما إذا بيع الدار بالدار ، إذ لا يجب العقار في الذمة كما لا يخفى ا هـ .

أقول : إن كان مراده بهذا الكلام مجرد إلزام صاحب العناية بناء على ما قاله في نظره السابق من أنه لو لم تصلح العين ثمنا كانت المقايضة بيعا بلا ثمن وهو باطل فله وجه ، وإن كان مراده به إيراد إشكال على ذلك الجواب في الحقيقة فليس بصحيح ، إذ اللازم من الجواب المذكور خلو البيع عن الثمن بمعنى ما يجب في الذمة فيما إذا بيع الدار بالدار لا خلوه عن الثمن بمعنى العوض المقابل للمبيع في تلك الصورة ، والمحذور خلوه عن الثمن بالمعنى الثاني دون المعنى الأول كما بيناه من قبل ( قوله : وتارة تصير معلومة بنفسه ) أي بنفس عقد الإجارة ، كذا ذكر الشراح قاطبة ولم ينقل عامتهم نسخة أخرى .

وأما صاحب غاية البيان فقال بعد ذكر ذلك : وفي بعض نسخ المختصر : وتارة تصير معلومة بالتسمية . أقول : لعل الصواب هذه النسخة ; لأن المنافع لا تصير معلومة في هذا النوع بنفس العقد فقط ، بل إنما تصير معلومة بتسمية أمور كبيان الثوب وألوان الصبغ وقدره في استئجار رجل على صبغ ثوب وبيان الثوب وجنس الخياطة في استئجار رجل على خياطة ثوب وبيان القدر المحمول وجنسه ، والمسافة في استئجار رجل دابة للحمل أو الركوب على ما أشار المصنف إلى ذلك كله حيث قال : لأنه إذا بين الثوب وألوان الصبغ وقدره وجنس الخياطة ، والقدر المحمول وجنسه ، والمسافة صارت المنفعة معلومة فصح العقد ، فكما أن المنافع لا تصير معلومة في النوع السابق ، والنوع اللاحق بنفس العقد فقط بل إنما تصير معلومة في النوع السابق ببيان المدة ، وفي النوع اللاحق بالتعيين والإشارة ، كذلك لا تصير معلومة في هذا النوع بنفس العقد فقط ، بل إنما تصير معلومة فيه بتسمية ما لا بد منه من الأمور اللازمة البيان كما أشير إلى بعضها في الأمثلة المذكورة ، فلم يكن لنسبة صيرورة المنافع معلومة في هذا النوع إلى نفس العقد وجه ظاهر .

وعن هذا لا ترى عبارة بنفسه مذكورة في شيء من الكتب المعتبرة سوى نسخة هذا الكتاب على ما ذكره الشراح ، وإنما المذكور في سائر الكتب موضع بنفسه بالتسمية كما وقع في الكنز ، والمختار ، أو بذكر العمل كما وقع في الوقاية وبعض المتون .

( قوله : وربما يقال الإجارة [ ص: 65 ] قد تكون عقدا على العمل ، إلى قوله : ولا بد من بيان الوقت ) أقول : في هذا التقسيم نوع إشكال ، إذ قد مر في صدر الكتاب أن الإجارة عقد على المنافع بعوض فكيف يصح تقسيمها إلى العقد على العمل وإلى العقد على المنفعة ، وهذا يلزم منه تقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره ، اللهم إلا أن تحمل عبارة التقسيم على المسامحة فيكون المراد الإجارة قد تكون عقدا على منفعة العمل ، وقد تكون عقدا على منفعة الأعيان لكنه غير منفهم من نفس اللفظ كما لا يخفى . ثم أقول : كان حقا على المصنف أن يؤخر بيان هذا التقسيم الذي ذكره بعض المشايخ كصاحب الأسرار وغيره عن ذكر القسم الثالث من التقسيم المذكور في نفس الكتاب ، وقد وسطه في البيان كما ترى ، وكأن صاحب الكافي تنبه لسماجة هذا التحرير حيث أخر بيان هذا التقسيم المثنى عن تمام ذكر أقسام ذلك التقسيم المثلث .

واعترض صاحب الغاية على قول المصنف كما في أجير الوحد حيث قال : ولنا فيه نظر ; لأن إجارة أجير الوحد أيضا عقد على العمل ، ولكن يشترط فيها بيان المدة ولهذا جعله صاحب التحفة أحد نوعي الاستئجار على الأعمال كما ذكرنا آنفا ، فلو قال صاحب الهداية وقد تكون عقدا على المنفعة كاستئجار الدور ، والحوانيت ونحوها كان أولى . ا هـ كلامه .

أقول : ليس هذا بشيء ; لأن إجارة أجير الوحد ليست بعقد على العمل ولهذا يستحق أجير الوحد الأجرة بتسليم نفسه في المدة وإن لم يعمل كما صرحوا به قاطبة كما سيأتي في الكتاب ، ولو كانت عقدا على العمل لما استحقها بدون العمل بل إنما هي عقد على منافع نفسه مطلقا ولهذا لا يتمكن من إيجاب منافعه لغيره ، وتعيين العمل في بعض الصور كرعي الغنم ونحوه ; لصرف لمنفعة المستحقة إلى تلك الجهة ، وسيظهر هذا كله في باب ضمان الأجير . وجعل صاحب التحفة ذلك أحد نوعي الاستئجار على الأعمال لا يكون حجة على المصنف . ولو مثل المصنف ما يكون عقدا على المنفعة باستئجار الدور ونحوها دون أجير الوحد لفات التنبيه على أن إجارة أجير الوحد من هذا القسم وهو مقصود لخفاء ذلك على البعض فتنبه والله أعلم .




الخدمات العلمية