الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب ) لأنهما يملكان الاكتساب كالمكاتب ، ولأن في تزويج الأمة والكتابة نظرا له ، ولا نظر فيما سواهما والولاية نظرية . قال ( فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك عند أبي حنيفة ومحمد ، وقال أبو يوسف : له أن يزوج أمته ) [ ص: 177 ] وعلى هذا الخلاف المضارب والمفاوض والشريك شركة عنان هو قاسه على المكاتب واعتبره بالإجارة . [ ص: 178 ] ولهما أن المأذون له يملك التجارة وهذا ليس بتجارة ، فأما المكاتب يتملك الاكتساب وهذا اكتساب ، [ ص: 179 ] ولأنه مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة دون الإجارة ، إذ هي مبادلة المال بالمال ولهذا لا يملك هؤلاء كلهم تزويج العبد ، والله أعلم .

التالي السابق


( قوله وكذلك الأب والوصي في رقيق الصغير بمنزلة المكاتب ) يعني يملك الأب والوصي في رقيق الصغير ما يملكه المكاتب في رقيق نفسه ، ولا يملكان في رقيق الصغير ما لا يملكه في رقيق نفسه فيملكان تزويج أمة الصغير وكتابة عبده لا تزويجه ولا بيعه من نفسه ولا إعتاقه على مال ، كذا قالوا .

واعترض عليه صاحب الإصلاح والإيضاح حيث قال فيما نقل عنه في الحاشية لقائل أن يقول : الإعتاق على مال أنفع من البيع على ما مر ولا مانع هاهنا ، بخلاف المكاتب فإن كون العتق فوق الكتابة مانع ثمة فإذا ملكا البيع كان ينبغي أن يملكا العتق على مال أيضا ا هـ .

أقول : لم يمر في هذا الكتاب ولا في كتابه ولا في شيء من الكتب أن العتق أنفع من البيع ، وإنما الذي مر وتقرر في عامة الكتب أن الكتابة أنفع من البيع لأنها لا تزيل الملك إلا بعد وصول البدل إلى المالك والبيع يزيله قبيله ، ولا شك أن الإعتاق على مال يزيله قبله أيضا مع ما فيه من إثبات الدين في ذمة المفلس كما مر آنفا فلم يكن أنفع من البيع لا محالة ولا نظير البيع فبطل قوله فإذا ملكا البيع كان ينبغي أن يملكا العتق على مال أيضا .

( قوله فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف : له أن يزوج أمته ) أقول : في هذا التحرير نوع إشكال ، لأنه إن كان المشار إليه بذلك في قوله فلا يجوز له شيء من ذلك ما ذكره قبيل هذه المسألة من قوله وإن أعتق عبده على مال أو باعه نفسه أو زوج عبده لم يجز ، فمع كون كلمة أما في قوله فأما المأذون له فلا يجوز له شيء من ذلك مما يأباه ، إذ حكم ما ذكر قبيله أيضا عدم الجواز ينافيه قوله وقال أبو يوسف له أن يزوج أمته ، فإن تزويج الأمة ليس بداخل في هاتيك الصور المذكورة [ ص: 177 ] قبيل هذه المسألة فما معنى بيان خلاف أبي يوسف فيه ، وإن كان المشار إليه بذلك مجموع ما ذكر في هذا الباب فيتجه عليه أنه يجوز له بعض ذلك كالبيع والشراء فإنهما يجوزان للمأذون له قطعا كما يجوزان للمكاتب فلا معنى للسلب الكلي .

فإن قلت : المشار إليه بذلك مجموع ما ذكر في هذا الباب أصالة ، ومسألة جواز البيع والشراء والسفر إنما ذكرت في أول هذا الباب تمهيدا لقوله فإن شرط عليه أن لا يخرج من الكوفة إلخ كما ذكره صاحب العناية ثمة . قلت : قد عرفت هناك أن ما يصلح للتمهيد إنما هو مسألة جواز السفر دون مسألتي جواز البيع وجواز الشراء ، فحديث الذكر للتمهيد دون الأصالة لا يتم عذرا لا هناك ولا هنا .

واعلم أن صاحب الوقاية ذكر في هذا الباب أولا ما يصح من تصرفات المكاتب بقوله صح بيعه وشراؤه وسفره وإن شرط ضده وإنكاح أمته وكتابة عبده . وثانيا ما لا يصح منها بقوله لا تزوجه إلا بإذنه ولا هبته ولو بعوض وتصدقه إلا بيسير وتكفله وإقراضه وإعتاق عبده ولو بمال . ثم لما قال : وشيء من ذا لا يصح من مأذون ومضارب وشريك تفطن شارحها صدر الشريعة لما في المشار إليه من الاشتباه والإشكال .

فحمل الإشارة على المنفيات فقط وهي من قوله لا تزوجه إلخ لكونها على قرن واحد ولم يحملها على مجموع المنفيات والمثبتات لعدم تمامها في صورتي البيع والشراء من المثبتات . وأما في هذا الكتاب فلا يتيسر هذا التوجيه . أما أولا فلأن المنفيات لم تذكر فيه على قرن واحد بل ذكرت كل واحدة من المنفيات والمثبتات مختلطة مع الأخرى فلا تفهم الإشارة إلى البعض دون الآخر من اللفظ .

وأما ثانيا فلأن قوله وقال أبو يوسف له أن يزوج أمته يمنع ذلك . لأن تزويج الأمة من قبيل المثبتات في المكاتب ، وأنا أتعجب من شراح هذا الكتاب كيف لم يتعرض أحد منهم هاهنا لا للتوجيه ولا للاستشكال مع ظهور الركاكة في التحرير ( قوله هو قاسه على المكاتب واعتبره بالإجارة ) أي أبو يوسف قاس المأذون له على المكاتب ، فإن المكاتب يجوز له أن يزوج أمته فكذلك المأذون له ، واعتبر التزويج بالإجارة فإن المأذون له يجوز له أن يؤجر عبده وأمته فكذلك يجوز له أن يزوج أمته كذا في الشروح . أقول : في كل [ ص: 178 ] من قياسه واعتباره نظر .

أما في الأول فلأنه لو صح قياس المأذون له على المكاتب فيما يجوز له لصح قياسه عليه في كتابة عبده أيضا ، فإن المكاتب يجوز له أن يكاتب عبده فينبغي أن يجوز للمأذون له أيضا أن يكاتب عبده بطريق القياس ، مع أن كتابة المأذون له عبده مما لا يجوز بالاتفاق .

وأما في الثاني فإنه لو تم اعتبار التزويج بالإجارة من حيث إن جوازها للمأذون له يقتضي جوازه له أيضا لزم أن يجوز تزويج عبده أيضا كما يجوز إجارة عبده وأمته على ما نصوا عليه مع أنه لا يجوز له تزويج عبده بالإجماع . ثم إن صاحب النهاية قال : ثم استعمل لفظ القياس في العينين وهما المأذون والمكاتب ، ولفظ الاعتبار في الفعلين وهما التزويج والإجارة ، لأن المماثلة بين هذين العينين ظاهرة ، وإذ في كل منهما فك الحجر وإطلاق التصرف فكان شرط القياس موجودا فاستعمل لفظ القياس لذلك .

وأما في هذين الفعلين فالمماثلة بينهما من حيث الفعلية لا غير ، لما أن الإجارة من المعاوضات المالية من الجانبين لأن للمنفعة حكم المالية ; ألا يرى أن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بمقابلة المنافع كما لا يثبت دينا بمقابلة الأموال الحقيقية في البيع فكان استعمال لفظ الاعتبار هناك أليق ا هـ كلامه . أقول : فيه بحث .

أما أولا فلأنه إن أراد بقوله إذ في كل منهما فك الحجر وإطلاق التصرف أن في كل منهما فك الحجر وإطلاق جميع التصرفات فليس كذلك قطعا ، إذ لا يجوز لكل واحد منهما كثير من التصرفات على ما فصل في كتابيهما ، وإن أراد بذلك أن في كل منهما فك الحجر وإطلاق التصرف الذي أطلق في الآخر أيضا فليس كذلك أيضا ; ألا يرى أنه يجوز للمكاتب أن يكاتب عبده ولا يجوز ذلك للمأذون له بالاتفاق ، وإن أراد بذلك أن في كل منهما فك الحجر وإطلاق التصرف بعض من التصرفات في الجملة فبهذا القدر لا تتحقق المماثلة المصححة للقياس فضلا عن ظهورها .

وأما ثانيا فلأن قوله لما أن الإجارة من المعاوضات المالية من الجانبين إلخ لا يدل على أن تكون المماثلة بين ذينك الفعلين من حيث الفعلية لا غير ، فإن انتفاء المماثلة الغير الفعلية بينهما من الحيثية المخصوصة لا يستدعي انتفاءها من الحيثيات الأخر التي من جملتها كون كل منهما من طريق الكسب فلا يتم التقريب .

وقال صاحب العناية بعد نقل ما في النهاية وفيه نظر ، لأن المراد بالقياس إن كان هو الشرعي فذلك لا يكون بين عينين ، وإن كان غير ذلك فلا نسلم أولويته ا هـ . أقول : هذا النظر مندفع ، فإن المراد بالقياس هو الشرعي كما يرشد إليه جعله دليلا على المسألة الشرعية .

قوله فذلك لا يكون بين عينين إن أراد به أنه لا يكون بين نفسي العينين من حيث ذاتيهما فهو مسلم ، ولكن ليس مراد صاحب النهاية باستعمال القياس بين العينين استعماله بينهما من تلك الحيثية ، بل مراده بذلك استعماله بينهما من حيث عملهما وتصرفهما ، ولا ريب في جريان القياس الشرعي بينهما من هذه الحيثية ، وإن أراد به أنه لا يكون بين العينين بحيثية من الحيثيات فهو فاسد استعمالا في معنى المماثلة من لفظ الاعتبار ، حتى أن معنى المماثلة كان معتبرا في أصل معنى القياس من حيث اللغة ، وعن هذا قال في صحاح الجوهري وغيره : قاس الشيء بالشيء قدره على مثاله ، فكان استعمال لفظ القياس في الشيئين اللذين بينهما مماثلة ظاهرة ، واستعمال لفظ الاعتبار في الأمرين اللذين بينهما مماثلة خفية أولى من العكس قطعا ، لأن فيه توفية الأقوى للأقوى والأضعف للأضعف .

ثم إن رأى صاحب العناية هاهنا أن يكون لفظ القياس ولفظ الاعتبار مترادفين حيث قال قبل نقل ما في النهاية : وقاسه واعتبره مترادفان ا هـ .

أقول : إن أراد أنهما مترادفان من حيث اللغة فهو ممنوع جدا ، وإن أراد [ ص: 179 ] أنهما مترادفان في عرف الفقهاء أو المصنفين فلا وجه فليتبع ( قوله ولأنه مبادلة المال بغير المال فيعتبر بالكتابة دون الإجارة إذ هي مبادلة المال بالمال ) أقول : يرد على قوله إذ هي : أي الإجارة مبادلة المال بالمال أنه يلزم حينئذ أن ينتقض تعريفهم البيع بمبادلة المال بمال بالإجارة مع أنه تعريف مسلم متفق عليه .

وأورد عليه بعض الفضلاء بوجه آخر حيث قال : فيه بحث ، لأنه مخالف لما ذكره الشارحون في وجه مناسبة الكتابة فليتأمل ا هـ . أقول : يمكن التوفيق بين ما ذكره المصنف هاهنا وبين ما ذكره الشراح في وجه مناسبة الكتابة بالإجارة في صدر كتاب المكاتب وهو قولهم أورد عقد الكتابة بعد عقد الإجارة لمناسبة أن كل واحد منهما عقد يستفاد به المال بمقابلة ما ليس بمال ا هـ ، بأن مرادهم ما ليس بمال ما ليس بمال حقيقة ، ومراد المصنف بالمال في قوله إذ هي مبادلة المال بالمال ما هو مال حكما وإن لم يكن مالا حقيقة ، فإن أحد البدلين في عقد الإجارة وهو المنفعة جعل في حكم المال بتسليم رقبة العين وإقامتها مقام المنفعة ، بخلاف عقد الكتابة ، ويفصح عن كون المراد بالمال في قوله إذ هي مبادلة المال بالمال ما قلنا قول صاحب معراج الدراية في تعليل ذلك لما ذكرنا من أن المنفعة في الإجارة في حكم المال ا هـ .

ثم أقول : ويمكن أن يحمل المال في تعريفهم البيع بمبادلة المال بالمال على المال الحقيقي دون ما يتناول الحكمي بناء على قاعدة انصراف المطلق على الكمال ، فحينئذ لا يرد انتقاض تعريف البيع بالإجارة لأن أحد البدلين هناك مال حكما لا حقيقة كما عرفته آنفا . ثم إن عامة الشراح قالوا في تعليل قول المصنف إذ هي مبادلة المال بالمال لأن المنافع في باب الإجارة مال .

وقال صاحب النهاية بعد ذلك التعليل : ولأن المنافع في باب الإجارة تصلح مهرا في النكاح مع أن النكاح شرع ابتغاؤه بالمال لقوله تعالى { أن تبتغوا بأموالكم } ا هـ وهكذا قال صاحب العناية أيضا غير أنه لم يذكر الواو في قوله لأن المنافع في باب الإجارة تصلح مهرا في باب النكاح بل جعله علة لما قبله .

أقول : فيه بحث لأنه مخالف لما ذكره المصنف في باب المهر من كتاب النكاح في تعليل قوله وإن تزوج حر امرأة على خدمته سنة أو على تعليم القرآن فلها مهر مثلها حيث قال بعد بيان خلاف الشافعي في ذلك : ولنا أن المشروع إنما هو الابتغاء بالمال والتعليم ليس بمال ، وكذا المنافع على أصلنا ا هـ . فإنه صريح في أن المنافع ليست بمال على أصلنا سيما في باب النكاح فتأمل .




الخدمات العلمية