الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن انتهى إلى الإمام في صلاة الفجر وهو لم يصل ركعتي الفجر : [ ص: 475 ] إن خشى أن تفوته ركعة ويدرك الأخرى يصلي ركعتي الفجر عند باب المسجد ثم يدخل ) لأنه أمكنه الجمع بين الفضيلتين ( وإن خشى فوتهما دخل مع الإمام ) لأن ثواب الجماعة أعظم ، [ ص: 476 ] والوعيد بالترك ألزم ، بخلاف سنة الظهر حيث يتركها في الحالتين لأنه يمكنه أداؤها في الوقت بعد الفرض هو الصحيح ، وإنما الاختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله في تقديمها على الركعتين وتأخيرها عنهما ، ولا كذلك سنة الفجر على ما نبين إن شاء الله تعالى . [ ص: 477 ] والتقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة . والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل هو المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام .

التالي السابق


( قوله وإن خشي فوتهما ) الحاصل أنه إذا أمكن الجمع بين الفضيلتين ارتكب الأرجح ، وفضيلة الفرض [ ص: 476 ] بجماعة أعظم من فضيلة ركعتي الفجر لأنها تفضل الفرض منفردا بسبع وعشرين ضعفا لا يبلغ ركعتا الفجر ضعفا واحدا منها لأنها أضعاف الفرض ، والوعيد على الترك للجماعة ألزم منه على ركعتي الفجر ، وهو ما تقدم في باب الإمامة من قول ابن مسعود : لا يتخلف عنها إلا منافق ، وما قدمناه من همه عليه الصلاة والسلام بتحريق بيوت المتخلفين ومن رواية الحاكم { من سمع النداء } الحديث ، فارجع إليها ، ولو كان يرجو إدراكه في التشهد قيل هو كإدراك الركعة عندهما ، وعلى قول محمد لا اعتبار به كما في الجمعة ، والوجه اتفاقهم على صلاة الركعتين هنا لما سنذكر ، وما عن الفقيه إسماعيل الزاهد أنه ينبغي أن يشرع في ركعتي الفجر ثم يقطعهما فيجب القضاء فيتمكن من القضاء بعد الصلاة دفعه الإمام السرخسي بأن ما وجب بالشروع ليس أقوى مما وجب بالنذر ، ونص محمد أن المنذور لا يؤدى بعد الفجر قبل الطلوع ، وأيضا شروع في العبادة بقصد الإفساد .

فإن قيل : يؤديها مرة أخرى .

قلنا : إبطال العمل قصدا منهي ، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ( قوله حيث يتركها في الحالتين ) أي في حال خوف فوت الفرض وحال خوف فوت بعضه ( قوله هو الصحيح ) احتراز عن قول بعضهم لا يقضيها ( قوله وإنما الخلاف إلخ ) فعند أبي يوسف بعد الركعتين وهو قول أبي حنيفة ، وعلى قول محمد قبلهما ، وقيل الخلاف على عكسه ، والأولى تقديم الركعتين لأن الأربع فاتت عن الموضع المسنون فلا تفوت الركعتان أيضا عن موضعهما قصدا بلا ضرورة .

وفي المصفى وتبعه شارح الكنز جعل قولهما بتأخير الأربع بناء على أنها لا تقع سنة بل نفلا مطلقا ، وعند محمد تقع سنة فيقدمها على الركعتين ، والذي يقع عندي أن هذا من تصرف المصنفين ، فإن المذكور من وضع المسألة الاتفاق على قضاء الأربع ، وإنما الخلاف في تقديمها على الركعتين وتأخيرها عنهما والاتفاق على أنها تقضى اتفاق على وقوعها سنة ، ألا ترى أنهم لما اختلفوا في سنة الفجر هل تقع بعد الشمس سنة أو نفلا مبتدأ حكوا الخلاف في أنها تقضى أولا ، فلو كانا يقولان في سنة الظهر إنها تكون نفلا مطلقا لجعلوها خلافية في أصل القضاء . فالذي لا يشك فيه أنهم إذا قالوا تقضى أولا معناه أنها تفعل بعد ذلك الوقت وتقع سنة كما هي في ذلك الوقت أو لا تقع سنة ، ويؤيد ذلك ما في فتاوى قاضي خان في باب التراويح : إذا فاتت التراويح لا تقضى بجماعة وهل تقضى بلا جماعة ؟ قيل نعم ما لم يدخل وقت تراويح أخرى ، وقيل ما لم يمض رمضان ، وقيل لا تقضى ، قيل وهو الصحيح لأنها دون سنة المغرب والعشاء ، وتلك لا تقضى إذا فاتت بلا فريضة فكذا التراويح ، ثم قال : فإن قضاها وحده كان نفلا مستحبا ولا يكون تراويح ا هـ .

دل أنه على اعتبار جعله قضاء يقع تراويح ، وقد روي عن عائشة { أنه صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر قضاها بعد الركعتين } [ ص: 477 ] قال الترمذي حسن غريب ولذا اتفقوا على قضائها كذلك ( قوله والتقييد بالأداء عند باب المسجد يدل على الكراهة في المسجد إذا كان الإمام في الصلاة ) لما روي عنه صلى الله عليه وسلم { إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة } ولأنه يشبه المخالفة للجماعة والانتباذ عنهم ، وعلى هذا فينبغي أن لا تصلى في المسجد إذ لا يمكن عند باب المسجد مكان لأن تركه المكروه مقدم على فعل السنة ، غير أن الكراهة تتفاوت ، فإن كان الإمام في الصيفي فصلاته إياها في الشتوي أخف من صلاتها في الصيفي وقلبه ، وأشد ما يكون كراهة أن يصليها مخالطا للصف كما يفعله كثير من الجهلة ( قول والأفضل في عامة السنن والنوافل المنزل ) ذهب جماعة من أهل العربية إلى أن لفظ عامة بمعنى الأكثر وفيه خلاف ، وذكر المشايخ أنه المراد في قولهم قال به عامة المشايخ ونحوه ويجب اعتباره كذلك هنا بالنسبة إلى التراويح وتحية المسجد في السنن .

وأما في النوافل فلا ، وعلى هذا فيجب كون النوافل عطفا على لفظ عامة معمولا للحرف لا على السنن .

فإن قلت : فهل يعتبر بالنسبة إلى ركعتي المغرب والظهر على ما قال في شرح الآثار إن الركعتين بعد الظهر والمغرب يؤديهما في المسجد لا ما سواهما .

والجواب هذا قول البعض ، وعامتهم على إطلاق الجواب فعبارة الكتاب ، وبه أفتى الفقيه أبو جعفر قال : إلا أن يخشى أن يشتغل عنها إذا رجع ، فإن لم يخف فالأفضل البيت ، وما قدمنا عن أبي حنيفة في باب النوافل بعد نقل كلام الحلواني لا ينافي هذا ولا ما صرح الزاهدي به من كراهة سنة المغرب في المسجد ، إذ وقوعها سنة لا ينافي ثبوت كراهة ما فيها ، ألا ترى أنه سماها سنة مع الكراهة وقد ذهب بعض العلماء من غير المذهب إلى أنه يصير عاصيا .

وحكي عن أبي ثور كأنه ذهب إلى قوله صلى الله عليه وسلم { اجعلوها في بيوتكم } واختلف قول الإمام أحمد روى عنه ابنه عبد الله أنه بلغه عن رجل سماه أنه قال : لو أن رجلا صلى الركعتين بعد المغرب في المسجد ما أجزأه ، فقال : ما أحسن ما قال هذا الرجل وما أحسن ما انتزع وقال الإمام أحمد : السنة أن يصلي ركعتي المغرب في بيته ، كذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه . قال السائب بن يزيد : لقد رأيت الناس في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا انصرفوا من المغرب انصرفوا جميعا حتى لا يبقى في المسجد أحد كأنهم لا يصلون بعد المغرب حتى يصيرون إلى أهليهم ا هـ .

وقدمنا من رواية أبي داود والترمذي والنسائي { قوله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني عبد الأشهل لما رآهم يصلون بعد المغرب هذه صلاة البيوت } ورواه ابن ماجه من حديث رافع بن خديج وقال فيه { اركعوا هاتين الركعتين في بيوتكم } وتقدم من الصحيح حديث ابن عمر : { حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات } إلخ . وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها { كان صلى الله عليه وسلم يصلي في بيته [ ص: 478 ] قبل الظهر أربعا ثم يخرج فيصلي بالناس ، ثم يدخل فيصلي ركعتين ، وكان يصلي بالناس المغرب ثم يدخل فيصلي ركعتين } وفي الصحيحين عن حفصة وابن عمر { أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين بعد الجمعة في بيته } وسنذكر سنة الجمعة في بابها إن شاء الله تعالى .

وفي الصحيحين { أنه صلى الله عليه وسلم احتجر حجرة في المسجد من حصير في رمضان الحديث ، إلى أن قال فعليكم بالصلاة في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة } وأخرج أبو داود { صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة } وقوله صلى الله عليه وسلم { صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام } محمول على المكتوبة المستثناة فيما قبله .




الخدمات العلمية