الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة ، ويكره بيع أرضها ) وهذا عند [ ص: 61 ] أبي حنيفة . وقالا : لا بأس ببيع أرضها أيضا . وهذا رواية عن أبي حنيفة ; لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء . ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام { ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث } ولأنها حرة محترمة لأنها فناء الكعبة . وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها حتى لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها ، فكذا في حق البيع ، بخلاف البناء ; لأنه خالص ملك الباني . ويكره إجارتها أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام { من آجر أرض مكة فكأنما أكل الربا } ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره

التالي السابق


( قوله وقالا : لا بأس ببيع أرضها وهو رواية عن أبي حنيفة لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء ) قال في الكافي بعد ذكر هذا التعليل : وقوله عليه الصلاة والسلام { وهل ترك لنا عقيل من ربع } دليل على أن عقار مكة عرضة للتمليك انتهى .

وأصل هذا على ما ذكر في غاية البيان وغيرها ما روى الطحاوي في شرح الآثار بإسناده إلى { أسامة بن زيد أنه قال يا رسول الله انزل في دارك بمكة ؟ قال عليه الصلاة والسلام : وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور } وكان عقيل ورث أبا طالب وطالب ، ولم يرثه جعفر ولا علي لأنهما كانا مسلمين ، وكان عقيل وطالب كافرين ، وكان عمر بن الخطاب من أجل ذلك يقول : لا يرث المؤمن الكافر . ففي هذا الحديث ما يدل على أن أرض مكة تملك وتورث ; لأنه قد ذكر فيها ميراث عقيل وطالب مما ترك أبو طالب فيها من رباع ودور انتهى .

ثم إن بعض المتأخرين بعد أن ذكر ما في الكافي وأصله المزبور على التفصيل المذكور قال : ولا يخفى عليك أن هذا الحديث لا يدل على ميراث الأرض قطعا لاحتمال [ ص: 62 ] جريان الإرث على الأبنية دون الأراضي ; ألا يرى إلى صحة هذا الحديث أيضا لو كانت الأراضي موقوفة والأبنية عليها مملوكة ا هـ .

أقول : بل لا يخفى على من له أدنى تمييز أن الحديث المذكور يدل على ميراث الأرض أيضا قطعا . إذ قد ذكر فيه أنه عليه الصلاة والسلام قال { وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور } والرباع جمع ربع وهو الدار بعينها حيث كانت والمحلة والمنزل ، كذا في القاموس وغيره ، ولا شك أن كلا من الدار والمحلة والمنزل اسم لما يشمل البناء والعرصة التي هي الأرض ، فكان معنى قوله عليه الصلاة والسلام { وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ما ترك لنا شيئا من البناء والأرض } وإذا كان وجه عدم تركه شيئا من ذلك استيلاء على كل من ذلك بالإرث من أبي طالب كما ذكره الطحاوي في شرح الآثار دل الحديث المذكور قطعا على ميراث الأرض أيضا ، إنما لا يدل على ذلك لو كان لفظ الحديث : وهل ترك لنا عقيل من بيوت ، وليس كذلك كما ترى ، بل لا مجال أصلا لأن يكون كذلك ، إذا لو كان كذلك لما تم جوابا عن { قول أسامة يا رسول الله انزل في دارك بمكة } ، فإن عدم ترك عقيل بيتا باستيلائه على الأبنية وحدها لا يقتضي عدم تركه أرضا أيضا حتى لا يمكن النزول في عرصة داره أيضا ، وهذا مع وضوحه كيف خفي على ذلك البعض . والعجب أنه قال في حاشية كتابه في هذا المقام : الرباع جمع ربع وهو الدار بعينها والمحلة والمنزل ، كذا في القاموس انتهى . وقال في أصل كتابه : ولا يخفى عليك أن هذا الحديث لا يدل على ميراث الأرض قطعا لاحتمال جريان الإرث على الأبنية دون الأراضي ، ولم يلاحظ أنه على ذلك كيف يتم جواب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور } والله الهادي إلى سواء السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل .




الخدمات العلمية