الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 11 ] باب سجود التلاوة قال ( سجود التلاوة في القرآن أربع عشرة سجدة : في آخر الأعراف ، وفي الرعد والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم والأولى في الحج ، والفرقان والنمل ، والم تنزيل و ص ، وحم السجدة ، والنجم وإذا السماء انشقت [ ص: 12 ] واقرأ . كذا كتب في مصحف عثمان رضي الله عنه وهو المعتمد والسجدة الثانية في الحج للصلاة عندنا ، وموضع السجدة في حم السجدة عند قوله { لا يسأمون } في قول عمر رضي الله تعالى عنه وهو المأخوذ للاحتياط [ ص: 13 ] والسجدة واجبة في هذه المواضع على التالي والسامع ) سواء قصد سماع القرآن أو لم يقصد لقوله عليه الصلاة والسلام { السجدة على من سمعها وعلى من تلاها } [ ص: 14 ] وهي كلمة إيجاب وهو غير مقيد بالقصد ( وإذا تلا الإمام آية السجدة سجدها وسجدها المأموم معه ) لالتزامه متابعته ( وإذا تلا المأموم لم يسجد الإمام ولا المأموم في الصلاة ولا بعد الفراغ ) عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد : يسجدونها إذا فرغوا ; لأن السبب قد تقرر ، ولا مانع بخلاف حالة الصلاة ; لأنه يؤدي إلى خلاف وضع الإمامة [ ص: 15 ] أو التلاوة . ولهما أن المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ تصرف الإمام عليه ، وتصرف المحجور لا حكم له ، بخلاف الجنب والحائض ; لأنهما عن القراءة منهيان ، إلا أنه لا يجب على الحائض [ ص: 16 ] بتلاوتها كما لا يجب بسماعها ; لانعدام أهلية الصلاة ، بخلاف الجنب .

التالي السابق


( باب سجود التلاوة ) . ( قوله : أربع عشرة سجدة ) الاتفاق بيننا وبين الشافعي على أنها كذلك ، إلا أنه يجعل في الحج ثنتين ولا سجود في ص ونحن نثبت سجدة في ص وسجدة في الحج . له ما روى أبو داود { خطبنا عليه الصلاة والسلام يوما فقرأ ص ، فلما مر بالسجود نزل فسجد وسجدنا معه ، وقرأها مرة أخرى فلما بلغ السجدة تشزنا للسجود ، فلما رآنا قال : إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشزنتم أراكم قد استعددتم للسجود فنزل وسجد وسجدنا } وتشزن بتاء مثناة من فوق ثم شين معجمة ثم زاي ثم نون معناه تهيأ ، وما رواه النسائي { أنه عليه الصلاة والسلام سجد في ص وقال سجدها نبي الله داود توبة ونسجدها شكرا } . قلنا : غاية ما فيه أنه بين السبب في حق داود والسبب في حقنا ، وكونه الشكر لا ينافي الوجوب ، فكل الفرائض والواجبات إنما وجبت شكرا لتوالي النعم . وقال الإمام الحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب بن الحارث [ ص: 12 ] مخرج مسند أبي حنيفة : كتب إلي صالح ، حدثنا محمد بن يونس بن الفرج مولى بني هاشم ، حدثنا محمد بن الزبرقان الأهوازي عن أبي حنيفة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري عن أبي موسى { أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص } ، وأخرج الإمام أحمد عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي سعيد رضي الله عنه قال { رأيت رؤيا وأنا أكتب سورة ص ، فلما بلغت السجدة رأيت الدواة والقلم وكل شيء يحضرني انقلب ساجدا ، قال : فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يسجد بها } فأفاد أن الأمر صار إلى المواظبة عليها كغيرها من غير ترك ، واستقر عليه بعد أن كان قد لا يعزم عليها ، فظهر أن ما رواه إن تمت دلالته كان قبل هذه القصة .

( قوله : والسجدة الثانية في الحج للصلاة عندنا ) ; لأنها مقرونة بالأمر بالركوع ، والمعهود في مثله من القرآن كونه من أوامر ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو { واسجدي واركعي مع الراكعين } وما روي من حديث { عقبة بن عامر قلت يا رسول الله أفضلت سورة الحج بسجدتين ؟ قال : نعم ، فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما } قال الترمذي : إسناده ليس بالقوي كأنه لأجل ابن لهيعة . وروى أبو داود في المراسيل عنه عليه الصلاة والسلام { فضلت سورة الحج بسجدتين } وقد أسند هذا ولا يصح ، وأخرج الحاكم ما أخرجه الترمذي ، وقال عبد الله بن لهيعة أحد الأئمة ، وإنما نقم اختلاطه في آخر عمره . ولا يخفى أن هذا وجه ضعف الحديث ، وفيه حديث أخرجه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن منين بنونين وميم مضمومة عن عمرو بن العاص { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن ، منها ثلاث عشرة في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان } وهو ضعيف . قال عبد الحق وابن منين لا يحتج به . قال ابن القطان : وذلك لجهالته فإنه لا يعرف له حال . ( قوله : في قول عمر وهو المأخوذ للاحتياط ) وجهه أنه إن كان السجود عند يعبدون لا يضره التأخير إلى الآية بعده ، وإن كان عند لا يسأمون لم يكن السجود قبل مجزئا ، وأما أن ذلك قول عمر فغريب ، وقد أخرجه [ ص: 13 ] ابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه كان يسجد في حم السجدة عند قوله تعالى { لا يسأمون } وزاد في لفظ ، وأنه رأى رجلا سجد عند قوله تعالى { إن كنتم إياه تعبدون } فقال له : لقد عجلت .



( قوله : والسجدة واجبة ) يعني باعتبار الأصل أو هي أو بدلها فإنه لو تلاها راكبا كان الواجب الإيماء لها لما سنذكر ; ولأن المتلوة في الصلاة التحقت بأفعال الصلاة . والصلاة على الدابة يكون سجودها بالإيماء ، وحديث { السجدة على من سمعها } رفعه غريب وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عمر أنه قال " السجدة على من سمعها " وفي البخاري تعليقا ، وقال عثمان : إنما السجود على من استمع ، وهذا المعلق أخرجه عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن عثمان مر بقاص فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان ، فقال عثمان : إنما السجود على من استمع ثم مضى ولم يسجد . وأخرج مسلم عن أبي هريرة في الإيمان يرفعه { إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله ، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار } .

والأصل أن الحكيم إذا حكى عن غير الحكيم كلاما ولم يعقبه بالإنكار كان دليل صحته ، فهذا ظاهر في الوجوب مع أن آي السجدة تفيده أيضا ; لأنها ثلاثة أقسام : قسم فيه الأمر الصريح به . وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أمروا به . وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود . وكل من الامتثال والاقتداء ومخالفة الكفرة واجب ، إلا أن يدل دليل في معين على عدم لزومه ، لكن دلالتها فيه ظنية فكان الثابت الوجوب لا الفرض ، والاتفاق على أن ثبوتها على المكلفين مقيد بالتلاوة لا مطلقا فلزم كذلك ، وإنما أديت بالإيماء إذا تلاها راكبا ; لأن الشروع في التلاوة راكبا مشروع كالشرع في التطوع راكبا من حيث إنهما سببا لزوم السجدة ، فكما أوجب التطوع راكبا السجود بالإيماء أوجبها التلاوة كذلك . وإنما أديت في ضمن السجدة الصلبية والركوع لما نذكر .

واعلم أنه لا فرق بين أن يتلوها بالعربية أو الفارسية عند أبي حنيفة فهم السامع أو لا إذا أخبر أنه قرأ سجدة ، وعندهما يشترط علمه بأنه يقرأ القرآن ، ولو قرأ بالعربية يلزمه مطلقا ، لكن لا يجب على الأعجمي ما لم يعلم ، ولا تجب بكتابة ولا على أصم أولا بقراءة آية السجدة هجاء ، وما في الصحيحين من قول زيد بن ثابت { قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجد } لا يفيد نفي الوجوب والسنية في المفصل كما استدل به مالك رضي الله عنه ، إذ هو واقعة حال فيجوز كونه للقراءة في وقت مكروه ، أو على غير وضوء ، أو ليبين أنه غير واجب على الفور ، وهذا الأخير على التعيين محمل حديث عمر المروي في الموطأ " أنه قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد وسجد الناس معه ، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فقال : على رسلكم إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء فلم يسجد ومنعهم " .

وما استدل به لمالك [ ص: 14 ] مما روى عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس وابن عمر قالا : ليس في المفصل سجدة ، وما أخرج ابن ماجه عن { أبي الدرداء قال سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها شيء من المفصل : الأعراف والرعد ، والنحل ، وبني إسرائيل ، ومريم والحج ، والفرقان ، والنمل ، والسجدة ، وص وسجدة الحواميم } فالثاني ضعيف بعثمان بن فائد ، ولو صح فليس فيه نفي السجدة في المفصل ، بل إن الإحدى عشرة ليس فيها شيء في المفصل وليس في هذا نزاع ، ولو صح الاحتجاج به كان مع ما قبله معارضا بحديث أبي رافع في الصحيحين { أن أبا هريرة قرأ إذا السماء انشقت فسجد ، فقلت له : ما هذه السجدة ؟ قال : لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يسجدها لم أسجد ، لا أزال أسجدها حتى ألقاه } .

وأخرجوا إلا الترمذي عن أبي سلمة عنه أيضا قال { سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت ، واقرأ باسم ربك } وهذا أقوى مما قبله ، وإسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة . ولو تعارضا كان الاحتياط في الإيجاب . ومما استدل به على الوجوب استدلال الشافعية به على أن في الحج سجدتين بتقدير صحته على ما ذكرناه فإنه أفاد كراهة التحريم للقراءة دون سجود وهي رتبة الواجب . ( قوله : وهي كلمة إيجاب ) يعني : لفظ { على } من صيغ الإلزام .



( قوله : وهو ) أي النص الموجب للسجدة بالسماع غير مقيد السماع بالقصد فتجب على من سمعها ، وإن لم يقصد ، وقد قدمنا من حديث عثمان مع القاص ما يفيد خلافه وهو تقيده به ، والله سبحانه أعلم .

( قوله : لالتزامه متابعته ) علل بالتزام المتابعة ; لأن الفرض فيما إذا تلا في السرية أما إذا تلا في الجهرية حتى سمع المقتدي فلا حاجة إلى هذا التعليل إذ السماع موجب عليه ابتداء . ( قوله : لأنه يؤدي إلى خلاف موضوع الإمامة ) إن سجد المأموم وتابعه الإمام أو التلاوة إن سجد الإمام وتابعه التالي المأموم ; لأن موضوع التلاوة أن يسجد التالي ويتابعه السامع ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم للتالي الذي لم يسجد { كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا } ولذا كانت السنة أن يتقدم التالي ويصف القوم خلفه [ ص: 15 ] فيسجدون . وفي الخلاصة : يستحب أن لا يرفع رأسه قبله . ( قوله : وتصرف المحجور إلخ ) أثر الحجر عدم اعتبار فعل المحجور عليه وتصرفه ، وأثر النهي تحريم الفعل لا ترك الاعتبار ; لأنه مطلقا لا يعدم المشروعية ، فالمحجور هو الممنوع من التصرف على وجه ينفذ فعل الغير عليه شاء أو أبى كما لو فعله هو في حال أهليته .

والمأموم كذلك من حيث القراءة حتى نفذ قراءة الإمام عليه وصارت قراءة له كتصرف ولي المحجور كأنه تصرفه فكان محجورا فلا تعتبر قراءة له وكانت كعدمها ، بخلاف الجنب والحائض فإنهما منهيان فكانت ممنوعة ; لأنه يعتبر وجودها بعدمها ، ولا يخفى أن هذا التعليل لا يتأتى على قول محمد في السرية فإنه يستحسن قراءة المؤتم ظنا منه أنه الاحتياط ، فليس حينئذ بمحجور عليه عنده بل مجوز له الترك إلا أن ذلك : أعني استحسان القراءة في السرية عن محمد ضعيف ، والحق عنه خلافه على ما أسلفنا ، ولما كان مقتضى هذا الوجوب بالسماع منهما وعليهما بتلاوتهما ، وليس كذلك إذ لا يجب على الحائض بتلاوتها استثناه بقوله إلا أنه لا يجب على الحائض بتلاوتها كما لا يجب بسماعها من غير حائض ; لأن ثبوت السبب للصلاة لا يظهر في حقها ، والسجدة جزء الصلاة لا بقيد الجزئية ، بل نظرا إلى ذاتها اعتبرت عبادة مستقلة ، فلا فرق فلا يجب عليها بسببها كما لا تجب الصلاة عليها بسببها .

فالحاصل أن كل من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها كالحائض والنفساء والكافر والصبي والمجنون ليس عليهم بالتلاوة والسماع سجود ، ويجب على السامع منهم إذا كان أهلا ، لكن ذكر شيخ الإسلام أنه لا يجب بالسماع من مجنون أو نائم أو طير ; لأن السبب سماع تلاوة صحيحة ، وصحة التلاوة بالتمييز ولم يوجد ، وهذا التعليل يفيد التفصيل في الصبي فليكن هو المعتبر إن كان له تمييز وجب بالسماع منه ، وإلا فلا . وفي الخلاصة : إذا سمعها من طير لا تجب هو المختار [ ص: 16 ] ومن نائم الصحيح أنها تجب ، وإن سمعها من الصدى لا تجب ، فأفاد الخلاف في الأولين . والتصحيح




الخدمات العلمية