الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن كرر تلاوة سجدة واحدة في مجلس واحد أجزأته سجدة واحدة ، فإن قرأها في مجلسه فسجدها ثم ذهب ورجع فقرأها سجدها ثانية ، وإن لم يكن سجد للأولى فعليه السجدتان ) فالأصل أن مبنى السجدة على التداخل [ ص: 23 ] دفعا للحرج ، وهو تداخل في السبب دون الحكم ، وهذا أليق بالعبادات [ ص: 24 ] والثاني بالعقوبات وإمكان التداخل عند اتحاد المجلس لكونه جامعا ، للمتفرقات فإذا اختلف عاد الحكم إلى الأصل ، ولا يختلف بمجرد القيام بخلاف المخيرة ; لأنه دليل الإعراض وهو المبطل هنالك . [ ص: 25 ] وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب ، وفي المنتقل من غصن إلى غصن كذلك في الأصح ، وكذا في الدياسة للاحتياط ( ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب ) ; لأن السبب في حقه السماع ( وكذا إذا تبدل مجلس التالي دون السامع ) على ما قيل ، والأصح أنه لا يتكرر الوجوب على السامع لما قلنا .

التالي السابق


( قوله : ومن كرر تلاوة سجدة إلخ ) اندرج بعض شرحها فيما ذكرنا قبلها ، [ ص: 23 ] والمحتاج إليه هنا بيان أن الأليق في العبادات عند ثبوت التداخل كونه في السبب وبيان وجه ثبوته ، والباقي ظاهر من الكتاب . أما الثاني فبالنص ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان يسمع من جبريل آية السجدة ويقرؤها على أصحابه ولا يسجد إلا مرة واحدة مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يكرر حديثه ثلاثا ليعقل عنه ، فكيف بالقرآن وبدلالة الإجماع على أن السميع إذا قرأها لا تجب إلا سجدة واحدة وقد تحقق في حقه التلاوة والسماع وكل سبب على حدته حتى يجب بالسماع وحده وبالتلاوة وحدها إذا كان التالي أصم .

والمعقول وهو أن تكرار القراءة محتاج إليه للحفظ والتعليم والاعتبار ، فلو تكرر الوجوب لحرج الناس زيادة حرج ، فإن أكثر الناس لا يحفظ من عشر مرات بل أكثر فيلزم الحرج من جهة إلزام الحكم كذلك ، وفي حفظ القرآن فإنه كان يتعذر أو يتعسر جدا ، وهو مدفوع بالنص فوجب القول بالتداخل ، ولما كان مثير ذلك النص والإجماع هو الحرج اللازم بتقدير إيجاب التكرار اقتصر المصنف على التمسك به . وأما الأول فاعلم أن الأصل في التداخل كونه في الحكم ; لأنه أمر حكمي ثبت ، بخلاف القياس إذ الأصل أن لكل سبب حكما فيليق بالأحكام لا بالأسباب ; لثبوت الأسباب حسا بخلاف الأحكام ، واعتبار الثابت حسا غير ثابت أبعد من اعتباره كذلك في غير المحسوس ، لكنا لو قلنا به في الحكم في العبادات لبطل التداخل ; لأنه بالنظر إلى الأسباب يتعدد ، وبالنظر إلى الحكم يتحد فيتعدد ; لأنه إذا دارت بين الثبوت والسقوط ثبتت ; لأن مبناها على التكثير ; لأنا خلقنا لها ، بخلاف العقوبات ; لأن مبناها على الدرء والعفو حتى إذا دارت كذلك سقطت ، ولأن المتحقق تأثير المجلس في جميع الأسباب لا الأحكام على ما في البيع وغيره ، وهذا التداخل تقييد بالمجلس ، فعلم أنه في السبب .

وفائدته تظهر فيما لو زنى فحد ثم زنى يحد ثانيا ، ولو تلا فسجد ثم تلا لا يجب السجود ثانيا . ( قوله : وهو ) أي دليل الإعراض هو المبطل هناك ; ألا ترى أنها لو خيرت قائمة فقعدت لا يخرج الأمر من يدها . فلو كان اختلاف المجلس يحصل بالقيام خرج إذ لا فرق ، فعلم أن خروجه في القيام للإعراض لا للقيام ، وليس في القعود عن قيام إعراض بل هو أجمع للرأي ، ثم تبدل المجلس قد يكون حقيقة باختلاف المكان ، إلا في اليسير فإنه لا يختلف بخطوة أو خطوتين ، وكل من البيت والمسجد مجلس واحد ، فلو انتقل من مكان إلى آخر في البيت أو المسجد لا يتكرر الوجوب ، وكذا السفينة ، وإن كانت سائرة لا يوجب سيرها اختلاف المكان ، والمجلس والدابة إذا كان في الصلاة وهو راكب كالسفينة ; لأن جواز الصلاة شرعا اعتبار للأمكنة المتعددة مكانا ، بخلاف المشي بالقدم فإنه لا موجب لاعتبار الأمكنة المتعددة فيه مكانا ، إذ لم تجوز صلاة الماشي ، ولذا قالوا : لو كان خلفه غلام يمشي وهو في الصلاة راكبا وكررها تكرر الوجوب على الغلام دون الراكب ، أما إذا لم يكن في الصلاة وهي سائرة فيتكرر الوجوب .

وقيل إذا كان المسجد كبيرا يختلف المسجد ، وقد يكون حكما بأن أكل أكثر من لقمتين في غير مكان التلاوة أو تكلم أكثر من كلمتين أو شرب أو نكح أو نام مضطجعا أو أرضعت ولدا أو أخذ في بيع أو شراء أو عمل يعرف به أنه قطع لما كان قبل ذلك ، وإن اتحد المجلس لا إن كان يسيرا . واختلفوا في الصلاة ، فعند محمد يوجب الانتقال فيها من ركعة إلى أخرى اختلاف المجلس . وعند أبي يوسف لا ، فلو قرأها في ركعة ثم كررها في أخرى وجبت [ ص: 24 ] أخرى عنده ، خلافا لأبي يوسف . له أن القول بالتداخل يؤدي إلى إخلاء إحدى الركعتين عن القراءة فيفسد . قلنا : ليس من ضرورة الحكم بالاتحاد في حق حكم بطلان العدد في حق حكم آخر فقلنا بالعدد في حكم هو جواز الصلاة وبالاتحاد فيما قلنا .

وقد أفاد تعليل محمد أن التكرار فيما إذا كررها في النفل أو الوتر مطلقا وفي الفرض في الركعة الثانية ، أما لو كررها بعد أداء فرض القراءة ينبغي أن تكفيه واحدة ; لأن المانع من التداخل منتف حينئذ [ ص: 25 ] مع وجود المقتضي . ( قوله : وفي تسدية الثوب يتكرر الوجوب ، وفي المنتقل من غصن إلى غصن كذلك في الأصح وفي الدياسة كذلك ) في النهاية : هذا اللفظ يدل على أن اختلاف المشايخ في الأخيرين لا في التسدية ، لكن ذكر الاختلاف فيه أيضا ، قال التمرتاشي : واختلف في تسدية الثوب والدياسة والذي يدور حول الرحى والذي يسبح في الماء والذي تلا في غصن ثم انتقل إلى آخر ، والأصح الإيجاب لتبدل المجلس ، ولذا يعتبر مختلفا في الغصنين في الحل والحرم ، حتى أن الحال لو رمى صيدا على غصن شجرة أصلها في الحل والغصن في الحرم يجب الجزاء .

واعلم أن تكرر الوجوب في التسدية بناء على المعتاد في بلادهم من أنها أن يغرس الحائك خشبات يسوي فيها السدى ذاهبا وجائيا ، أما على ما هي ببلاد الإسكندرية وغيرها بأن يديره على دائرة عظمى وهو جالس في مكان واحد فلا يتكرر الوجوب . ( قوله : ولو تبدل مجلس السامع دون التالي يتكرر الوجوب ) على السامع اتفاقا ، وكذا إذا تبدل مجلس التالي دون السامع يتكرر الوجوب على السامع أيضا ، والأصح أنه لا يتكرر عليه ; لما قلنا إن السبب في السماع السماع ولم يتبدل مجلسه فيه ، وظاهر الكافي ترجيح أنه يتكرر ، قال : الأصل أن التلاوة سبب بالإجماع ; لأن السجدة تضاف إليها وتتكرر بتكررها ، وفي السماع خلاف قيل : إنه سبب لما روينا : يعني قوله صلى الله عليه وسلم { السجدة على من سمعها } إلى آخره ، والصحيح السبب في حق السامع التلاوة ، والسماع شرط عمل التلاوة في حقه ، ففي المسألة الأولى يتكرر إجماعا .

أما على قول البعض فلأن السبب السماع ومجلس السماع متعدد ، وأما على قول الجمهور فلأن اتحاد المجلس أبطل العدد في حق التالي فلم يظهر ذلك في حق غيره ، وفي المسألة الثانية يتكرر ; لأن الحكم يضاف إلى السبب لا الشرط ، وقيل لا يتكرر ; لأن السبب في حقه السماع




الخدمات العلمية