الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه ) وقال الشافعي : تجب لتحقق السبب وهو ملك نصاب تام . ولنا أنه مشغول بحاجته الأصلية فاعتبر معدوما كالماء المستحق بالعطش وثياب البذلة والمهنة ( وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل إذا بلغ نصابا ) لفراغه عن الحاجة الأصلية ، [ ص: 161 ] والمراد به دين له مطالب من جهة العباد حتى لا يمنع دين النذر والكفارة ، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب لأنه ينتقص به النصاب ، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر فيهما [ ص: 162 ] ولأبي يوسف في الثاني على ما روي عنه لأن له مطالبا لأنها وهو الإمام في السوائم ونائبه في أموال التجارة فإن الملاك نوابه .

التالي السابق


( قوله ولنا أنه مشغول ) يتضمن تسليم أنه نصاب تام لأنه مرجع ضمير أنه ثم منع استقلاله بالحكم بإبداء انتفاء جزء العلة بادعاء أن السبب النصاب الفارغ عن الشغل أو إبداء المانع على تقدير استقلاله على قول مخصصي العلة [ ص: 161 ] وإنما اعتبرنا عدم الشغل في الموجب لأن معه يكون مستحقا بالحاجة الأصلية وهو دفع المطالبة والملازمة والحبس في الحال والمؤاخذة في المآل ، إذ الدين حائل بينه وبين الجنة ، وأي حاجة أعظم من هذه فصار كالماء المستحق العطش وثياب البذلة ، وذلك معتبر معدوما حتى جاز التيمم مع ذلك الماء ولم تجب الزكاة وإن بلغت ثياب البذلة نصبا .

وما في الكافي من إثبات المنافاة الشرعية بين وجوب الزكاة على الإنسان وحل أخذها له فيه نظر لما بينا من عدمها شرعا كما في ابن السبيل يجب عليه ويجوز له أخذها . وتقريره بأنه إن كان غنيا حرم الأخذ عليه لقوله عليه الصلاة والسلام { لا تحل الصدقة لغني } وإلا حرم الأخذ منه لقوله عليه الصلاة والسلام { لا صدقة إلا عن ظهر غنى } فيه نظر ، لأنا نختار الشق الأول ونمنع كون الغنى الشرعي منحصر فيما يحرم الأخذ ، وقوله عليه الصلاة والسلام { لا تحل الصدقة } لغني مخصوص بالإجماع بابن السبيل ، فجاز تخصيصه بالقياس الذي ذكرناه مرة أخرى . قال المشايخ : وهو قول ابن عمر وعثمان ، وكان عثمان رضي الله عنه يقول : هذا شهر زكاتكم ، فمن كان عليه دين فليؤد دينه حتى تخلص أمواله ، فيؤدي منها الزكاة بمحضر من الصحابة من غير نكير ، ثم إذا سقط الدين كأن أبرأ الدائن من عليه الدين اعتبر ابتداء الحول من حين سقوطه .

وعند محمد رحمه الله : تجب الزكاة عند تمام الحول الأول لأن الدين يمنع الوجوب للمطالبة ، وبالإبراء تبين أنه لا مطالبة فصار كأنه لم يكن . وقال أبو يوسف : الحول لم ينعقد على نصاب المديون فإنه مستحق لحاجته فهو كالمعدوم ( قوله حتى لا يمنع دين النذر والكفارة ) وكذا دين صدقة الفطر والحج وهدي التمتع والأضحية لعدم المطالب ، بخلاف العشر والخراج ونفقة فرضت عليه لوجود المطالب ، بخلاف ما لو التقط وعرفها سنة ثم تصدق بها حيث تجب عليه زكاة ماله لأن الدين ليس متيقنا لاحتمال إجازة صاحب المال الصدقة ( قوله ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب ) صورته : له نصاب حال عليه حولان لم يزكه فيهما لا زكاة عليه في الحول الثاني لأن خمسة منه مشغولة بدين الحول الأول فلم يكن الفاضل في الحول الثاني عن الدين نصابا كاملا ، ولو كان له خمس وعشرون من الإبل لم يزكها حولين كان عليه في الحول الأولى بنت مخاض وللحول الثاني أربع شياه ( قوله وكذا بعد الاستهلاك ) صورته : له نصاب حال عليه [ ص: 162 ] الحول فلم يزكه ثم استهلكه ثم استفاد غيره وحال على النصاب المستفاد الحول لا زكاة فيه لاشتغال خمسة منه بدين المستهلك ، بخلاف ما لو كان الأول لم يستهلك بل هلك فإنه يجب في المستفاد لسقوط زكاة الأول بالهلاك ، وبخلاف ما لو استهلكه قبل الحول حيث لا يجب شيء .

ومن فروعه : إذا باع نصاب السائمة قبل الحول بيوم بسائمة مثلها أو من جنس آخر أو بدراهم يريد به الفرار من الصدقة ، أو لا يريد لم تجب الزكاة عليه في البدل إلا بحول جديد أو يكون له ما يضمه إليه في صورة الدراهم ، وهذا بناء على أن استبدال السائمة بغيرها مطلقا استهلاك ، بخلاف غير السائمة ( قوله على ما روي عنه ) هي رواية أصحاب الإملاء ، ولما لم تكن ظاهر الرواية عنه مرضها .

ووجه الفرق أن دين المستهلك لا مطالب له من العباد ، بخلاف دين القائم فإنه يجوز أن يمر على العاشر فيطالبه ولا كذلك المستهلك ( قوله لأن له مطالبا ) من جهة العباد لأن الملاك نوابه ، وذلك أن ظاهر قوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة } الآية توجب حق أخذ الزكاة مطلقا للإمام ، وعلى هذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده ، فلما ولي عثمان وظهر تغير الناس كره أن تفتش السعاة على الناس مستور أموالهم ففوض الدفع إلى الملاك نيابة عنه ، ولم تختلف الصحابة عليه في ذلك ، وهذا لا يسقط طلب الإمام أصلا ، ولذا لو علم أن أهل بلدة لا يؤدون زكاتهم طالبهم بها ، فلا فرق بين كون الدين بطريق الأصالة أو الكفالة حتى لا يجب عليهما الزكاة ، بخلاف الغاصب وغاصب الغاصب حيث يجب على الغاصب في ماله دون مال غاصب الغاصب لأن الغاصب إن ضمن يرجع على غاصبه بخلاف غاصبه ، وإنما فارق الغصب الكفالة وإن كان في الكفالة بأمر الأصيل يرجع الكفيل إذا أدى كالغاصب لأن في الغصب ليس له أن يطالبهما جميعا ، بل إذا اختار تضمين أحدهما يبرأ الآخر ; أما في الكفالة فله أن يطالبهما معا فكان كل مطالبا بالدين ; وكما يمنع دين الزكاة يمنع دين العشر والخراج وقد تقدم لنا .

ومن فروع دين النذر : لو كان له نصاب فنذر أن يتصدق بمائة منه ولم يتصدق حتى حال الحول وجب عليه [ ص: 163 ] خمسة لزكاته ثم يخرجه عن عهدة نذر تلك المائة التصدق بسبعة وتسعين ونصف لأنه نذر التصدق بعين دراهم استحق منها درهمان ونصف ، ولو استحق عين المنذور به كله سقط فكذا بعضه ، ولو كان أطلق النذر فلم يضف المائة إلى ذلك النصاب لزمه بعد الخمسة تمام المائة ، ثم إن كان للمديون نصب يصرف الدين إلى أيسرها قضاء فإذا كان له دراهم ودنانير وعروض ودينه غير مستغرق صرف إلى الدراهم والدنانير أولا ، إذ القضاء منهما أيسر لأنه لا يحتاج إلى بيعهما ، ولأنه لا تتعلق المصلحة بعينهما ولأنهما لقضاء الحوائج وقضاء الدين أهمها ، ولأن للقاضي أن يقضي منهما جبرا ، وللغريم أن يأخذ منهما إذا ظفر بهما وهما من جنس حقه ، فإن فضل الدين عنهما أو لم يكن له منهما شيء صرف للعروض لأنها عرضة للبيع ، بخلاف السوائم لأنها للبن والنسل ، فإن لم يكن له عروض أو فضل الدين عنهما صرف إلى السوائم ، فإن كانت أجناسا صرف إلى أقلها زكاة نظرا للفقراء ، فإن كانت أربعين شاة وخمسا من الإبل ، وثلاثين من البقر صرف إلى الإبل أو الغنم يخير في ذلك دون البقر ، وعرف من هذا أنه لو لم يكن له البقر تخير لاستوائهما في الواجب ، وقيل يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل .

وهل يمنع الدين المؤجل كما يمنع المعجل في طريقة الشهيد لا رواية فيه ، إن قلنا لا فله وجه ، وإن قلنا نعم فله وجه ، ولو كان عليه مهر لامرأته وهو لا يريد أداءه لا يجعل مانعا من الزكاة ذكره في التحفة عن بعضهم لأنه لا يعده دينا ، وذكر قبله مهر المرأة يمنع مؤجلا كان أو معجلا لأنها متى طلبت أخذته .

وقال بعضهم : إن كان مؤجلا لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة انتهى . وهذا يفيد أن المراد المؤجل عرفا لا شرطا مصرحا به ، وإلا لم يصح قوله لأنها متى طلبت أخذته ، ولا بأنه غير مطالب به عادة لأن هذا في المعجل لا المؤجل شرطا فلا معنى لتقييد عدم المطالبة فيه بالعادة




الخدمات العلمية