الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن له على آخر دين فجحده سنين ثم قامت له بينة لم يزكه لما مضى ) معناه : صارت له بينة بأن أقر عند الناس وهي مسألة مال الضمار ، وفيه خلاف زفر والشافعي ، ومن جملته : المال المفقود ، والآبق ، والضال [ ص: 165 ] والمغصوب إذا لم يكن عليه بينة والمال الساقط في البحر ، والمدفون في المفازة إذا نسي مكانه ، والذي أخذه السلطان مصادرة . ووجوب صدقة الفطر بسبب الآبق والضال والمغصوب [ ص: 166 ] على هذا الخلاف . لهما أن السبب قد تحقق وفوات اليد غير مخل بالوجوب كمال ابن السبيل ، ولنا قول علي رضي الله عنه : لا زكاة في المال الضمار ولأن السبب هو المال النامي ولا نماء إلا بالقدرة على التصرف ولا قدرة عليه . وابن السبيل يقدر بنائبه ، والمدفون في البيت نصاب لتيسر الوصول إليه ، وفي المدفون في أرض أو كرم اختلاف المشايخ .

التالي السابق


( قوله معناه صارت له بينة ) يفيد أنه لم تكن له بينة في الأصل احتراز عما لو كانت عليه بينة فإنه سيذكر أن فيه الزكاة ( قومه وهي مسألة مال الضمار ) قيل هو الغائب الذي لا يرجى ، فإن رجي فليس به وأصله من الإضمار ، قال : طلبن مزاره فأصبن منه عطاء لم يكن عدة ضمارا وقيل هو غير المنتفع به ، بخلاف الدين المؤجل فإنه أخر الانتفاع به وصار كمال غائب ( قوله ومن جملته إلخ ) [ ص: 165 ] ومن جملته أيضا الذي ذهب به العدو إلى دار الحرب والمودع عند من لا يعرفه إذا نسي شخصه سنين ثم تذكره .

فإن كان عند بعض معارفه فنسي ثم تذكر الإيداع زكاه لما مضى ، ويمكن أن يكون منه الألف التي دفعها إلى المرأة مهرا وحال الحول وهي عندها ، ثم علم أنها أمة تزوجت بغير إذن مولاها وردت الألف عليه ، ودية قضى بها في حلق لحية إنسان ودفعت إليه فحال الحول عليها عنده ثم نبتت وردت الدية ، وما أقر به لشخص ودفعه إليه فحال عليه عنده ثم تصادقا على أن لا دين فرد ، وما وهب وسلم ثم رجع فيه بعد الحول لا زكاة في هذه الصور على أحد لأنه كان غائبا غير مرجو القدرة على الانتفاع به . وأما زكاة الأجرة المعجلة عن سنين في الإجارة الطويلة التي يفعلها بعض الناس عقودا ويشترطون الخيار ثلاثة أيام في رأس كل شهر فتجب على الآجر لأنه ملكها بالقبض وعند الانفساخ لا يجب عليه رد عين المقبوض بل قدره فكان كدين لحقه بعد الحول . وقال الشيخ الإمام الزاهد علي بن محمد البزدوي ومجد الأئمة السرخكتي : يجب على المستأجر أيضا لأن الناس يعدون مال هذه الإجارة دينا على الآجر ، وفي بيع الوفاء يجب زكاة الثمن على البائع ، وعلى قول الزاهد والسرخكتي يجب على المشتري أيضا ، وصرح السيد أبو شجاع بعدم الوجوب على المستأجر .

وفي الخلاصة قال : الاحتياط أن يزكي كل منهما .

وفي فتاوى قاضي خان استشكل قول السرخكتي بأنه لو اعتبر دينا عند الناس وهو اعتبار معتبر شرعا ينبغي أن لا تجب . على الآجر والبائع لأنه مشغول بالدين ، ولا على المستأجر والمشتري أيضا لأنه وإن اعتبر دينا لهما فليس بمنتفع به لأنه لا يمكنه المطالبة قبل الفسخ ولا يملكه حقيقة فكان بمنزلة الدين على الجاحد ، وثم لا يجب ما لم يحل الحول بعد القبض انتهى : يعني فيكون في معنى الضمار .

وفي الكافي : لو استأجر دارا عشر سنين بألف وعجلها إلى المؤجر ثم لم يقبضها حتى انقضت العشر سنين ولا مال لهما سوى الألف كان على المؤجر في السنة الأولى زكاة تسعمائة لظهور الدين بمائة بسبب انفساخ الإجارة في حق تلك السنة ، وفي السنة الثانية في ثمانمائة إلا قدر ما وجب من الزكاة في السنة الأولى وهو اثنان وعشرون ونصف ، وهكذا في كل سنة تنقص عنه زكاة مائة وقدر ما وجب إلى أن يصير الباقي خالصا من دين الانفساخ أقل من مائتين .

وأما المستأجر فإنما تجب عليه في السنة الثالثة زكاة ثلاثمائة لأنه ملك دينا على المؤجر في السنة الأولى مائة ، وفي الثانية مائتين لم يحل حولها ، وفي الثالثة حال حول المائتين ، واستفاد مائة في آخر الحول فيضمها إلى النصاب ، ثم تزيد زكاته في كل سنة مائة للانفساخ إذ به يملك مائة دينا فعليه في الرابعة زكاة أربعمائة وهلم جرا إلى العاشرة فعليه زكاة الألف فيها .

ولو كانت الأجرة أمة للتجارة فحين عجلها للمؤجر نوى فيها التجارة والباقي بحاله لا زكاة على المؤجر لشيء فيها لاستحقاق تمام عين الأجرة ، بخلاف الأولى لأن المستحق بالانفساخ مائة دينا في الذمة لا يتعين في المقبوض ، وعلى المستأجر في السنة الثالثة زكاة ثلاثة أعشارها تزيد كل سنة عشرا ولا يخفى وجهه .

ولو كان المسألة على القلب : أعني قبض المستأجر الدار ولم يعجل الأجرة فالمؤجر هنا كالمستأجر والمستأجر كالمؤجر فعلى المستأجر أن يزكي للسنة الأولى تسعمائة وللثانية بثمانمائة فتنقص في كل سنة مائة إلا زكاة ما مضى لأن الملك في الأجرة يثبت ساعة فساعة ، والمؤجر يزكي في السنة الثالثة [ ص: 166 ] ثلاثمائة والرابعة أربعمائة إلا قدر زكاة ما مضى ، ولو كانا تقابضا في الأجرة والدار فظاهر أنه لا زكاة على المستأجر لزوال ملكه بالتعجيل ولم تعد لعدم الانفساخ ( قوله على هذا الاختلاف ) عندنا لا فطرة عليه ، وعنده عليه ( قوله ولنا قول علي رضي الله عنه : لا زكاة في مال الضمار ) هكذا ذكره مشايخنا عنه .

وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا هشام بن حسان الحسن عن الحسن البصري قال : إذا حضر الوقت الذي يؤدي فيه الرجل زكاته أدى عن كل مال وعن كل دين إلا ما كان ضمارا لا يرجوه .

وروى ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا عبد الرحمن بن سليمان عن عمرو بن ميمون قال : أخذ الوليد بن عبد الملك مال رجل من أهل الرقة يقال له أبو عائشة عشرين ألفا فألقاها في بيت المال ، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه ، فكتب إلى ميمون أن ادفعوا إليهم أموالهم وخذوا زكاة عامهم هذا ، فإنه لولا أنه كان مالا ضمارا أخذنا منه زكاة ما مضى .

أخبرنا أبو أسامة عن هشام عن الحسن قال : عليه زكاة ذلك العام انتهى .

وروى مالك في الموطإ عن أيوب السختياني أن عمر بن عبد العزيز كتب في مال قبضه بعض الولاة ظلما فأمر برده إلى أهله ، ويؤخذ زكاته لما مضى من السنين ، ثم عقب بعد ذلك بكتاب أن لا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة فإنه كان ضمارا . وفيه انقطاع بين أيوب وعمر . واعلم أن هذا لا ينتهض على الشافعي لأن قول الصحابي عنده ليس حجة فكيف بمن دونه .

فهذا للإثبات المذهبي ، والمعنى المذكور بعد للإلزام وهو قوله ولأن السبب إلخ ، ففيه منع قولهما أن السبب قد تحقق فقال لا نسلم لأن السبب هو المال النامي تحقيقا أو تقديرا بالاتفاق ، للاتفاق على أن من ملك من الجواهر النفيسة ما تساوي آلافا من الدنانير ولم ينو فيها التجارة لا تجب فيها الزكاة ، وولاية إثبات حقيقة التجارة باليد ، فإذا فاتت انتفى تصور الاستنماء تحقيقا فانتفى تقديرا فانتفى النماء تقديرا لأن الشيء إنما يقدر تقديرا إذا تصور تحقيقا ، وعن هذا انتفى في النقدين أيضا لانتفاء نمائهما التقديري بانتفاء تصور التحقيقي بانتفاء اليد فصار بانتفائها [ ص: 167 ] كالتأوي ، فلذا لم تجب صدقة الفطر عن الآبق وإنما جاز عتقه عن الكفارة لأن الكفارة تعتمد مجرد الملك ، وبالإباق والكتابة لا ينقص الملك أصلا ، بخلاف مال ابن السبيل لثبوت التقديري فيه لإمكان التحقيقي إذا وجد نائبا




الخدمات العلمية