الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإن هلك المال بعد وجوب الزكاة سقطت الزكاة ) وقال الشافعي : يضمن إذا هلك بعد التمكن من الأداء لأن الواجب في الذمة فصار كصدقة الفطر ولأنه منعه بعد الطلب [ ص: 202 ] فصار كالاستهلاك . ولنا أن الواجب جزء من النصاب تحقيقا للتيسير فيسقط بهلاك محله كدفع العبد بالجناية يسقط بهلاكه والمستحق فقير يعينه المالك ولم يتحقق منه الطلب ، وبعد طلب [ ص: 203 ] الساعي قيل يضمن وقيل لا يضمن لانعدام التفويت ، وفي الاستهلاك وجد التعدي ، وفي هلاك البعض يسقط بقدره اعتبارا له بالكل .

[ ص: 201 ]

التالي السابق


[ ص: 201 ] قوله وإن هلك المال ) يعني حال الحول ففرط في الأداء حتى هلك من غير تعد : أعني من غير استهلاك منه ( قوله بعد التمكن ) بأن طلب المستحق أو وجد وإن لم يطلب ( قوله ولأنه منعه بعد الطلب ) أي طلب الفقير إذا فرض ذلك ، ولأنه جعله الشرع مطالبا لنفسه نيابة عنه ، أو هو مطالب بالأداء على [ ص: 202 ] الفور ، فإذا تمكن ولم يؤد صار متعديا فيضمن كما لو استهلك النصاب وكالمودع إذا طولب برد الوديعة فلم يردها حتى هلكت ( قوله ولنا ) الحاصل أن الواجب تمليك شطر من النصاب ابتداء ، ومن أمر بتمليك مال مخصوص كمن قيل له تصدق بما لي عندك فلم يفعل حتى هلك ليس عليه ضمانه ولا إقامة مال آخر مقامه لأنه لم يفوت على مستحق يدا ولا ملكا لأن المستحق فقير بعينه لا فقير يطلب بنفسه ، وفي الاستهلاك وجد التعدي بخلاف مجرد التأخير لأنه غير جان فيه لأن الصيغة المطلقة تجوز التراخي وإن كانت على الفور وليس هو بحق ، فتعديه بالتأخير ليس هو نفس إهلاك المال ولا سببا له ، فإن التأخير لم يوضع للهلاك ، وإنما قلنا إن الواجب جزء من النصاب تحقيقا للتيسير ، فإن الزكاة لما وجبت قليلا من كثير من بعض الأموال لا من كل مال ، بل مما بحيث ينمو لينجبر المؤدي بالنماء .

وشرط مع ذلك الحول تحقيقا لقصد النماء كانت واجبة بصفة اليسر ، والحق متى وجب بصفة لا يبقى إلا بتلك الصفة ، وتحقيق ذلك بأن يعتبر الواجب أداء جزء من هذه النعمة غير أن له أن يعطي غيره فيسقط بهلاكه لفوات المحل ، والقول ببقاء الواجب بعد هلاكه يحيله إلى صفة العسر فلا يكون الباقي ذلك الذي وجب بل غيره ، وهذا يقتضي أن الواجب في خمس من الإبل جزء منها والشاة تقدير ماليته لعسر نحر أحدها ليعطي بعضها ، بل إذا كان ذلك البعض ربع عشر كلها توقف تحقيقه على نحر كلها ، وفيه من الحرج ما لا يخفى ثم الظواهر تؤيد ما قلنا مثل قوله عليه الصلاة والسلام { هاتوا ربع العشور من كل أربعين درهما درهم } .

وما تقدم في أول باب صدقة البقر من حديث معاذ ، ولفظ الترمذي { بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمرني أن آخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة } ( قوله كدفع العبد بالجناية يسقط ) فإذا لم يدفعه [ ص: 203 ] المولى حتى هلك سقط ولم يجب عليه إقامة عبد مقامه ( قوله قيل يضمن ) وهو قول الكرخي ( وقيل لا يضمن ) وهو قول أبي سهيل الزجاجي ، وهو أشبه بالفقه لأن الساعي وإن تعين لكن للمالك رأي في اختيار محل الأداء بين العين والقيمة ، ثم القيمة شائعة في محال كثيرة ، والرأي يستدعي زمانا فالحبس لذلك ، ولأنه لم يفوت على أحد ملكا ولا يدا ، بخلاف منع الوديعة بعد طلب صاحبها فإنه بدل اليد بذلك فصار مفوتا ليد المالك .

( فروع تتعلق بالمحل )

استبدال مال التجارة بمال التجارة ليس استهلاكا بغير مال التجارة استهلاك ، وذلك بأن ينوي في البدل عدم التجارة عند الاستبدال ، وإنما قلنا ذلك لأنه لو لم ينو في البدل عدم التجارة وقد كان الأصل للتجارة يقع البدل للتجارة وإن كان لغيرها عند مالكه .

في الكافي : لو تقايضا عبدا بعبد ولم ينويا شيئا فإن كانا للتجارة فهما للتجارة أو للخدمة فهما للخدمة ، وإن كان أحدهما للتجارة والآخر للخدمة فبدل ما كان للتجارة للتجارة وبدل ما كان للخدمة للخدمة ، فلو استبدل بعد الحول ثم هلك البدل بغير صنع منه وجبت الزكاة عن الأصل ، بخلاف ما إذا كان البدل مال تجارة لا يضمن زكاة الأصل بهلاك البدل ، واستبدال السائمة استهلاك مطلقا سواء استبدلها بسائمة من جنسها أو من غيره أو بغير سائمة دراهم أو عروض لتعلق الزكاة بالعين أولا وبالذات وقد تبدلت ، فإذا هلكت سائمة البدل تجب الزكاة ، ولا يخفى أن هذا إذا استبدل بها بعد الحول ، أما إذا باعها قبله فلا حتى لا تجب الزكاة في البدل إلا بحول جديد أو يكون له دراهم وقد باعها بأحد النقدين .

وإقراض النصاب الدراهم بعد الحول ليس باستهلاك ، فلو توى المال على المستقرض لا تجب ومثله إعارة ثوب التجارة . رجل له ألف حال حولها فاشترى بها عبد التجارة فمات أو عروضا للتجارة فهلكت بطلت عنه زكاة الألف ، ولو كان العبد للخدمة لم تسقط بموته ، فلو كان فيه غبن فاحش ضمن . في الوجه الأول علم أولا لأنه صار مستهلكا في قدر الغبن إذ لم يحصل بإزائه شيء ، وإنما استوى العلم وعدمه لأنه باطل فلا يتعلق الحكم به ، ولو كان وهبها بعد الحول ثم رجع بقضاء أو غيره لا شيء عليه لو هلكت عنده بعد الرجوع لأن الرجوع فسخ من الأصل والنقود تتعين في مثله فعاد إليه قديم ملكه ثم هلك فلا ضمان ، ولو رجع بعدما حال الحول عند الموهوب له فكذلك ، خلافا لزفر لو كان بغير قضاء فإنه يقول : يجب على الموهوب له فإنه مختار فكان تمليكا .

قلنا : بل غير مختار لأنه لو امتنع عن الرد أجبر . وفي الوجه الثاني لو رد عبد الخدمة بعيب واسترد الألف لم يبرأ لو هلكت لأن وجوب الرد لم يتعلق بعين تلك الدراهم فلم يعد إليه قديم ملكه ، بخلاف ما لو كان اشترى العبد بعرض التجارة وحال حوله فرد بقضاء لأنه [ ص: 204 ] عاد إليه قديم ملكه ، وإن كان بغير قضاء ضمن لأنه بيع جديد في حق الزكاة وعن هذا قلنا لو باع عبد الخدمة بألف فحال على الثمن الحول فرد به بعيب بقضاء أو رضاء زكى الثمن لعدم التعين ، ولو باعه بعرض للتجارة فرد بعيب بعد الحول إن كان بقضاء لم يزك البائع العرض لأنه مضطر ، ولا العبد لأنه كان للخدمة وقد عاد إليه قديم ملكه وإن كان بلا قضاء لم يزك المشتري العرض وزكاه البائع لأنه كالبيع الجديد حتى يصير العبد الذي اشتراه للتجارة لأن الأصل كان للتجارة ، فكذا البدل فإن نوى فيه الخدمة كان زكاة العرض مضمونا عليه لأنه استهلكه حيث استبدله بغير مال التجارة ، والله سبحانه أعلم .




الخدمات العلمية