الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 214 ] فصل في الذهب ( ليس فيما دون عشرين مثقالا من الذهب صدقة . فإذا كانت عشرين مثقالا ففيها نصف مثقال ) لما روينا [ ص: 215 ] والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة دراهم وهو المعروف ( ثم في كل أربعة مثاقيل قيراطان ) لأن الواجب ربع العشر وذلك فيما قلنا إذ كل مثقال عشرون قيراطا ( وليس فيما دون أربعة مثاقيل صدقة ) عند أبي حنيفة ، وعندهما تجب بحساب ذلك وهي مسألة الكسور ، وكل دينار عشرة دراهم في الشرع فيكون أربعة مثاقيل في هذا كأربعين درهما .

قال ( وفي تبر الذهب والفضة وحليهما وأوانيهما الزكاة ) وقال الشافعي : لا تجب في حلي النساء وخاتم الفضة للرجال لأنه مبتذل في مباح فشابه ثياب البذلة . [ ص: 216 ] ولنا أن السبب مال نام ودليل النماء موجود وهو الإعداد للتجارة خلقة ، والدليل هو المعتبر بخلاف الثياب .

التالي السابق


( فصل في الذهب )

( قوله لما روينا ) يعني حديث معاذ المتقدم في صدقة الفضة وتقدم ما فيه . ولا يضر ذلك بالدعوى فقد تقدم حديث علي في الذهب . وأخرج الدارقطني من حديث عائشة وابن عمر { أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار ومن الأربعين دينارا دينارا } . وهو مضعف بإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع . وأخرج أبو أحمد بن زنجويه في كتاب الأموال بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ليس فيما دون المائتين شيء ، ولا فيما دون عشرين مثقالا من الذهب شيء ، وفي المائتين خمسة دراهم . وفي عشرين مثقالا نصف مثقال } وفيه العزرمي تقدم الكلام فيه . وتقدم في حديث عمرو بن حزم في فصل الإبل قوله عليه الصلاة والسلام { وفي كل أربعين دينارا دينار } وهو حديث لا شك في ثبوته على ما قدمناه [ ص: 215 ]

( قوله والمثقال ما يكون إلخ ) قيل هو دور لأنه أخذ كلا من المثقال والدرهم في تعريف آخر فتوقف تصور كل منهما على تصور الآخر . وجوابه أنه لم يذكر هذا تعريفا لأنه قال وهو المعروف ، فأفاد أن المثقال المعروف الذي تداوله الناس وعرفوه مثقالا ، وهذا تصريح بأنه لا حاجة إلى تعريفه كما لا يعرف ما هو بديهي التصور إذ تحصيل الحاصل محال ، فكان قوله والمثقال ما يكون كل سبعة منها وزن عشرة إنما هو لإزالة توهم أن يراد بالمثقال غير المذكور في تعريف الدرهم ، فحاصل كلامه حينئذ أنه قال : والمراد بهذا المثقال ذاك الذي تقدم وهو المعروف عند الناس لا شيء آخر ، وهذا إن شاء الله تعالى أحسن مما حاول في النهاية وغيرها من الدفع مما لو أوردته أدى إلى طول مع أنه لا يتم بأدنى تأمل .

( قوله وكل دينار عشرة دراهم في الشرع ) أي مقوم في الشرع بعشرة كذا كان في الابتداء ، فإذا ملك أربعة دنانير فقد ملك ما قيمته أربعون درهما مما لا يتوقف الوجوب فيه على نية التجارة فيجب فيه قدر الدرهم وهو قيراطان بناء على اعتبار الدينار عشرين قيراطا ، فلا يرد ما أورده بعضهم عليه في هذا المقام ( قوله وحليهما ) سواء كان مباحا أو لا حتى يجب أن يضم الخاتم من الفضة وحلية السيف والمصحف وكل ما انطلق عليه الاسم ( قوله فشابه ثياب البذلة ) حاصله قياس الحلي بثياب البذلة بجامع الابتذال في مباح ودفعه اعتبار ما عينه مانعا من الوجوب في الفرع ، وإن كان مانعا في الأصل ، وذلك لأن مانعيته في الأصل بسبب أنه يمنع وجود السبب بمنع جزئه : أعني النماء لا لذاته ولا لأمر آخر ، ومنعه ذلك في النقدين منتف لأنهما خلقا ليتوصل بهما إلى الإبدال ، وهذا معنى الاستنماء فقد خلقا للاستنماء ولم يخرجهما الابتذال عن ذلك ، فالنماء التقديري حاصل وهو المعتبر للإجماع على عدم توقف الوجوب الحقيقي ، وإذا انتفت مانعيته عمل السبب عمله وهذا معنى ما في الكتاب ، ثم المنقولات من العمومات والخصوصات تصرح به .

فمن ذلك حديث علي عنه عليه الصلاة والسلام { هاتوا صدقة الرقة من كل أربعين درهما درهم } رواه أصحاب السنن الأربعة وغيره كثير . ومن الخصوصات [ ص: 216 ] ما أخرج أبو داود والنسائي أن { امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفي يد بنتها مسكتان غليظتان من ذهب ، فقال لهما : أتعطين زكاة هذا ؟ قالت لا ، قال : أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارا من نار ؟ قال : فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : هما لله ورسوله } قال أبو الحسن بن القطان في كتابه : إسناده صحيح . وقال المنذري في مختصره ، إسناده لا مقال فيه ، ثم بينه رجلا رجلا .

وفي رواية الترمذي عن ابن لهيعة قال أتت امرأتان فساقه ، وفيه { أتحبان أن يسور كما الله بسوارين من نار ؟ قالتا لا ، قال : فأديا زكاته } وتضعيف الترمذي وقوله لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مؤول وإلا فخطأ .

قال المنذري : لعل الترمذي قصد الطريقين اللذين ذكرهما وإلا فطريق أبي داود لا مقال فيها . وقال ابن القطان بعد تصحيحه لحديث أبي داود : وإنما ضعف الترمذي هذا الحديث لأن عنده فيه ضعيفين ابن لهيعة والمثنى بن الصباح .

ومنها ما أخرج أبو داود عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال { دخلنا على عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات ورق فقال : ما هذا يا عائشة ؟ فقلت : صغتهن لأتزين لك بهن يا رسول الله ، قال : أفتؤدين زكاتهن ؟ فقلت : لا ، فقال : هن حسبك من النار } وأخرجه الحاكم وصححه ، وأعله الدارقطني بأن محمد بن عطاء مجهول ، وتعقبه البيهقي وابن القطان بأن محمد بن عمرو بن عطاء أحد الثقات ، ولكن لما نسب في سند الدارقطني إلى جده ظن أنه مجهول وتبعه عبد الحق ، وقد جاء مبينا عند أبي داود بينه شيخه محمد بن إدريس الرازي وهو أبو حاتم الرازي إمام الجرح والتعديل .

ومنها ما أخرج أبو داود عن عتاب بن بشير عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت { كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز } وأخرجه الحاكم في المستدرك عن محمد بن مهاجر عن ثابت به وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولفظه { إذا أديت زكاته فليس بكنز } قال البيهقي : تفرد به ثابت بن عجلان . قال صاحب تنقيح التحقيق : وهذا لا يضر فإن ثابت بن عجلان روى له البخاري ووثقه ابن معين .

وقول عبد الحق لا يحتج به قول لم يقله غيره . وممن أنكر عليه ذلك الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد ، ونسبه في ذلك إلى التحامل ، وقول ابن الجوزي محمد بن المهاجر . قال ابن حبان : يضع الحديث على الثقات . قال صاحب التنقيح فيه : هذا وهم قبيح ، فإن محمد بن المهاجر الكذاب ليس هو هذا ، فهذا الذي يروي عن ثابت بن عجلان ثقة شامي أخرج له مسلم ، ووثقه أحمد وابن معين وأبو زرعة ودحيم وأبو داود وغيرهم .

وعتاب بن بشير وثقه ابن معين وروى له البخاري متابعة .

وأما ما روي من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { ليس في الحلي زكاة } قال البيهقي : باطل لا أصل له ، إنما يروى عن جابر من قوله : وأما الآثار المروية عن ابن عمر وعائشة وأسماء بنت الصديق فموقوفات ومعارضات بمثلها عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما : أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يزكين حليهن ولا يجعلن الزيادة والهدية [ ص: 217 ] بينهن تقارضا .

رواه ابن أبي شيبة وعن ابن مسعود قال : في الحلي الزكاة ، رواه عبد الرزاق . وعن عبد الله بن عمرو أنه كان يكتب إلى خازنه سالم أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة . رواه الدارقطني وروى ابن أبي شيبة عنه أنه كان يأمر نساءه أن يزكين حليهن .

وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وطاوس وعبد الله بن شداد أنهم قالوا : في الحلي الزكاة . زاد ابن شداد : حتى في الخاتم .

وأخرج عن عطاء أيضا وإبراهيم النخعي أنهم قالوا : مضت السنة أن في الحلي الذهب والفضة الزكاة . وفي المطلوب أحاديث كثيرة مرفوعة غير أنا اقتصرنا منها على ما لا شبهة في صحته ، والتأويلات المنقولة عن المخالفين مما ينبغي صون النفس عن أخطارها والالتفات إليها . وفي بعض الألفاظ ما يصرح بردها ، والله سبحانه أعلم . واعلم أن مما يعكر على ما ذكرنا ما في الموطإ عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تلي بنات أخيها يتامى في حجرها فلا تخرج من حليهن الزكاة ، وعائشة راوية حديث الفتخات ، وعمل الراوي بخلاف ما روى عندنا بمنزلة روايته للناسخ فيكون ذلك منسوخا . ويجاب عنه بأن الحكم بأن ذلك للنسخ عندنا هو إذا لم يعارض مقتضى النسخ معارض يقتضي عدمه ، وهو ثابت هنا فإن كتابة عمر إلى الأشعري تدل على أنه حكم مقرر ، وكذا من ذكرناه معه من الصحابة . فإذا وقع التردد في النسخ ، والثبوت متحقق لا يحكم بالنسخ هذا كله على رأينا . وأما على رأي الخصم فلا يرد ذلك أصلا ، إذ قصارى فعل عائشة قول صحابي وهو عنده ليس بحجة لو لم يكن معارضا بالحديث المرفوع ، وعمل الراوي بخلاف روايته لا يدل على النسخ بل العبرة لما روى لا لما رأى عنده . ولا يقال : إنما لم تؤد من حليهن لأنهن يتامى ، ولا زكاة على الصبي لأن مذهبها وجوب الزكاة في مال الصبي فلذا عدلنا في الجواب إلى ما سمعت ، والله سبحانه أعلم .

هذا ويعتبر في المؤدى الوزن عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وعند محمد الخيرية ، وعند زفر القيمة ، فلو أدى عن خمسة جياد خمسة زيوفا جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف وكره ، ولا يجوز عند محمد وزفر فيؤدى الفضل ، ولو أدى أربعة جيدة عن خمسة رديئة لا يجوز إلا عن أربعة عند الثلاثة لاعتبار محمد الخيرية واعتبارهما القدر ، ويجوز عند زفر للقيمة ، والله أعلم .




الخدمات العلمية