الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب في المعادن والركاز [ ص: 233 ] قال ( معدن ذهب أو فضة أو حديد أو رصاص أو صفر [ ص: 234 ] وجد في أرض خراج أو عشر ففيه الخمس ) عندنا وقال الشافعي : لا شيء عليه فيه ; لأنه مباح سبقت يده إليه كالصيد إلا إذا كان المستخرج ذهبا أو فضة فيجب فيه الزكاة ، ولا يشترط الحول في قول ; لأنه نماء كله والحول [ ص: 235 ] للتنمية ولنا قوله عليه الصلاة والسلام { وفي الركاز الخمس } وهو من الركز فأطلق على المعدن ولأنها كانت في أيدي الكفرة فحوتها أيدينا غلبة فكانت غنيمة . وفي الغنائم الخمس بخلاف الصيد ; لأنه لم يكن في يد أحد إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر ، وأما الحقيقية فللواجد فاعتبرنا الحكمية في حق الخمس والحقيقة في حق الأربعة الأخماس حتى كانت للواجد

التالي السابق


( باب في المعادن والركاز ) المعدن من العدن وهو الإقامة ، ومنه يقال عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه جنات عدن ومركز كل شيء معدنه عن أهل اللغة ، فأصل المعدن المكان بقيد الاستقرار فيه ، ثم اشتهر في نفس الأجزاء المستقرة التي ركبها [ ص: 233 ] الله تعالى في الأرض يوم خلق الأرض حتى صار الانتقال من اللفظ إليه ابتداء بلا قرينة ، والكنز للمثبت فيها من الأموال بفعل الإنسان ، والركاز يعمهما لأنه من الركز مرادا به المركوز أعم من كون راكزه الخالق أو المخلوق فكان حقيقة فيهما مشتركا معنويا وليس خالصا بالدفين ، ولو دار الأمر فيه بين كونه مجازا فيه أو متواطئا إذ لا شك في صحة إطلاقه على المعدن كان التواطؤ متعينا ، وإذا عرف هذا فاعلم أن المستخرج من المعدن ثلاثة أنواع : جامد يذوب وينطبع كالنقدين والحديد وما ذكره المصنف معه ، وجامد لا ينطبع كالجص والنورة والكحل والزرنيخ وسائر الأحجار كالياقوت والملح ، وما ليس بجامد كالماء والقير والنفط .

ولا يجب الخمس إلا في النوع الأول ، وعند الشافعي لا يجب إلا في النقدين على الوجه الذي ذكر في الكتاب ، استدل الشافعي على مطلوبه بما روى أبو حاتم من حديث عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في الركاز العشور } قال الشيخ تقي الدين في الإمام : ورواه يزيد بن عياض عن نافع وابن نافع ويزيد كلاهما متكلم فيه ، ووصفهما النسائي بالترك انتهى . فلم يفد مطلوبا .

وبما روى مالك في الموطإ عن ربيعة بن عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم { أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث المزني معادن بالقبلية } وهي من ناحية الفرع ، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم قال ابن عبد البر : هذا منقطع في الموطإ .

وقد روي متصلا على ما ذكرناه في التمهيد من رواية الدراوردي عن ربيعة بن عبد الرحمن بن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد في كتاب الأموال حديث منقطع ، ومع انقطاعه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ، وإنما قال : يؤخذ منه إلى اليوم انتهى : يعني فيجوز كون ذلك من أهل الولايات اجتهادا منهم ، ونحن نتمسك بالكتاب والسنة الصحيحة والقياس . أما الكتاب فقوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم [ ص: 234 ] من شيء فأن لله خمسه } ولا شك في صدق الغنيمة على هذا المال فإنه كان مع محله من الأرض في أيدي الكفرة ، وقد أوجف عليه المسلمون فكان غنيمة ، كما أن محله أعني الأرض كذلك وأما السنة فقوله عليه الصلاة والسلام { العجماء جبار ، والبئر جبار ، والمعدن جبار ، وفي الركاز الخمس } .

أخرجه الستة ، والركاز يعم المعدن والكنز على ما حققناه فكان إيجابا فيهما ، ولا يتوهم عدم إرادة المعدن بسبب عطفه عليه بعد إفادة أنه جبار : أي هدر لا شيء فيه وإلا لتناقض ، فإن الحكم المعلق بالمعدن ليس هو المعلق به في ضمن الركاز ليختلف بالسلب والإيجاب ، إذا المراد أن إهلاكه أو الهلاك به للأجير الحافر له غير مضمون ، لا أنه لا شيء فيه نفسه وإلا لم يجب شيء أصلا ، وهو خلاف المتفق عليه إذ الخلاف إنما هو في كميته لا في أصله ، وكما أن هذا هو المراد في البئر والعجماء فحاصله أنه أثبت للمعدن بخصوصه حكما فنص على خصوص اسمه ثم أثبت له حكما آخر مع غيره فعبر بالاسم الذي يعمهما ليثبت فيها فإنه علق الحكم : أعني وجوب الخمس بما يسمى ركازا ، فما كان من أفراده وجب فيه ، ولو فرض مجازا في المعدن وجب على قاعدتهم تعميمه لعدم ما يعارضه لما قلنا من اندراجه في الآية والحديث الصحيح مع عدم ما يقوى على معارضتهما في ذلك .

وأما ما روي عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { في الركاز الخمس ، قيل : وما الركاز يا رسول الله ؟ قال : الذهب الذي خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلقت الأرض } رواه البيهقي ، وذكره في الإمام ، فهو وإن سكت عنه في الإمام مضعف بعبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري . وفي الإمام أيضا أنه عليه الصلاة والسلام قال { في السيوب الخمس } والسيوب : عروق الذهب والفضة التي تحت الأرض ، ولا يصح جعلهما شاهدين على المراد بالركاز كما ظنوا ، فإن الأول خص الذهب ، والاتفاق أنه لا يخصه فإنما نبه حينئذ على ما كان مثله في أنه جامد منطبع ، والثاني لم يذكر فيه لفظ الركاز بل السيوب ، فإذا كانت السيوب تخص النقدين فحاصله أنه إفراد فرد من العام والاتفاق أنه غير مخصص للعام .

وأما القياس فعلى الكنز الجاهلي بجامع ثبوت معنى الغنيمة ، فإن هذا هو الوصف الذي ظهر أثره في المأخوذ بعينه قهرا فيجب ثبوت حكمه في محل النزاع وهو وجوب الخمس لوجوده فيه ، وكونه أخذ في ضمن شيء لا أثر له في نفي الحكم ، وإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام { في الرقة ربع العشر } مخصوص بالمستخرج للاتفاق على خروج الكنز الجاهلي من عموم الفضة ( قوله في أرض خراج أو عشر ) قيد به ليخرج الدار فإنه لا شيء فيه ، لكن ورد عليه الأرض التي لا وظيفة فيها كالمفازة ، إذ يقتضي أنه لا شيء في المأخوذ منها وليس كذلك ، فالصواب أن لا يجعل ذلك لقصد الاحتراس بل للتنصيص على أن وظيفتهما المستمرة لا تمنع الأخذ مما يوجد [ ص: 235 ] فيهما

( قوله إلا أن للغانمين يدا حكمية ) جواب عما يقال : لو كان غنيمة لكان أربعة الأخماس للغانمين لا للواحد . فأجاب بأن ذلك معهود شرعا فيما لا إذا كان لهم يد حقيقية على المغنوم ، أما إذا كان الثابت لهم يدا حكمية والحقيقة لغيرهم فلا يكون لهم . والحاصل أن الإجماع منعقد على عدم إعطائهم شيئا بل إعطاء الواجد ، وقد دل الدليل أن له حكم الغنيمة فلزم من الإجماع ، والدليل المذكور اعتباره غنيمة في حق إخراج الخمس لا في الجانب الآخر ، وما ذكرناه من وجه عدم إعطاء الغانمين الأربعة الأخماس هو تعيين لسند الإجماع في ذلك وتقريره أن المال كان مباحا قبل الإيجاف عليه .

والمال المباح إنما يملك بإثبات اليد عليه نفسه حقيقة كالصيد ، ويد الغانمين ثابتة عليه حكما لأن اليد على الظاهر يد على الباطن حكما لا حقيقة . أما الحقيقة فللواجد فكان له مسلما كان أو ذميا حرا أو عبدا بالغا أو صبيا ذكرا أو أنثى ; لأن استحقاق هذا المال كاستحقاق الغنيمة ، وكل من سمينا له حق فيها سهما أو رضخا ، بخلاف الحربي لا حق له فيها فلا يستحق المستأمن الأربعة الأخماس لو وجد في دارنا




الخدمات العلمية