الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 261 ] ( والفقير من له أدنى شيء والمسكين من لا شيء له ) وهذا مروي عن أبي حنيفة رحمه الله ، وقد قيل على العكس ولكل وجه [ ص: 262 ] ثم هما صنفان أو صنف واحد سنذكره في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى . ( والعامل يدفع إليه الإمام إن عمل بقدر عمله فيعطيه ما يسعه وأعوانه غير مقدر بالثمن ) خلافا للشافعي رحمه الله [ ص: 263 ] لأن استحقاقه بطريق الكفاية ، ولهذا يأخذ وإن كان غنيا إلا أن فيه شبهة الصدقة فلا يأخذها العامل الهاشمي تنزيها لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام عن شبهة الوسخ ، والغني لا يوازيه في استحقاق الكرامة فلم تعتبر الشبهة في حقه .

التالي السابق


( قوله والفقير من له أدنى شيء ) وهو ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة والمسكين من لا شيء له فيحتاج للمسألة لقوته أو ما يواري بدنه ويحل له ذلك بخلاف الأول حيث لا تحل المسألة له فإنها لا تحل لمن يملك قوت يومه بعد سترة بدنه ، وعند بعضهم : لا تحل لمن كان كسوبا أو يملك خمسين درهما ، ويجوز صرف الزكاة لمن لا تحل له المسألة بعد كونه فقيرا ولا يخرجه عن الفقر ملك نصب كثيرة غير نامية إذا كانت مستغرقة بالحاجة ولذا قلنا : يجوز للعالم وإن كانت تساوي نصبا كثيرة على تفصيل ما قدمناه فيها إذا كان محتاجا إليها للتدريس أو بالحفظ أو التصحيح ، ولو كانت ملك عامي وليس له نصاب نام لا يحل دفع الزكاة له لأنها غير مستغرقة في حاجته فلم تكن كثياب البذلة ، وعلى هذا جميع آلات المحترفين إذا ملكها صاحب تلك الحرفة وغيره .

والحاصل أن النصب ثلاثة : نصاب يوجب الزكاة على مالكه وهو النامي خلقة أو إعدادا وهو سالم من الدين ، ونصاب لا يوجبها وهو ما ليس أحدهما فإن كان مستغرقا بحاجة مالكه حل له أخذها وإلا حرمت عليه كأثياب تساوي نصابا لا يحتاج إلى كلها أو أثاث لا يحتاج إلى استعماله كله في بيته وعبد وفرس لا يحتاج إلى خدمته وركوبه ودار لا يحتاج إلى سكنها ، فإن كان محتاجا إلى ما ذكرنا حاجة أصلية فهو فقير يحل دفع الزكاة إليه وتحرم المسألة عليه .

ونصاب يحرم المسألة وهو ملك قوت يومه أو لا يملكه لكنه يقدر على الكسب أو يملك خمسين درهما على الخلاف في ذلك .

( قوله ولكل وجه ) وجه كون الفقير أسوأ حالا قوله تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } أثبت للمساكين سفينة ، وأجيب بأنها لم تكن لهم بل هم أجراء فيها أو عارية لهم أو قيل لهم مساكين ترحما .

وقوله عليه الصلاة والسلام { اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين } مع ما روي أنه تعوذ بالله من الفقر ، وجوابه أن الفقر المتعوذ منه ليس إلا فقر النفس لما صح أنه كان يسأل العفاف والغنى ، والمراد منه غنى النفس لا كثرة الدنيا ، فلا دليل على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين ، ولأن الله تعالى قدمهم في الآية على المساكين فدل على زيادة الاهتمام بهم ، وذلك مظنة زيادة حاجتهم . وقد يمنع بأنه قدم العاملين على الرقاب مع أن حالهم أحسن ظاهرا وأخر في سبيل الله وابن السبيل مع الدلالة على زيادة تأكيد الدفع إليهم حيث أضاف إليهم بلفظة في فدل أن التقديم لاعتبار آخر غير زيادة الحاجة ، والاعتبارات المناسبة لا تدخل تحت ضبط خصوصا من علام الغيوب ، ولأن الفقير بمعنى المفقود ، وهو المكسور الفقار فكان أسوأ حالا ، ومنع بجواز كونه [ ص: 262 ] من فقرت له فقرة من مالي : أي قطعة منه فيكون له شيء وقول الشاعر :

هل لك في أجر عظيم تؤجره تعين مسكينا كثيرا عسكره عشر شياه سمعه وبصره

عورض بقول الآخر :

أما الفقير الذي كانت حلوبته وفق العيال فلم يترك له سبد



يقال ماله سبد ولا لبد أي شيء وأصل السبد الشعر كذا في ديوان الأدب ، وقول الأول عشر شياه سمعه . . . إلخ لم يستلزم أنها مملوكته هي سمعه لجواز عشر تحصل له تكون سمعه فيكون سائلا من المخاطب عشر شياه يستعين بها على عسكره أي عياله ويؤجر فيها المخاطب الدافع لها . وجه الأخرى قوله تعالى { أو مسكينا ذا متربة } أي ألصق جلده بالتراب محتفرا حفرة جعلها إزاره لعدم ما يواريه أو ألصق بطنه به للجوع ، وتمام الاستدلال به موقوف على أن الصفة كاشفة ، والأكثر خلافه فيحمل عليه فتكون مصنفة وخص هذا الصنف بالحض على إطعامهم كما خص اليوم بكونه ذا مسغبة : أي مجاعة لقحط وغيره ، ومن تخصيص اليوم علمنا أن المقصود في هذه الآية الحض على الصدقة في حال زيادة الحاجة زيادة حض . وقوله عليه الصلاة والسلام { ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يعرف ولا يفطن له فيعطى ولا يقوم فيسأل الناس } متفق عليه .

فمحمل الإثبات أعني قوله { ولكن المسكين الذي لا يعرف فيعطى } مراد معه وليس عنده شيء فإنه نفى المسكنة عمن يقدر على لقمة ولقمتين بطريق المسألة وأثبتها لغيره ، فهو بالضرورة من لا يسأل مع أنه لا يقدر على اللقمة واللقمتين لكن المقام مقام مبالغة في المسكنة ، ولذا صرح المشايخ في عرض أن المراد ليس الكامل في المسكنة ، وعلى هذا فالمسكنة المنفية عن غيره هي المسكنة المبالغ فيها لا مطلق المسكنة وحينئذ لا يفيد المطلوب .

الثالث موضع الاشتقاق وهو السكون يفيد المطلوب كأنه عجز عن الحركة فلا يبرح . ( قوله ثم هما صنفان أو صنف واحد ) ثمرته في الوصايا ، والأوقاف إذا أوصى بثلثه لزيد وللفقراء والمساكين أو وقف فلزيد ثلث الثلث ولكل ثلثه على قول أبي حنيفة ، وعلى قول أبي يوسف لفلان نصف الثلث ، وللفريقين نصفه ، بناء على جعلهما صنفا واحدا .

والصحيح قول أبي حنيفة ذكره فخر الإسلام ، ( قوله فيعطيه ما يسعه وأعوانه ) من كفايتهم بالوسط إلا إن استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف [ ص: 263 ] لأن التنصيف عين الإنصاف . وتقدير الشافعي بالثمن بناء على وجوب صرف الزكاة إلى كل الأصناف وهم ثمانية إنما يتم على اعتبار عدم سقوط المؤلفة قلوبهم ، ولو هلك المال قبل أن يأخذ لم يستحق شيئا لأن استحقاقه فيما عمل فيه كالمضارب إذا هلك المال بعد ظهور الربح ( قوله فلم تعتبر الشبهة ) أي شبهة الصدقة في حق الغني كما اعتبر في حق الهاشمي ; لأنه لا يوازي الهاشمي في استحقاق الكرامة ومنع الهاشمي من العمالة صريح في الحديث الذي سيأتي وننبهك عليه إن شاء الله تعالى




الخدمات العلمية