الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين [ 282 ]

                                                                                                                                                                                                                                        قد ذكرنا كل ما فيه في كتابنا الأول " المعاني " . ( فاكتبوه وليكتب ) أثبت اللام في الثاني ، وحذفها من الأول ؛ لأن الثاني غائب ، والأول للمخاطبين . فإن شئت حذفت اللام في المخاطب لكثرة استعمالهم ذلك ، وهو أجود . وإن شئت أثبتها على الأصل . فأما الغائب فزعم محمد بن يزيد أنه لا بد من اللام في الفعل إذا أمرته . وأجاز سيبويه ، والكوفيون حذفها ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                        محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من قوم تبالا



                                                                                                                                                                                                                                        وليملل الذي عليه الحق هذه لغة أهل الحجاز وبني أسد ، وتميم يقولون : " أمليت " . وجاء القرآن باللغتين جميعا ؛ قال - جل وعز - : " فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " ، والأصل : " أمللت " أبدل من اللام ياء لأنه أخف . فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان رفع بالابتداء ، وامرأتان عطف عليه ، والخبر محذوف أي فرجل وامرأتان يقومون مقامهما . وإن شئت أضمرت المبتدأ أي فالذي يستشهد رجل [ ص: 345 ] وامرأتان . ويجوز النصب في غير القرآن ، أي فاستشهدوا . وحكى سيبويه : " إن خنجرا فخنجرا " أي فاتخذ خنجرا . أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى هذه قراءة الحسن ، وأبي عمرو بن العلاء ، وعيسى ، وابن كثير ، وحميد ، بفتح " أن " ونصب " تذكر " وتخفيفه . وقرأ أهل المدينة : ( أن تضل إحداهما فتذكر ) بفتح " أن " ونصب " تذكر " وتشديده . وقرأ أبان بن تغلب ، والأعمش ، وحمزة : ( إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) بكسر " إن " ورفع " تذكر " وتشديده . قال أبو جعفر : ويجوز " تضل " بفتح التاء والضاد . ويجوز " تضل " بكسر التاء وفتح الضاد . والقراءة الأولى حسنة لأن الفصيح أن يقال : أذكرتك ، وذاكرتك : وعظتك . قال - جل وعز - : وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : " رحم الله فلانا كأي من آية أذكرنيها " .

                                                                                                                                                                                                                                        وفي هذه القراءة على حسنها من النحو إشكال شديد . قال الفراء : هو في مذهب الجزاء ، و " إن " جزاء مقدم أصله التأخير ، أي استشهدوا امرأتين مكان الرجل ، كما تذكر الذاكرة الناسية إن نسيت ، فلما تقدم الجزاء اتصل بما قبله ففتحت " أن " فصار جوابه مردودا عليه . قال : ومثله " إني ليعجبني أن يسأل السائل فيعطى " . المعنى أنه يعجبه الإعطاء وإن سأل السائل .

                                                                                                                                                                                                                                        قال أبو جعفر : وهذا القول خطأ عند البصريين ؛ لأن " إن " المجازاة لو فتحت انقلب المعنى . وقال سيبويه : أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى انتصب لأنه أمر بالإشهاد لأن تذكر ، ومن أجل أن تذكر . قال : فإن قال إنسان : [ ص: 346 ] كيف جاز أن تقول : " أن تضل " ، ولم يعد هذا للإضلال والالتباس ؟ فإنما ذكر " أن تضل " لأنه سبب الإذكار ، كما يقول الرجل : " أعددته أن يميل الحائط فأدعمه " . وهو لا يطلب بإعداده ذلك ميلان الحائط ، ولكنه أخبر بعلة الدعم وبسببه . قال أبو جعفر : وسمعت علي بن سليمان يحكي عن أبي العباس محمد بن يزيد أن التقدير : ممن ترضون من الشهداء كراهة أن تضل إحداهما ، وكراهة أن تذكر إحداهما الأخرى . قال أبو جعفر : وهذا القول غلط ، وأبو العباس يجل عن قول مثله ؛ لأن المعنى على خلافه ، وذلك أنه يصير المعنى : كراهة أن تضل إحداهما ، وكراهة أن تذكر إحداهما الأخرى . وهذا محال . وأصح الأقوال : قول سيبويه ، ومن قال : " تضل " جاء به على لغة من قال : " ضللت تضل " ، وعلى هذا تقول : " تضل " بكسر التاء ؛ لتدل على أن الماضي فعلت . ولا تسأموا قال الأخفش : يقال : سئمت أسأم سآمة وسآما وسأما وسأما . أن تكتبوه في موضع نصب بالفعل ، كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                        سئمت تكاليف الحياة ومن يعش



                                                                                                                                                                                                                                        صغيرا أو كبيرا على الحال : أعطيته دينه صغر أو كبر . ذلكم أقسط عند الله ابتداء وخبر وأقوم للشهادة عطف عليه ، وكذا : وأدنى ألا في موضع نصب أي من أن لا إلا أن تكون تجارة حاضرة " أن " في موضع نصب استثناء ليس من الأول . قال الأخفش : أي إلا أن تقع تجارة ، وقال غيره : تديرونها الخبر . وقرأ عاصم : إلا أن تكون تجارة حاضرة أي إلا أن تكون [ ص: 347 ] المداينة تجارة حاضرة . وأشهدوا إذا تبايعتم أمر ، فزعم قوم أنه على الندب والتأديب ، وكذا قالوا في قوله : إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه هذا قول الفراء ، وزعم أن مثله : " وإذا حللتم فاصطادوا " قال : ومثله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض قال أبو جعفر : هذا قول خطأ عند جميع أهل اللغة وأهل النظر ولا يشبه هذا قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا ولا فانتشروا في الأرض لأن هذين إباحة بعد حظر ولا يجوز في اللغة أن يحمل الأمر على الندب إلا بما تستعمله العرب من تقدم الحظر أو ما أشبه ذلك فزعم قوم أن هذا مما رخص في تركه بغير آية ، وعلى هذا فسروا " أو ننسها " قالوا : نطلق لكم تركها . وقيل : الإباحة في ترك المكاتبة بالدين : فإن أمن بعضكم بعضا وقيل : المكاتبة واجبة كما أمر الله - عز وجل - إذا كان الدين إلى أجل ، وأمر الله بهذا حفظا لحقوق الناس . وقال عبد الله بن عمر : المشاهدة واجبة في كل ما يباع قليل أو كثير كما قال الله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد يجوز أن يكون التقدير : ولا يضارر ، وأن يكون التقدير : ولا يضارر . قال أبو جعفر : ورأيت أبا إسحاق يميل إلى هذا ، قال : لأن بعده " وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم " ، فالأولى أن تكون من شهد بغير الحق ، أو حرف في الكتابة أن يقال له : فاسق ؛ فهو أولى ممن سأل شاهدا وهو مشغول أن يشهد . قال المفضل : وقرأ الأعمش : ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) قال أبو جعفر : كسر الراء لالتقاء الساكنين ، وكذلك من فتح إلا أن [ ص: 348 ] الفتح أخف . وقرأ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن أبي إسحاق : ( ولا يضارر ) بكسر الراء الأولى . وقرأ ابن مسعود : ( ولا يضارر ) بفتح الراء الأولى . وهاتان القراءتان على التفسير ، ولا يجوز أن تخالف التلاوة التي في المصحف . وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم أي فإن هذا الفعل ، ويجوز أن يكون التقدير : فإن الضرار فسوق بكم ، كما قال :


                                                                                                                                                                                                                                        إذا نهي السفيه جرى إليه



                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية