الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وقوله - عز وجل -: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ؛ إن قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهل الجنة؛ وما أعد للكافرين; قيل: يتصل هذا بقوله: فلا تجعلوا لله أندادا ؛ لأن الله - عز وجل - قال: إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ؛ وقال: مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ؛ فقال الكافرون: إن إله محمد يضرب الأمثال بالذباب؛ والعنكبوت؛ فقال الله - عز وجل -: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها ؛ أي؛ لهؤلاء الأنداد الذين اتخذتموهم من دون الله؛ لأن هذا في الحقيقة مثل هؤلاء الأنداد.

                                                                                                                                                                                                                                        فأما إعراب " بعوضة " ؛ فالنصب من جهتين في قولنا؛ وذكر بعض النحويين جهة ثالثة؛ فأما أجود هذه الجهات فأن تكون " ما " ؛ زائدة مؤكدة؛ كأنه قال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلا؛ ومثلا بعوضة " ؛ و " ما " ؛ زائدة مؤكدة؛ نحو قوله: فبما رحمة من الله لنت لهم ؛ المعنى: فبرحمة من الله [ ص: 104 ] حقا " ؛ ف " ما " ؛ في التوكيد بمنزلة " حق " ؛ إلا أنه لا إعراب لها؛ والخافض والناصب يتخطاها إلى ما بعدها؛ فمعناها التوكيد؛ ومثلها في التوكيد " لا " ؛ في قوله: لئلا يعلم أهل الكتاب ؛ معناه: لأن يعلم أهل الكتاب؛ ويجوز أن يكون " ما " ؛ نكرة؛ فيكون المعنى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب شيئا مثلا " ؛ وكأن " بعوضة " ؛ في موضع وصف شيء؛ كأنه قال: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء؛ بعوضة فما فوقها " ؛ وقال بعض النحويين: يجوز أن يكون معناه: ما بين بعوضة إلى ما فوقها؛ والقولان الأولان قول النحويين القدماء؛ والاختيار عند جمع البصريين أن يكون " ما " لغوا؛ والرفع في " بعوضة " ؛ جائز في الإعراب؛ ولا أحفظ من قرأ به؛ ولا أعلم هل قرأ به أحد؛ أم لا؛ فالرفع على إضمار " هو " ؛ كأنه قال: " مثلا الذي هو بعوضة " ؛ وهذا عند سيبويه ضعيف؛ وعنه مندوحة؛ ولكن من قرأ: " تماما على الذي أحسن " - وقد قرئ به -؛ جاز أن يقرأ: " مثلا ما بعوضة " ؛ ولكنه في " الذي أحسن " ؛ أقوى؛ لأن " الذي " ؛ أطول؛ وليس ل " الذي " ؛ مذهب غير الأسماء؛ وقالوا في معنى قوله: " فما فوقها " ؛ قالوا في ذلك قولين؛ قالوا: " فما فوقها " : أكبر منها؛ وقالوا: " فما فوقها " : في الصغر؛ وبعض النحويين يختارون الأول؛ لأن البعوضة كأنها نهاية في الصغر فيما يضرب به المثل؛ والقول الثاني مختار أيضا؛ لأن المطلوب هنا؛ والغرض الصغر؛ وتقليل المثل بالأنداد.

                                                                                                                                                                                                                                        قوله - عز وجل -: فأما الذين آمنوا ؛ يعني صدقوا؛ فيعلمون ؛ أن هذا المثل [ ص: 105 ] حق؛ وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا ؛ أي: ما أراد بالذباب؛ والعنكبوت مثلا; فقال الله - عز وجل -: يضل به كثيرا ؛ أي: يدعو إلى التصديق به الخلق جميعا؛ فيكذب به الكفار؛ فيضلون به.

                                                                                                                                                                                                                                        وما يضل به إلا الفاسقين ؛ يدل على أنهم المضلون به؛ " ويهدي به كثيرا " ؛ يزاد به المؤمنون هداية؛ لأن كلما ازدادوا تصديقا فقد ازدادوا هداية؛ والفاء دخلت في جواب " أما " ؛ في قوله: " فيعلمون " ؛ لأن " أما " ؛ تأتي بمعنى الشرط؛ والجزاء؛ كأنه إذا قال: " أما زيد فقد آمن؛ وأما عمرو فقد كفر " ؛ فالمعنى: مهما يكن من شيء فقد آمن زيد؛ ومهما يكن من شيء فقد كفر عمرو ؛ وقوله: " ماذا " ؛ يجوز أن يكون " ما " ؛ و " ذا " ؛ اسما واحدا؛ يكون موضعهما نصبا؛ المعنى: أي شيء أراد الله بهذا مثلا؟ ويجوز أن يكون " ذا " ؛ مع " ما " ؛ بمنزلة " الذي " ؛ فيكون المعنى: ما الذي أراده الله بهذا مثلا؟ أو: أي شيء الذي أراده الله بهذا مثلا؟ ويكون " ما " ؛ هنا؛ رفعا بالابتداء؛ و " ذا " ؛ في معنى " الذي " ؛ وهو خبر الابتداء؛ وإعراب " الفاسقين " : نصب؛ كأن المعنى: وما يضل به أحد إلا الفاسقين.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية