الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وشرط وجوبه كوقوعه فرضا حرية وتكليف وقت إحرامه [ ص: 192 ] بلا نية نفل ، ووجب باستطاعة بإمكان الوصول : بلا مشقة عظمت ، وأمن على نفس ومال ; إلا لأخذ ظالم ما [ ص: 193 ] قل لا ينكث على الأظهر ، [ ص: 194 ] ولو بلا زاد وراحلة لذي صنعة تقوم به ، وقدر على المشي : كأعمى بقائد ، وإلا اعتبر المعجوز عنه منهما ، وإن بثمن ولد زنا ، [ ص: 195 ] أو ما يباع على المفلس ، أو بافتقاره ، أو ترك ولده ، للصدقة ; إن لم يخش هلاكا ، لا بدين أو عطية [ ص: 196 ] أو سوال مطلقا ، واعتبر ما يرد به ، إن خشي ضياعا ، والبحر كالبر ، إلا أن يغلب عطبه ، [ ص: 197 ] أو يضيع ركن صلاة لكميد .

التالي السابق


( وشرط وجوبه ) أي : الحج ( كوقوعه ) أي : الحج ( فرضا حرية ) أي : كون الحاج حرا فلا يجب ولا يقع فرضا من رقيق ولو بشائبة حرية كمكاتب ( وتكليف ) أي : كونه مكلفا أي : ملزما بما فيه كلفة لكونه بالغا عاقلا فلا يجب ولا يقع فرضا من صبي ولا من مجنون ، وبقي من شروط وجوبه دون وقوعه فرضا الاستطاعة وسيأتي في قوله ووجب باستطاعة فلا يجب على غير مستطيع ، وإن تكلفه وقع فرضا وتنازع حرية وتكليف ( وقت إحرامه ) أي الحج ، فمن لم يكن حرا مكلفا وقت إحرامه فلا يجب عليه ولا [ ص: 192 ] يقع منه فرضا ولو صار حرا مكلفا في أثناء حجه فلا ينقلب فرضا ولا يرتفض ولا يرتدف عليه إحرام آخر فيتمه نفلا وجوبا ، ويحج حجة الإسلام في العام القابل .

وقوله ( بلا نية نفل ) شرط في وقوعه فرضا فقط ومنطوقه صادق بنية الفرض والإطلاق ، وينصرف للفرض ومفهومه أنه إن نوى به النفل فلا يقع فرضا ، وهو كذلك فينعقد نفلا وعليه إتمامه وحج الفرض في عام آخر .

( ووجب ) الحج ( باستطاعة ) فلا يجب على حر مكلف غير مستطيع ، ولكن إن تكلفه وهو صرورة وقع فرضا فليست شرطا في وقوعه فرضا فلذا لم يقل واستطاعة لإيهامه شرطيتها فيه أيضا وليس كذلك . وصور الاستطاعة بقوله ( بإمكان الوصول ) لأماكن المناسك من مكة ومنى وعرفة ومزدلفة إمكانا عاديا لا خارقا للعادة كخطوة وطيران ; لأنه خلاف ما وقع منه صلى الله عليه وسلم ولكن إن وقع أجزأ عن حجة الإسلام كتكلف غير مستطيعه .

( بلا مشقة عظمت ) أي : خرجت عن المعتاد من محل الضرورة بالنسبة له ، وهي تختلف باختلاف أحوال الناس والأزمنة والأمكنة ، فليس الشيخ كالشاب ، ولا المريض كالصحيح ولا الفقير كالغني ، ولا الحضري كالبدوي ، ففي الحط التشنيع على من أطلق السقوط عن أهل المغرب ( و ) ب ( أمن على نفس ) من هلاك وشديد أذى وقتل وأسر وسباع ( ومال ) من محارب وقاطع طريق وغاصب ، وأخذ ظالم ينكث أو كثيرا ، لا من سارق يندفع بالحراسة وهذا من عطف خاص على عام .

واستثنى من مفهوم وأمن على مال فقال ( إلا لأخذ ) شخص ( ظالم ما ) أي مالا [ ص: 193 ] قل ) بالنسبة لمال المأخوذ منه بحيث لا يجحف به ولو كثر في نفسه ، ويحتمل أن المراد قل في نفسه وأن أخذ الكثير مسقط ولو لم يجحف كما للخمي . ابن عرفة ويسقط بطلب نفس أو بمجحف أو بما لا حد له وبما لا يجحف قولا المتأخرين . اللخمي لا يسقط بغرم اليسير قال وظاهر قول القاضي ولا بكثير لا يجحف ( لا ينكث ) أي لا يعود الظالم للأخذ وعلم ذلك بالعادة كعشار ، فإن علم أنه ينكث أو جهل سقط وجوب الحج . بلا خلاف ، قاله زروق ، ويدل له ما في البرزلي عن ابن رشد قاله الحط ونحوه للشيخ سالم .

وما في عج من أن جهل الحال كعلم عدم نكثه من غير دليل نقلي غير ظاهر ، وإن شك هل ينكث أو لا ؟ فيسقط على المذهب . وقيل لا كذا البعض . الحط إن علم أنه ينكث أو شك فيه فلا يجب الحج بلا خلاف ، وإذا كان يأخذ ما قل ولا ينكث فلا يسقط وجوب الحج ( على الأظهر ) عند ابن رشد من الخلاف وليس لابن رشد في هذه المسألة استظهار على ما قاله ابن غازي والمواق والحط في صدر كلامه .

ثم ذكر عن البرزلي ما يشهد للمصنف وذكره حلولو بوجه أتم منه ، واحترز بقوله ظالم من أخذ الدال على الطريق أجرة من المسافرين فإنه جائز وليس فيه تفصيل الظالم وتوزع على عدد رءوس المسافرين لا على حسب أمتعتهم ; إذ من معه دواب كالمجرد منها في الانتفاع به والظاهر عدد رءوس التابعين والمتبوعين وإن جرى عرف بشيء عمل به ; لأنه كالشرط ، واحترز أيضا عما يأخذه الجند ونحوهم على حفظ المارة من موضع لآخر أو في جميع الطريق فإنه جائز ، ويلزم الحج حينئذ كما أفتى به ابن عرفة بثلاثة شروط أن لا يجحف وإلا سقط الحج ، وإن يمشوا هم أو خدمهم مع المارة وإلا حرم عليهم الأخذ ; لأنه حينئذ أخذ على الجاه ولكن لا يسقط الحج بذلك .

الثالث : أن لا يكون لهم من بيت المال مرتب قدر ما يكفيهم في مقابلة حفظ المارين وإلا كانوا كالظالم ، وإن أخذوا بالشروط المذكورة فيوزع على عدد الرءوس وقدر الأمتعة والدواب لاستواء الجميع الانتفاع بالحفظ من سارق ونحوه والدال على الطريق [ ص: 194 ] ينتفع به المسافرون فقط ، فلذا كانت أجرته على عددهم دون أمتعتهم إن كان لمن يمكنه الوصول بلا مشقة عظمت زاد وراحلة بل :

( ولو بلا زاد ) يأكله في سفر ( وراحلة ) يركبها فيه ( لذي ) أي : صاحب ( صنعة ) كحلاقة وخياطة ونجارة ( تقوم ) الصنعة ( به ) أي : المسافر في سفره ، أي : تكفيه فيه لزاده ولا تزري به وعلم أو ظن عدم كسادها ( وقدر على المشي ) هذا راجع لقوله فهو نشر مرتب للف السابق . وظاهره ولو لم يعد المشي واشترط القاضي والباجي اعتياده .

وشبه في الوجوب فقال ( ك ) شخص ( أعمى ) قدر على المشي ( بقائد ) ولو بأجرة لا تجحف به بملكها وله مال يوصله له اللخمي أو يتكفف ، وأدخلت الكاف الأشل والأعرج يدا أو رجلا والأقطع والأصم ( وإلا ) أي : وإن لم يكن الوصول بلا زاد ولا راحلة ولم يجد ما يقوم مقامهما انفرادا أو اجتماعا ( اعتبر ) بضم المثناة في السقوط ( المعجوز عنه منهما ) أي : الزاد والراحلة فأيهما عجز عنه فلا يجب عليه الحج ، فأحرى عجزه منهما معا فإن كان تلحقه المشقة بركوب القتب والزاملة اشتراط في حقه وجود المحمل ، فإن كانت تلحقه بركوبه أيضا اعتبر وجودها أرقى منه .

وظاهر كلام المصنف عدم اشتراط وجود الماء في كل منهل . ونقل عبد الحق اشتراطه عن بعض أهل العلم ابن عرفة ولذا لم يحج أكثر شيوخنا لتعذر الماء غالبا في بعض المناهل وحكاية الشامل قول عبد الحق بقيل تقتضي ضعفه ، وكلام جمع يقتضي اعتماده وأنه المذهب وهو الظاهر ، والمراد والله أعلم وجوده في المناهل المعتاد وجوده فيها غالبا لا في كل مرحلة ويجب الحج على الحر المكلف الذي يمكنه الوصول بلا مشقة عظمت ، بإنفاق مال غير ثمن ولد زنا بل ( وإن ) كان إمكان الوصول بلا مشقة عظمت ( ب ) إنفاق ( ثمن ) رقيق ( ولد ) لأمته حملت به من ( زنا ) ; لأنه لا شبه فيه وإثم الزنا على فاعليه ، ونبه عليه [ ص: 195 ] لئلا يتوهم أن كونه ناشئا عن الزنا مانع من الحج بثمنه ولأن كلام ابن رشد دل على أن المستحب أن لا يحج به من يملك غيره . وأصل المسألة في الموازية والعتبية وبه يرد قول البساطي ، لو ترك المصنف خشونة هذا اللفظ في مثل الحج لكان أحسن .

( أو ) بإنفاق ثمن ( ما ) أي شيء ( يباع على المفلس ) بضم الميم وفتح الفاء واللام مثقلة أي : المدين الذي حكم بخلع ماله وقسمته على غرمائه بحسب ديونهم لتوفية بعض الدين الذي عليه ( أو ب ) إنفاق ما يؤدي إلى ( افتقاره ) أي : صيرورته فقيرا ( أو ) إلى ( ترك ولده ) الذي تلزمه نفقته أو والده كذلك ( للصدقة ) عليه من الناس بناء على فورية الحج .

( إن لم يخش ) مريد الحج بالمال الذي بيده صيرورته فقيرا أو ترك من لزمته نفقته للصدقة ( هلاكا ) لنفسه أو لمن لزمته نفقته ولا أذى شديدا . تت وأحمد علم من هذه المسائل أن من معه ما ينفقه على زوجته أو يحج به ويتركها بلا نفقة فتطلق نفسها لعدم النفقة إن شاءت يجب عليه الحج أي : إلا أن يخشى الزنا ولو بغيرها أو كانت مضرة طلاقها تزيد على مضرة ترك الحج تت وفهم منها أيضا أن العزب الذي معه مال يحج أو يتزوج به فإنه يحج به ما لم يخش العنت . ابن رشد وإن تزوج أثم ولا يفسخ والمسألتان على فوريته ( لا ) يجب الحج على من استطاعه ( بدين ) ولو من ولده حيث لم يكن له ما يوفيه به ، وحجه حينئذ مكروه أو حرام أو له ذلك ولا يمكنه الوصول إليه لبعده وإلا وجب الحج عليه به .

( أو ) أي ولا يجب بقبول ( عطية ) أي : هبة أو صدقة بغير سؤال بدليل ما بعده أي إن أعطى للحج ، وإن لم يحج فلا يعطي فإن أعطى مطلقا وقبل وجب حجه بها فمحل كلام المصنف إن لم يقبلها أو أعطيها للحج ولم يكن معطيه ولده ، وإلا وجب عليه ذكره . تت والحطاب عن سند زاد الحطاب عن ابن العربي والقرطبي لا يلزمه قبول هبة ابنه عند مالك وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهما ; لأنها تسقط حرمة أبوته . ويلزمه عند الشافعي رضي الله تعالى عنه ; لأن ابنه من كسبه ولا منة له عليه في ذلك وما قاله سند [ ص: 196 ] أظهر ولابن رشد ما يوافقه ا هـ . كلام الحطاب وأما والده فلا ا هـ .

عب البناني الصواب في شرح كلام المصنف كما في الحطاب أن يقال إذا أعطى مالا على جهة الهبة أو لصدقة يمكنه الوصول به إلى مكة فلا يلزمه قبوله والحج به لسقوط الحج عنه ا هـ ، فالمدار على قبولها ، فإن قبلها لزمه وإلا فلا يلزمه ( و ) أي : ولا يجب الحج على من استطاعه ب ( سؤال ) من الناس في السفر ( مطلقا ) عن التقييد بعدم اعتياده في الحضر وعدم الإعطاء في السفر ، فلا يجب على من اعتاده في الحضر وعلم إعطاءه في السفر ما يكفيه ، ولكن المذهب وجوبه عليه في هذه الحالة حيث كانت له راحلة أو قدر على المشي وعليه اقتصر ابن عرفة ونصه ، وقدرة سائل بالحضر على سؤال كفايته بالسفر استطاعة .

وأما غير سائل بالحضر وغير قادر على سؤال كفايته بالسفر فلا يجب عليه اتفاقا قاله ابن رشد ، وفي إباحته وكراهته روايتان . البناني كذا في أكثر النسخ بلفظ غير قادر ، والصواب إسقاط لفظ غير كما في بعض النسخ ونص ابن عرفة ولا يجب على فقير غير سائل بالحضر قادر على سؤال كفايته بالسفر . ابن رشد اتفاقا وفي إباحته له وكراهته روايتا ابن عبد الحكم وابن القاسم .

( واعتبر ) بضم المثناة في الاستطاعة زيادة على ما يوصله لمكة ( ما ) أي : مال ( يرد ) بضم ففتح أي : يرجع ( به ) إلى أقرب مكان يمكنه التمعش فيه بما لا يزري به من الحرف ( إن خشي ضياعا ) ببقائه بمكة فإن كان يمكنه التمعش بها بما لا يزري به فلا يعتبر إلا ما يوصله إليها .

( والبحر كالبر ) في وجوب السفر فيه لمن تعين طريقه كأهل الجزر وجوازه لمن له طريق آخر في كل حال ( إلا أن يغلب ) أي : يفوق ويزيد ( عطبه ) أي : البحر على السلامة منه وأفاد كلامه أن استواءهما كغلبة السلامة وليس كذلك لقول التلقين : والبحر [ ص: 197 ] كالبر إن غلبت السلامة وابن عرفة والبحر الآمن مع أداء فرض الصلاة كالبر وإلا سقط ا هـ هذا هو المشهور وفي المجموعة روى ابن القاسم كراهته لغير أهل الجزر .

( أو ) إلا أن ( يضيع ركن صلاة ) كسجود وقيام ( لكميد ) بفتح الميم أي دوخة وأدخلت الكاف الزحمة بحيث لا يستطيع معها السجود إلا على ظهر آخر ; ومثل الإخلال بركنها الإخلال بشرطها كنجاسة واستبراء وستر عورة وقبلة أو تأخيرها عن وقتها الاختياري ، وفيه قال مالك رضي الله تعالى عنه : لا يركبه أيركب حيث لا يصلي ؟ ويل لمن ترك الصلاة . ابن عرفة وفي كونه مع الصلاة جالسا والسجود على ظهر أخيه مسقطا أولا سماع أشهب وتخريج اللخمي على قول أشهب بصحة جمعة من سجد على ظهر أخيه وإباحة سفر تجر ينقل للتيمم ا هـ .

ويقضي العالم بالميد ما خرج وقته في غيبة عقله كالسكران بجامع إدخاله عن نفسه ولا يقضيه غيره لعذره . ابن المعلي واللخمي إن علم حصول الميد حرم عليه ركوبه وإن علم عدمه جاز ، وإن شك كره ، ويؤمر بالرجوع في الوجه الممنوع بأي وجه أمكنه .




الخدمات العلمية