الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وحرم به قطع ما ينبت بنفسه ( في الحرم ، إلا الإذخر والسنا : [ ص: 356 ] كما يستنبت ، وإن لم يعالج ، ولا جزاء كصيد المدينة [ ص: 357 ] بين الحرار ، وشجرها بريدا في بريد .

التالي السابق


( وحرم ) على الرجل والمرأة ( به ) أي : في الحرم ( قطع ما ) أي : الذي ( ينبت ) جنسه ( بنفسه ) أي : من غير عمل من آدمي كالبقل البري والطرفاء وأم غيلان ولو زرعه شخص نظرا لجنسه ، ولا فرق بين أخضره ويسمى عشبا وخلى بفتح الخاء المعجمة مقصورا ، ويابسه ويسمى كلأ بفتح الكاف واللام مهموزا مقصورا . ويحرم قطع ما ذكر ولو لاحتشاش البهائم هذا ظاهر كلام الكافي وابن رشد ، وحمل عليه ابن عبد السلام قولها يكره الاحتشاش ، وحملها سند على ظاهرها وهو ظاهر كلام أبي الحسن .

( إلا الإذخر ) بكسر الهمز والخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة نبت كالحلفاء طيب الرائحة واحده إذخرة وجمعه أذاخر بفتح الهمز فيجوز قطعه وهو مما ينبت بنفسه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم استثناه لما قال له عمه العباس رضي الله تعالى عنه إلا الإذخر لصاغتنا وقبورنا فقال صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر ( و ) إلا ( السنا ) بالقصر نبت مسهل يتداوى به قاسه أهل المذهب على الإذخر في جواز قطعه ، وهو مما ينبت بنفسه ورأوه من ، قياس الأولى بالحكم لكثرة الاحتياج إليه في الأدوية . وفي القاموس السنا ضوء البرق ونبت مسهل للصفراء والبلغم والسوداء ويمد . ا هـ . وهو أحد الملحقات بما ورد في الحديث استثناؤه وهو الإذخر فقط وهي السنا والهش أي : قطع ورق الشجر بالمحجن بكسر الميم أي عصا معوج الرأس كالخطاف ، فيجعل على الغصن ويسحب فيسقط ورقه ، فهذا جائز . [ ص: 356 ] وأما ضربه بالعصا لذلك فلا يجوز ، والعصا والسواك وقطع الشجر للبناء والسكنى بموضعه . وسادسها قطعه لاصطلاح الحوائط والبساتين فجملة المستثنيات سبعة . واقتصر المصنف على السنا لشدة الاحتياج إليه . ابن عبد السلام استثنى الإذخر في الحديث وزاد أهل المذهب السنا لشدة الحاجة إليه ورأوه من قياس الأحرى ; لأن حاجة الناس إليه في الأودية لكثر وأشد من حاجة أهل مكة إلى الإذخر وهو أقرب من إجازة بعضهم اجتناء الكماة . وإجازة الشافعي قطع المساويك .

زاد في المدونة وجائز الرعي في حرم مكة وحرم المدينة في الحشيش والشجر وأكره أن يحتش في الحرم حلال أو حرام خيفة قتل الدواب ، وكذلك الحرام في الحل إلا أن يسلما من قتل الدواب فلا شيء عليهم ، وأكره لهم ذلك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخبط وقال هشوا وارعوا ، قال مالك رضي الله تعالى عنه الهش ، تحريك الشجر بالمجن ليقع ورقه ولا يخبط ولا يعضد والعضد الكسر ا هـ .

وشبه في الجواز المفاد بالاستثناء فقال ( كما ) أي : الذي ( يستنبت ) جنسه كخس وبقل وسلق وكراث وحنطة وبطيخ وقثاء وفقوس وكخوخ وعناب وعنب ونخل فيجوز قطعه إن استنبت بل ( وإن لم يعالج ) بأن نبت بنفسه اعتبارا بأصله بمثابة ما توحش من الإنسي ( ولا جزاء ) على قاطع ما حرم قطعه ; لأنه قدر زائد على التحريم يحتاج لدليل ولا دليل فليس فيه إلا الاستغفار .

وشبه في الحرمة وعدم الجزاء فقال ( كصيد ) حرم ( المدينة ) الشريفة المنورة بأنوار خاتم النبيين ، وسيد المرسلين صلى الله عليه وسلم عليه وعليهم أجمعين ، فيحرم . ولا جزاء فيه كاليمين الغموس الماضية ; لأن المحرم لحرم المدينة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام والمحرم لحرم مكة سيدنا إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ونبينا أعظم منه عليهما الصلاة والسلام . ولأن الكفارة لا تثبت بالقياس ، أفاده في التوضيح .

وقال ابن رشد في رسم الحج من سماع القرينين ، ما نصه حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين [ ص: 357 ] لابتي المدينة بريدا في بريد ، قال عليه الصلاة والسلام { اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها } . واختلف أهل العلم فيمن صاد فيها صيدا فمنهم من أوجب عليه فيه الجزاء كحرم مكة سواء وبذلك قال ابن نافع ، وإليه ذهب عبد الوهاب . وذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه إلى أن الصيد في حرم المدينة أخف من الصيد في حرم مكة . فلم ير على من صاد فيه إلا الاستغفار والزجر من الإمام قيل له فهل يؤكل الصيد الذي يصاد في حرم المدينة فقال ما هو مثل ما يصاد في حرم مكة وإني لأكرهه ، فروجع فيه فقال لا أدري وما أحب أن أسأل عنه .

وحرمها بالنسبة للصيد ما ( بين الحرار ) المحيطة بها جمع حرة أي أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بنار فالمدينة داخلة في حرم الصيد والجمع لما فوق الواحد إذ ليس ثم إلا حرتان أو باعتبار أن لكل حرة طرفين وهما المراد بلابتيها ( و ) كقطع ( شجرها ) أي المدينة ( بريدا ) طولا من طرف بيوتها ( في بريد ) أي مع بريد آخر من كل جهة من طرف البيوت أيضا . قال بعض الشيوخ مسافة حرم المدينة يريد من كل ناحية منها من طرف دورها ففي بمعنى مع على حد قول الله عز وجل { ادخلوا في أمم } ، أي : مع أمم فالمدينة بالنسبة للشجر ليست من الحرم وهو محيط بها من كل جهة يريد والمعتبر البيوت التي كانت في زمنه صلى الله عليه وسلم وسورها الآن الداخل هو طرفها في زمنه عليه الصلاة والسلام ، فما بين سوريها من حرم الشجر أيضا . والمراد بالشجر ما ينبت بنفسه ، ويستثنى ما استثنى من شجر حرم مكة ولم يذكره المصنف اتكالا على القياس بالأولى .

ابن حبيب تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة إنما ذلك في الصيد ، وأما في قطع الشجر فبريد في بريد ، وحكاه عن الإمام مالك رضي الله تعالى عنه . وفي المنتقى قال ابن نافع ما بين هذه الحرار من الدور كله محرم أن يصاد فيه صيد ، وحرم قطع الشجر منها يريد من كل شق حولها كلها ا هـ . وفي مختصرها لأبي محمد وحرم النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة وهما حرتان قال مالك رضي الله تعالى عنه لا يصاد [ ص: 358 ] الجراد بها ولا بأس أن يطرد عن النخل . وقيل إن حرمها بريد في بريد من جانبها كلها .

وفي الإكمال قال ابن حبيب تحريم النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة إنما ذلك في الصيد خاصة ، وأما في قطع الشجر فبريد في بريد من دور المدينة كلها أخبرني بذلك مطرف عن مالك رضي الله تعالى عنهما ، وهو قول عمر بن عبد العزيز وابن وهب وقد ذكر مسلم في بعض طرقه { إني أحرم ما بين جبليها } . وفي حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه { وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى } ، وهذا تفسير ما ذكره ابن وهب ورواه مطرف وعمر بن عبد العزيز .




الخدمات العلمية