الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكونه دينا

التالي السابق


( و ) الشرط السادس ( كونه ) أي المسلم فيه ( دينا ) أي شيئا موصوفا متعلقا بذمة المسلم إليه لأنه إن كان معينا عنده لزم بيع معين يتأخر قبضه ، وإن كان عند غيره لزم بيع معين ليس عنده ، ونص التوضيح لأنه إذا لم يكن في ملك البائع فغرره ظاهر ، وإن كان في ملكه فبقاؤه بصفته إلى أجله غير معلوم لأنه يلزمه الضمان بجعل لأن المسلم يزيد في الثمن ليضمنه له المسلم إليه ولأنه إن لم ينقد الثمن اختل شرط السلم وإن نقده دار بين الثمن إن لم يهلك والسلف إن هلك .

فإن قيل من البياعات ما يجوز بيعه على أن يقبضه المشتري بعد شهر فلم لا أجيز هنا [ ص: 371 ] كذلك ، قيل إنما ذلك في البيع ، وكلامنا في السلم .

فإن قيل قد أجاز ابن القاسم كراء الدابة المعينة تقبض بعد شهر ، ويلزمه جواز السلم في معين إلى أجل . قيل الفرق أن الدابة المعينة ضمانها من المبتاع بالعقد أو التمكين ، فإذا اشترط تأخيرها كان ضمانها من البائع ، فيلزم ضمان بجعل ، بخلاف منافع المعين ، فإن ضمانها من ربها فلم يشترط إلا ما وجب عليه .

صر حاصله أن المنع حيث يكون ضمان المبيع أصالة على المشتري ، وينتقل إلى البائع فيلزم الضمان بجعل كما في السلم دون الصورتين الواردتين ، فإن الضمان فيهما في صورة البيع باق من المشتري لم ينتقل إلى البائع ، وفي صورة الكراء الضمان من البائع أي المكري أصالة فلم يشترط إلا ما وجب عليه ، لكن قول الموضح في الجواب الأول هذا إنما هو في البيع إلخ ، يقال عليه أن المنع في السلم إنما هو لكونه يئول إلى بيع معين يتأخر قبضه ، ففي التفريق بينهما نظر . ويجاب بأن مراده والله أعلم أن الضمان في البيع من المشتري فليس فيه ضمان بجعل بخلاف السلم .

وحاصل ما يفيده كلام ضيح وصرح في الفرق بين السلم وبين الصورتين أن محل المنع حيث يكون ضمان المبيع من المشتري أصالة وينقل إلى البائع ، وهذا مفقود في الصورتين لكون الضمان في صورة البيع باقيا من المشتري لم ينتقل ، وفي صورة الكراء الضمان من البائع أي المكري أصالة ، فلم يشترط إلا ما وجب عليه والله أعلم .

( تنبيهات ) : الأول : القرافي العبارة الكاشفة عن الذمة أنها معنى شرعي مقدر في المكلف قابل الالتزام واللزوم ، وجعله الشارع مسببا عن أشياء خاصة ، منها البلوغ والرشد ، فمن بلغ سفيها فلا ذمة له . ومنها عدم الحجر فلا ذمة للمفلس ، فمن اجتمعت فيه هذه الشروط رتب الشارع عليها تقدير معنى يقبل إلزامه أروش الجنايات وأجر الإجارات وأثمان [ ص: 372 ] المعاملات ونحوها من التصرفات ، ويقبل التزامه شيئا اختيارا من قبل نفسه فيلزمه ، وهذا المعنى المقدر هو الذي تقرر فيه الأجناس المسلم فيها مستقرة حتى تصح مقابلتها بالأعواض المقبوضة ، وفيه تقدر أثمان المبيعات وصدقات الأنكحة وسائر الديون ومن لا يكون هذا المعنى مقدرا فيه لا ينعقد في حقه سلم ولا ثمن إلى أجل ولا حوالة ولا شيء من ذلك ، وأطال في هذا ثم قال شرطها البلوغ من غير خلاف أعلمه . ابن الشاط الأولى عندي أنها قبول الإنسان للزوم الحقوق دون التزامها ، فعلى هذا للصبي ذمة لأنه تلزمه أروش الجنايات وقيم المتلفات ، وعلى أنه لا ذمة له نقول هي قبول الإنسان شرعا للزوم الحقوق والتزامها . البناني وللفرق بينه وبين ما للقرافي أن القبول المذكور ناشئ ، ومسبب عن الذمة على ما للقرافي ، وعلى ما لابن الشاط عينها واختاره لسلامته مما يقتضيه تعريف القرافي من كونها من التقادير الشرعية .

الشيخ المسناوي إثبات الذمة للصبي للدليل المذكور صحيح في الجملة لقول ابن عرفة وفيها من أودعته حنطة فخلطها صبي أجنبي بشعير للمودع ضمن الصبي ذلك في ماله ، فإن لم يكن له مال ففي ذمته ثم قال بعد ذكره حكم جناية غير المميز من صبي ومجنون . الصقلي والصبي المميز يضمن المال في ذمته والدماء على حكم الخطأ ونحوه لابن الحاجب وضيح ، وكله صريح في إثبات ذمة الصبي وهو اتفاق في المميز ، وعلى الراجح في غيره قاله ابن عبد السلام والمصنف ، فلا يشترط : فيها التمييز فضلا عن البلوغ ، انظر صرف الهمة إلى تحقيق معنى الذمة للمسناوي .

الثاني : عرفها ابن عبد السلام بأنها أمر تقديري فليس ذاتا ولا صفة لها فيقدر المبيع وما في معناه من الأثمان ، كأنه في وعاء عند من هو مطلوب به فهي الأمر التقديري الذي يحوي ذلك المبيع أو عوضه . ا هـ . واعترضه ابن عرفة بأنه يلزم عليه أن إن قام زيد ونحوه ذمة وسلمه الأبي والرصاع والمشذالي والحط ، ورده السنوسي في حاشية مسلم قائلا فيه نظر لأن القيام المقدر بعد إن الشرطية يصح كونه صفة للذات وليس مراد ابن عبد السلام بقوله ولا صفة لها ما هو صفة في الحال فقط ، بل المعنى لا يصح كونه صفة لها مطلقا ، [ ص: 373 ] وذكره اليزناسي في شرح التحفة . المسناوي قد يقال جوابا عن ابن عبد السلام آخر كلامه يخرج ذلك وهو قوله فالذمة هو الأمر التقديري إلخ لأن حاصل كلامه أولا وآخرا أنها أمر تقديري يفرضه الذهن ليس بذات ولا صفة لها يحوي المبيع أو عوضه ، وبالقيد الأخير يندفع ما أورد عليه وهو مما لا يكاد يخفى على من دون ابن عرفة فضلا عمن هو مثله ، ونظم الشيخ ميارة نحو ما لابن عبد السلام فقال :

والشرح للذمة ظرف قدرا عند المدين فيه ما قد أنظرا



الثالث : عرفها ابن عرفة بأنها ملك متمول كلي حاصل أو مقدر ، قال فيخرج عنه ما أمكن حصوله من نكاح أو ولاية أو وجوب حق في قصاص أو غيره مما ليس متمولا ، إذ لا يسمى ذلك في العرف ذمة واعترضه الرصاع بأنه إن أراد بالملك الشيء المتملك فكيف يقال إن الذمة متملكة ، وإنما المتملك ما فيها وإن أراد استحقاق التصرف في المتملك وهو حقيقة الملك فكذلك لأنها ليست هي الاستحقاق . طفي اعتراضه صحيح وأجاب المسناوي بأن الظاهر أن مراد ابن عرفة بالملك العندية المعنوية والظرفية التقديرية التي عبر عنها ابن عبد السلام بقوله كأنه في وعاء إلخ ، عبر ابن عرفة عنها بالملك مجازا للمشابهة بينهما اعتمادا على القرينة المعنوية ، وهي عدم صلاحية المعنى الحقيقي له هنا . وبحث السنوسي في تقييده بمتمول بإطلاقهم الذمة في العبادات فقالوا ترتبت الصلاة أو الصوم في ذمته فالحق ما قاله ابن عبد السلام . المسناوي قد يجاب بادعاء المجاز العرفي في قولهم المذكور بتشبيه العبادة التي هي حق لله تعالى على المكلف بالمتمول الذي في الذمة بجامع مطلوبيته بكل منهما ، أو بأن المقصود بالتعريف إنما هو ذمة المعاملة لا ما يطلق عليه ذمة في لسان أهل الشرع مطلقا .

الرابع : الرصاع من لازم الذمة أن المقدر فيها كلي لا جزئي أي لأن الجزئي هو المعين والذمة لا تقبله ، ولذا قالابن عرفة كلي .

الخامس " د " قيل هذا الشرط يغني عنه قوله وأن تبين صفاته ولا تبيين في الحاضر [ ص: 374 ] المعين فتعين أن التبيين إنما هو لما في الذمة فينبغي الاستغناء عنه بما قبله ، وجوابه أن التبيين قد يكون في معين غائب موجود عند المسلم إليه فلذا احتيج لهذا الشرط .




الخدمات العلمية