الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 264 ] فحكم بقول مقلده

التالي السابق


( وحكم ) القاضي المقلد ( بقول مقلده ) بضم الميم وفتح القاف واللام مشددة . ابن الحاجب يلزمه المصير إلى قول مقلده . وقيل لا يلزمه . ابن عبد السلام هل يلزم المقلد الاقتصار على قول إمامه أم لا الأصل عدم اللزوم لأن المتقدمين لم يكونوا يحجرون على العوام اتباع عالم واحد ولا يأمرون من سأل واحدا منهم عن مسألة أن لا يسأل غيره ، لكن الأولى في حق القاضي لزوم طريقة واحدة وأنه إن قلد إماما لا يعدل عنه لغيره لأن ذلك يؤدي لتهمته بالميل ، ولما جاء من النهي عن الحكم في قضية بحكمين مختلفين .

ابن فرحون يلزم القاضي المقلد إذا وجد المشهور أن لا يخرج عنه ، وقد بلغ المازري درجة الاجتهاد ولم يفت قط بغير المشهور ، وعاش ثلاثا وثمانين سنة وكفى به قدوة ، فإن لم يقف على المشهور من القولين أو الروايتين فليس له التشهي والحكم بما شاء منهما من غير نظر وترجيح ، فقد قال ابن الصلاح في آداب المفتي والمستفتى من يكتفى بكون فتواه أو علمه موافقا لقول أو وجه في المسألة . ويعمل بما شاء من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح ، فقد جهل وخرق الإجماع ، فإذا وجد من ليس أهلا للتخريج والترجيح اختلافا بين أئمة المذهب في الأصح من القولين أو الوجهين فينبغي أن يفزع في الترجيح إلى صفاتهم الموجبة لزيادة الثقة بآرائهم ، فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم ، فإن اختص كل واحد بصفة قدم من هو أحرى بالإصابة فالأعلم الورع يقدم على الأورع والعالم ، وإذا وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد من أهل المذهب بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما أو قائليهما .

ابن فرحون وهذا الحكم جار في أصحاب المذاهب الأربعة ومقلديهم ، ثم قال وأنواع [ ص: 265 ] الترجيح معتبرة بالنسبة إلى أئمة المذهب ، قال ابن زيد إن كتابه النوادر اشتمل على كثير من اختلاف المالكيين ، قال ولا ينبغي الاختيار من الخلاف للمتعلم ولا للمقصر ومن لم يكن فيه محل لاختيار القول فله اختيار المعتنين من أصحابنا بذلك مثل سحنون وأصبغ وعيسى بن دينار ، ومن بعدهم مثل ابن المواز وابن عبدوس وابن سحنون وابن المواز أكثرهم تكلفا للاختيارات وابن حبيب لم يبلغ في اختياراته وقوة رواياته مبلغ من ذكرنا ، ثم نقل ابن فرحون عن كتاب الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ما نصه الحاكم إن كان مجتهدا فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده ، وإن كان مقلدا جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحا عنده مقلدا في رجحان القول المحكوم به إمامه .

وأما اتباع الهوى في القضاء والفتيا فحرام إجماعا . نعم اختلف إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح فهل يتساقطان أو يختار أحدهما ؟ يفتي به قولان ، فعلى أنه يختار للفتيا فله أن يختار أحدهما يحكم به مع أنه ليس براجح عنده ، وهذا مقتضى الفقه والقواعد وليس اتباعا للهوى . وأما الفتيا والحكم بما هو مرجوح فخلاف الإجماع ، وقال للحاكم أن يحكم بأحد القولين المتساويين من غير ترجيح ولا معرفة بأدلتهما إجماعا ، فتأمل هذا مع قوله بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح . ا هـ . كلام ابن فرحون . الحط فتحصل منه إذا تساوى القولان من كل وجه وعجز عن الاطلاع على أوجه الترجيح فله أن يحكم أو يفتي بأحد القولين .

ابن فرحون لا يجوز التساهل في الفتوى ومن عرف به لا يجوز استفتاؤه ، والتساهل يكون بأن لا يثبت ويسرع بالفتوى أو الحكم قبل استيفاء حقه من النظر والفكر ، وقد يحمله على ذلك توهمه أن الإسراع براعة والإبطاء عجز ، ولا يبطئ ولا يخطئ أجمل به أن يعجل فيضل ويضل ، وقد يكون تساهله بأن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحيل المحذورة أو المكروهة بالتمسك بالشبهة طلبا للترخيص على من يروم نفعه أو [ ص: 266 ] التغليظ على من يروم ضرره . ابن الصلاح ومن فعل ذلك فقد هان عليه دينه ، وأما إذا صح قصد المفتي واحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها ولا تجر إلى مفسدة ليخلص بها المستفتي من ورطة يمين أو نحوها فذلك حسن جميل . القرافي إذا كان في المسألة قولان أحدهما تشديد والآخر تخفيف فلا ينبغي للمفتي أن يفتي العامة بالتشديد والخواص وولاة الأمور بالتخفيف فذلك قريب من الفسوق والخيانة في الدين والتلاعب بالمسلمين ، ودليل على فراغ القلب من تعظيم الله تعالى وإجلاله وتقواه وعمارته باللعب وحب الرياسة والتقرب إلى الخلق دون الخالق نعوذ بالله تعالى من صفات الغافلين . والحاكم كالمفتي في هذا .

( فرع )

إذا لم يوجد في النازلة نص فقال ابن العربي إن قاس على قول مقلده ، أو قال يجيء من كذا فهو متعد . خليل وفيه نظر والأقرب جوازه على مدارك إمامه . ابن عرفة إثر كلام ابن العربي . قلت يرد كلامه بأنه يؤدي إلى تعطيل الأحكام لأن الفرض عدم المجتهد لامتناع تولية المقلد مع وجوده ، فإذا كان حكم النازلة غير منصوص عليه ولم يجز للمقلد المولى القياس على قول مقلده في نازلة أخرى تعطلت الأحكام ، وبأنه خلاف عمل متقدمي أهل المذهب كابن القاسم في المدونة في قياسه على أقوال مالك رضي الله عنه ومتأخريهم كاللخمي وابن رشد والتونسي والباجي وغير واحد من أهل المذهب ، ومن تأمل كلام ابن رشد وجده بعد اختياراته وتخريجاته في تحصيله أقوالا ، وقد عد ابن عرفة فتوى ابن عبد الرءوف وابن السباق وابن دحون ونحوهم أقوالا ، ونقل لابن الطلاع قولا في المذهب وجعله مقابلا لقول ابن القصار .

الحط وكأن خليلا وابن عرفة لم يقفا على كلام القرافي في الذخيرة وبحثه مع ابن العربي ، ونصه بعد ذكر كلام ابن العربي قوله فإن قاس على قوله فهو متعد ، قال العلماء المقلد قسمان محيط بأصول مذهب مقلده وقواعده بحيث تكون نسبته إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلق إلى أصول الشريعة وقواعدها ، فهذا يجوز له التخريج والقياس بشرائطه ، [ ص: 267 ] كما جاز للمجتهد المطلق وغير محيط فلا يجوز له التخريج لأنه كالعامي بالنسبة إلى حملة الشريعة ، فينبغي أن يحمل قوله على القسم الثاني فيتجه وإلا فهو مشكل ا هـ .




الخدمات العلمية