الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( ويحرم بها ) أي بالجنابة ( ما حرم بالحدث ) الأصغر لأنها أغلظ منه ( والمكث بالمسجد ) لقوله تعالى { ولا جنبا إلا عابري سبيل } وقوله صلى الله عليه وسلم { إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب } ومثله رحبته وهواؤه وجناح بجداره وإن كان كله في هواء الشارع كما يقتضيه كلام المجموع ، وشمل ذلك ما لو كان المسجد شائعا في أرض بعضها مملوك وإن قل غير الملك فيما يظهر ، ويفارق التفصيل السابق في التفسير مع أن حرمة القرآن آكد من حرمة المسجد ، بأن المسجدية لما انبهمت في كل جزء من أجزاء تلك الأرض التي وقع فيها المكث كان يصدق عليه أنه ماكث في مسجد شائع بخلاف القرآن مع التفسير فإنه غير منبهم فيه بل متميز عنه ، فلم يصدق عليه أنه مس مصحفا شائعا ، وأيضا فاختلاط المسجدية بالملك لا يخرجه عن كونه يسمى مسجدا ، ولا كذلك المصحف إذا اختلط بالتفسير فإنه يخرجه عن كونه يسمى مصحفا إن زاد عليه التفسير كما مر ، ومحل حرمة ما تقدم [ ص: 218 ] إن لم يكن له عذر ، فإن كان كإغلاق بابه أو خوف لو خرج ولو على مال وتعذر غسله هناك تيمم حتما لا بتراب المسجد وهو الداخل في وقفه فيحرم به كتراب مملوك لغيره ويصح ، ومحله أيضا في حق المسلم ; أما الكافر فله دخوله إن أذن له فيه مسلم أو وجد ما يقوم مقام إذنه فيه ودعت حاجة إلى دخوله سواء أكان جنبا أم لا ، [ ص: 219 ] لأنه لا يعتقد حرمته ، أما الكافرة إذا كانت حائضا وأمنت التلويث فهل تمنع كالمسلمة كما في الروضة كأصلها في شروط الصلاة أو لا كما صرحا به في باب اللعان ؟ اختلف المتأخرون في الترجيح ، والأقرب حمل المنع على عدم حاجتها الشرعية وعدمه على وجود حاجتها الشرعية ، ومحلها أيضا في البالغ .

                                                                                                                            أما الصبي الجنب فيجوز له المكث فيه كالقراءة كما ذكره المصنف في فتاويه .

                                                                                                                            قال ابن العماد في تسهيل المقاصد : ومن التردد فيه أن يدخل ليأخذ حاجة من المسجد ويخرج من الباب الذي دخل منه دون وقوف ، بخلاف ما لو دخله يريد الخروج من الباب الآخر ثم عن له الرجوع فله أن يرجع ( لا عبوره ) لكونه أخف ولا يكلف الإسراع بل يمشي على عادته .

                                                                                                                            نعم هو للحائض والنفساء عند أمنهما تلويثه مكروه وإلا فحرام كما سيأتي .

                                                                                                                            وللجنب خلاف الأولى إلا لعذر ، ولو عبر بنية الإقامة لم يحرم المرور فيما يظهر خلافا لابن العماد ، إذ الحرمة إنما هي لقصد المعصية لا للمرور ، ولو ركب دابة ومر فيه لم يكن مكثا لأن سيرها [ ص: 220 ] منسوب إليه ، بخلاف نحو سرير يحمله إنسان ، ولو دخل على عزم أنه متى وصل للباب الآخر رجع قبل مجاوزته لم يجز لأنه يشبه التردد ، والسابح في نهر فيه كالمار ، ومن دخله فنزل بئره ولم يمكث حتى اغتسل لم يحرم فيما يظهر ، ويحتمل منعه لأنه حصول لا مرور ، وعلى الأول يحمل كلام البغوي أنه لو كان به بئر ودلى نفسه فيها بحبل حرم على ما إذا ترتب عليه مكث كما يظهر من كلامه نفسه ، ولو لم يجد ماء إلا فيه جاز له المكث بقدر حاجته وتيمم لذلك كما لا يخفى ، ولو جامع زوجته فيه وهما ماران فالأوجه الحرمة ، كما يؤخذ من كلام ابن عبد السلام أنه لو مكث جنب فيه هو وزوجته لعذر لم يجز له مجامعتها ، ومن كلامهم في باب الاعتكاف في توجيه كون المسجد شرطا لصحته حيث قالوا : لا جائز أن يكون ذكر بالمساجد شرطا لمنع مباشرة المعتكف في المسجد ، لأن منعها فيه لا يختص به فغير المعتكف كذلك ، وخرج بالمسجد المدرسة والرباط ومصلى العيد ونحوها ; وهل شرط الحرمة تحقق المسجدية أو يكتفى بالقرينة ؟ فيه احتمال ، والأقرب إلى كلامهم الأول ، وعليه فالاستفاضة كافية ما لم يعلم أصله كالمساجد المحدثة بمنى .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : والمكث ) زاد حج : وهل ضابطه هنا كما في الاعتكاف أو يكتفى هنا بأدنى طمأنينة لأنه أغلظ ؟ كل محتمل والثاني أقرب ا هـ .

                                                                                                                            ويوجه بأنهم إنما اعتبروا في الاعتكاف الزيادة لأن ما دونها لا يسمى اعتكافا ، والمدار هنا على عدم تعظيم المسجد بالمكث فيه مع الجنابة وهو حاصل بأدنى مكث ، ثم قال أيضا : ومن خصائصه حل المكث له به جنبا ، وليس على مثله في ذلك وخبره وهو كما في شرح العباب عن المجموع : { يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك } ، ضعيف وإن قال الترمذي : حسن غريب ا هـ .

                                                                                                                            وقضية اقتصاره في الخصوصية على المكث أنه صلى الله عليه وسلم كغيره في القراءة ( قوله : ومثله رحبته ) وهي ما وقف للصلاة حال كونها جزءا من المسجد ( قوله : شائعا ) أي فهو كالمسجد في حرمة المكث فيه على الجنب ونحوه ، وتجب قسمته فورا ، ويستحب لداخله التحية ، ولا [ ص: 218 ] يصح الاعتكاف فيه على المعتمد كما في حاشية الزيادي .

                                                                                                                            قال سم : والفرق أن الغرض من التحية أن لا تنتهك حرمة المسجد بترك الصلاة فيه فاستحبت في الشائع لأن بعضه مسجد ، بل ما من جزء إلا وفيه جهة مسجدية ، وترك الصلاة يخل بتعظيمه ، والاعتكاف إنما يكون في مسجد والشائع بعضه ليس بمسجد ، فالماكث فيه بمنزلة من خرج بعضه عن المسجد واعتمد عليه .

                                                                                                                            [ فائدة ] قال المناوي في كتابه المسمى بتيسير الوقوف على غوامض أحكام الوقوف : ثم موضع القول بصحة الوقف : أي وقف الجزء المشاع مسجدا من أصله حيث أمكنت قسمة الأرض أجزاء ، وإلا فلا يصح كما بحثه الأذرعي وغيره ، وكأنهم لم يروا فيه نقلا وهو عجيب ، فقد صرح ابن الصباغ في فتاويه التي جمعها ابن أخيه فقال : ومن الغرائب إذا كان له حصة في أرض مشاعة وهي لا تنقسم فجعلها مسجدا لم يصح ا هـ ( قوله : إن لم يكن له عذر ) ينبغي أن يكون من الضرورة والعذر ما إذا كان خارج المسجد ولم يمكنه الغسل إلا في الحمام لخوف برد الماء أو نحوه ولم يتيسر له أخذ أجرة الحمام إلا من المسجد ولم يجد من يناولها له من المسجد ممن يثق به ، وهذا قياس قولهم إذا كان الماء في المسجد دخل لأخذه بشرط أن يتيمم ويمكث قدر الاستقاء فقط ، ومنه يؤخذ أنه يتيمم في مسألتنا إذا أمكنه ، ثم رأيت م ر قال : من احتاج للدخول للمسجد وهو جنب لأخذ أجرة الحمام مثلا جاز الدخول إن تيمم ومكث قدر حاجته ، ولا يجوز بلا تيمم .

                                                                                                                            وقوله : تيمم حتما إلخ : أي فلو وجد ما يكفي بعض أعضائه أو وجد ما يكفي جميعها لكن منعه نحو البرد من استعماله في جميعها ولم يمنعه في بعضها ، فهل يجب في الصورتين استعمال المقدور تقليلا للحدث كمن أراد الصلاة ووجد ماء لا يكفيه أو ماء لا يمكنه إلا استعمال بعضه ؟ فيه نظر ، ولا يبعد الوجوب فتأمل سم على منهج .

                                                                                                                            [ فائدة ] عن الإمام أحمد رضي الله عنه : أن للجنب أن يمكث بالمسجد لكن بشرط أن يتوضأ ولو كان الغسل يمكنه من غير مشقة ا هـ ( قوله : ولو على مال ) أي وإن قل كدرهم ( قوله : لا بتراب المسجد إلخ ) هل المشتري له من غلته كأجزائه ، أو كالذي فرشه به أحد من غير وقف ؟ فيه نظر ، والأول أقرب ، ولو شك في كونه من أجزائه ففيه تردد ، ولعل التحريم أقرب لأن الظاهر احترامه وكونه من أجزائه حتى يعلم مسوغ لأخذه حاشية إيضاح لحج . هذا وما ذكره في التردد في المشترى من غلته إنما يأتي إذا قلنا إن الداخل في وقفيته لا يجزئ في التيمم ، وحمل التردد على أنه هل يجزئ أو لا بخلاف الخارج عنها ، أما على ما ذكره الشارح من أن الداخل في وقفيته يحرم ويصح التيمم به بخلاف الخارج عنه ، كالذي تهب به الرياح فلا يظهر التردد لأن المشتري على الوجه المذكور يحرم استعماله مطلقا ويصح ( قوله : مسلم ) رجل أو امرأة حيث كان بالغا ، وخرج بالمسجد قبور الأنبياء فلا يجوز الإذن له في دخولها مطلقا تعظيما لها ا هـ فتاوى الشارح ( قوله : ودعت حاجة ) أي تتعلق بمصلحتنا كبناء المسجد ولو تيسر غيره ، أو تتعلق به لكن حصولها من جهتنا كاستفتائه أو دعواه عند قاض ، أما غير ذلك فلا يجوز الإذن له فيه لأجله كدخوله لأكل في المسجد أو تفريغ نفسه في سقايته التي يدخل إليها منه ، أما التي لا يدخل إليها منه فلا يمنعون من دخولها [ ص: 219 ] بلا إذن مسلم .

                                                                                                                            نعم لو غلب على الظن تنجيسهم ماءها أو جدرانها منعوا ولا يجوز الإذن لهم في الدخول ( قوله : لأنه لا يعتقد حرمته ) قال شيخنا زيادي بعد نقله مثل ما ذكر عن حج : وهذا بالنسبة للتمكين ، أما هو فيحرم عليه .

                                                                                                                            الجلوس مع الجنابة لأنه مخاطب بالفروع خطاب عقاب .

                                                                                                                            أقول : قد يشكل على هذا ربطه صلى الله عليه وسلم الأسير من الكفار بالمسجد فإنه حيث كان حراما ولو باعتبار الآخرة فقط لا يفعله معهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يقال : فعل ذلك إشارة إلى أنه يقر الكفار على ما لا يعتقدون حرمته وإن كانوا يعاقبون عليه في الآخرة ، لكن يشكل على هذا الجواب تصريحهم بحرمة إطعامنا إياهم في رمضان مع أنهم لا يعتقدون حرمته ( قوله : وعدمه ) أي المنع وهو الجواز ( قوله : حاجتها ) يعني أنا لا نمنعها الدخول عند حاجتها .

                                                                                                                            ومع ذلك يحرم عليها الدخول كما يصرح به قول العباب : والذمية مع الحيض لا الجنابة كالمسلمة ، وبه يعلم أنه لا منافاة بين عدم المنع والحرمة ، وذلك يقتضي أنه لا يحرم المكث على الجنب الكافر ، ويشكل عليه أنهم مخاطبون بفروع التشريع ( قوله : في البالغ ) أي من المسلمين ( قوله : فيجوز له ) .

                                                                                                                            [ فرع ] نقل م ر عن البكري في حاشيته نقلا عن فتاوى النووي أنه يستثنى من قولهم يحرم المكث والقراءة على الجنب المميز فلا يمنع من ذلك وهو مشكل ، ولو كان مفروضا فيما إذا احتاج المميز للقراءة أو المكث للتعليم لكان قريبا ، وقد توقف فيه م ر وقال : راجعت فتاوى النووي فلم أجد فيها ذلك فليحرر ا هـ سم على منهج وفي حواشيه على حج الجواب بأن له فتاوى أخرى غير مشهورة فلا أثر لكونه ليس في المشهورة ( قوله : نعم هو ) أي العبور ، وخرج به التردد فيحرم عليهما ( قوله : إلا لعذر ) أي كأن تعين المسجد طريقا وتعذر غسله فلا يكره للحائض ولا يكون خلاف الأولى للجنب ، وعبارة حج هو أعني المرور به لغير غرض خلاف الأولى ا هـ .

                                                                                                                            ومفهومه أنه لا تكون خلاف الأولى إذا كان لغرض ما وإن لم يكن ضرورة ، ويصرح به قول الروض ، وشرحه لا إن كان العبور لغرض كقرب طريق فليس بمكروه ولا خلاف الأولى ( قوله : إذ الحرمة إلخ ) وعليه فما ذكره ابن العماد فيما مر من أن [ ص: 220 ] من التردد ما لو دخل ليأخذ حاجة إلخ ضعيف .

                                                                                                                            هذا ، وقد يقال إن كلام العماد هو الظاهر لأن قصد الإقامة صير مروره كالتردد وهو حرام لأنه بمنزلة المكث فكذا هذا ( قوله : منسوب إليه ) قالوا في نظيره من القبلة إنما يكون منسوبا إليه لتبطل صلاته بمشيها ثلاث خطوات إذا كان زمامها بيده ، فإن كان بيد غيره أو مرسلا لم تبطل لأن سيرها منسوب إلى غيره .

                                                                                                                            وقياسه أن يقال هنا كذلك ، فيقال إن كان زمامها بيده لم يحرم المرور لأنه سائر ، وإن كان بيد غيره حرم لاستقراره في نفسه ونسبة السير إلى غيره ( قوله : إنسان ) أي عاقل ( قوله : كالمار ) أما لو كان في سفينة فينبغي أن يأتي فيه ما في الدابة ، فإن كان هو المسير لها لم يحرم لأن سيرها منسوب إليه فكأنه مار ، وإلا حرم لاستقراره كمن جلس على سرير يحمله رجال ( قوله : إلا فيه ) أي المسجد ( قوله : لم يجز له مجامعتها ) أي لأن فيه انتهاكا لحرمة المسجد وإلا فجماعه فيه لا يزيد على كونه جنبا مارا ( قوله : والأقرب إلى كلامهم الأول ) وفي كلام حج ما يرجح الثاني ، واستشهد له بكلام السبكي فليراجع ، والأقرب ما قاله حج .



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            [ ص: 217 ] قوله : أي بالجنابة ) وأما بالحيض فسيأتي في بابه وكذا النفاس ، وأما الموت فلا يتأتى فيه ما ذكر ( قوله : وجناح بجداره ) فيه أنه إن كان داخلا في وقفيته ، فهو مسجد حتى إن المسجد اسم لهذه الأبنية المخصوصة مع الأرض ، وإن لم يكن داخلا في وقفيته فظاهر أنه ليس له حكم المسجد ( قوله : إن زاد عليه التفسير ) لا دخل لهذا في التسمية وعدمها وإنما هو حكم شرعي قيدت به الحرمة [ ص: 218 ] قوله : فله دخوله ) بمعنى أنا لا نمنعه وإلا ، فهو حرام عليه بناء على أنه مخاطب بفروع الشريعة [ ص: 219 ] قوله : أما الكافرة إذا كانت حائضة إلخ ) قضيته أنها تمنع من قراءة القرآن مطلقا ، وبه صرح الشهاب ابن حجر لكن سيأتي في الشرح خلافه في الكافر الجنب معللا بما يفيد عدم الحرمة هنا ( قوله : أن يدخل إلخ ) أي وفعل ذلك [ ص: 220 ] حتى يسمى ترددا .

                                                                                                                            وأما حرمة القصد فأمر آخر بقرينة ما يأتي ( قوله : على عزم أنه متى وصل للآخر رجع ) أي وفعل ذلك بقرينة ما مر قبله ( قوله : المحدثة ) خرج به مسجد الخيف كنمرة




                                                                                                                            الخدمات العلمية