الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( و ) يسن ( زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لخبر مسلم { من زار قبري وجبت له شفاعتي } ومفهومه أنها جائزة لغير زائره وخبر { من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقا على الله أن أكون له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة } وخبر { من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني وكفي أمر دنياه وآخرته وكنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة } فزيارة قبره صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وإن لم يكن فعل نسكا لكنها متأكدة فيما أشار له بقوله ( بعد فراغ الحج ) إذ الغالب على الحجيج ورودهم من آفاق بعيدة ، فإذا قربوا من المدينة الشريفة يقبح تركهم الزيارة ، ولخبر { من حج ولم يزرني فقد جفاني } فهذا يدل على تأكدها للحاج أكثر من غيره ، وحكم المعتمر كالحاج في تأكدها له وتسن زيارة بيت المقدس وزيارة الخليل صلى الله عليه وسلم ولا تعلق لذلك بالحج . ويسن لمن قصد المدينة الشريفة لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم ويزيد فيها إذا أبصر أشجارها مثلا ويسأل الله أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبلها منه ، وأن يغتسل قبل دخوله كما مر ويلبس أنظف ثيابه ، فإذا دخل المسجد قصد الروضة وهي ما بين القبر والمنبر وصلى تحية المسجد [ ص: 320 ] بجنب المنبر وشكر الله تعالى بعد فراغهما على هذه النعمة ، ثم يأتي القبر الشريف فيستقبل رأسه ويستدبر القبلة ويبعد عنه نحو أربعة أذرع ويقف ناظرا إلى أسفل ما يستقبله في مقام الهيبة والإجلال فارغ القلب من علائق الدنيا ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم لخبر { ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام } وأقل السلام عليه : السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يرفع صوته تأدبا معه صلى الله عليه وسلم كما كان في حياته ، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رحمه الله تعالى فإن رأسه عند منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يتأخر قدر ذراع آخر فيسلم على عمر رحمه الله تعالى لما رواه البيهقي عن ابن عمر : أنه كان إذا قدم من سفره دخل المسجد ثم أتى القبر الشريف فقال : السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ، ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجهه صلى الله عليه وسلم ويتوسل به في حق نفسه وليستشفع به إلى ربه ، ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء من المسلمين ، وأن يأتي سائر المشاهد بالمدينة ، وهي نحو ثلاثين موضعا يعرفها أهل المدينة . ويسن زيارة البقيع وقباء ، وأن يأتي بئر أريس فيشرب منها ويتوضأ وكذلك بقية الآبار السبعة وقد نظمها بعضهم ، فقال :

                                                                                                                            أريس وغرس رومة وبضاعة كذا بصة قل بئر جامع العهن

                                                                                                                            وينبغي المحافظة على الصلاة في مسجده الذي كان في زمنه فالصلاة فيه بألف صلاة ، وليحذر من الطواف بقبره صلى الله عليه وسلم ومن الصلاة داخل الحجرة بقصد تعظيمه ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر كراهة شديدة ومسحه باليد وتقبيله ، بل الأدب أن يبعد عنه كما لو كان بحضرته صلى الله عليه وسلم في حياته ويسن أن يصوم بالمدينة ما أمكنه ، وأن يتصدق على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم المقيمين والغرباء بما أمكنه ، وإذا أراد السفر استحب أن يودع المسجد بركعتين ، ويأتي القبر الشريف ويعيد السلام الأول ويقول : اللهم لا تجعله آخر العهد من حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويسر لي العود إلى الحرمين سبيلا سهلا وارزقني العفو [ ص: 321 ]

                                                                                                                            والعافية في الدنيا والآخرة ، وردنا إلى أهلنا سالمين غانمين وينصرف تلقاء وجهه ولا يمشي القهقرى ، ولا يجوز لأحد استصحاب شيء من الأكر المعمولة من تراب الحرمين ولا من الأباريق والكيزان المعمولة من ذلك ومن البدع تقرب العوام بأكل التمر الصيحاني في الروضة .

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : لم تنزعه حاجة ) أي تهمة ( قوله وكل الله به ملكا يبلغني إلخ ) قضية هذا أنه لا يسمعه بلا واسطة الملك ، وقد قدمناه في باب صلاة الجمعة أنه يسمع الصلاة عليه عند القبر بلا واسطة سواء في ذلك ليلة الجمعة أو غيرها ، فيمكن حمل ما هنا على أنه يبلغ مع السماع .

                                                                                                                            ثم رأيت في حج في كتابه المسمى بالجوهر المنظم في زيارة القبر المعظم ما نصه : تنبيه : يجمع بين هذه الأحاديث الظاهرة التعارض ببادئ الرأي وأحاديث أخر وردت بمعناها أو قريبا منه بأنه صلى الله عليه وسلم يبلغ الصلاة والسلام إذا صدرا من بعد ويسمعهما إذا كان عند قبره الشريف بلا واسطة وإن ورد أنه يبلغهما هنا أيضا كما مر ، إذ لا مانع أن من عند قبره يخص بأن الملك يبلغ صلاته وسلامه مع سماعه لهما إشعارا بمزيد خصوصيته والاعتناء بشأنه والاستمداد له بذلك سواء في ذلك كله ليلة الجمعة وغيرها ، إذ المقيد يقضى به على المطلق ، والجمع بين الأدلة التي ظاهرها التعارض واجب حيث أمكن ، وأفتى النووي فيمن حلف بالطلاق الثلاث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع الصلاة عليه هل يحنث ؟ بأنه لا يحكم عليه بالحنث للشك في ذلك والورع أنه يلتزم الحنث ا هـ [ ص: 320 ] وهو صريح فيما ذكرناه ( قوله : وشكر الله ) أي بالثناء عليه .

                                                                                                                            ( قوله : ويسلم عليه صلى الله عليه وسلم ) لو قال له إنسان : سلم لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يجب عليه أن يسلم عليه كما يجب أن يسلم على من قال له سلم على فلان أو يفرق ؟ والفرق أقرب ، ويوجه بأن المراد بالسلام بين الناس التودد والمحبة ، والمراد بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم الشفاعة ، ولا يجب على المأموم أن يشفع له عنده ا هـ كذا بهامش عن حج في بعض كتبه .

                                                                                                                            وعبارته في كتابه المسمى بالدر المنظم في زيارة القبر المعظم نصها : وأما إرسال السلام إليه صلى الله عليه وسلم فالقصد منه الاستمداد منه وعود البركة على المسلم ، فتركه ليس فيه إلا عدم اكتساب فضيلة للغير فلم يكن لتحريمه سبب يقتضيه فاتجه أن ذلك التبليغ سنة لا واجب .

                                                                                                                            فإن قلت : صرحوا بأن تفويت الفضائل على الغير حرام كإزالة دم الشهيد قلت : هذا اشتباه ، إذ فرق واضح بين عدم اكتساب الفضيلة للغير وتفويت الفضيلة الحاصلة على الغير فمن ثم حرم هذا التفويت ولم يحرم بترك ذلك الاكتساب فافهمه ا هـ .

                                                                                                                            وفيما علل به وقفة ; لأن المأمور ليس شافعا بل مأمور بالتبليغ لمن يشفع ، فحيث التزم ذلك ولم يؤده فالقياس وجوب التبليغ ; لأنه أمانة التزم إيصالها له صلى الله عليه وسلم ( قوله : إلا رد الله علي روحي ) أي نطقي فلا يرد أن الأنبياء أحياء في قبورهم ( قوله وتقبيله ) ظاهره وإن قصد به التعظيم ، لكن مر في الجنائز بعد نقل كراهة تقبيل التابوت ما نصه : نعم إن قصد بتقبيل أضرحتهم التبرك لم يكره كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ، فيحتمل مجيء ذلك هنا ، ويحتمل الفرق بأنهم حافظوا على التباعد عن التشبه بالنصارى هنا حيث بالغوا في تعظيم عيسى حتى ادعوا فيه ما ادعوا ، ومن ثم حذروا كل التحذير من الصلاة داخل الحجرة بقصد التعظيم .




                                                                                                                            الخدمات العلمية