الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                            ( ويكره ) تنزيها ( المشمس ) أي ما سخنته الشمس كما قاله الشارح ردا على ما قال : إن حقه أن يعبر بمتشمس ، وسواء أكان قليلا أم كثيرا ولو مائعا دهنا كان أو غيره لاطراد العلة في الجميع ، بل الدهن أولى لشدة سريانه في البدن سواء المشمس بنفسه أم لا ، لكن بشرط أن يستعمله في البدن في طهارة أو غيرها كأكل وشرب ، سواء أكان استعماله لحي أم ميت ، وإن أمن منه على غاسله أو من إرخاء بدنه أو من إسراع فساده ، إذ في استعمال ذلك فيه إهانة له وهو محترم كما في الحياة ، ولا فرق في ذلك بين الأبرص وغيره ، ومن عمه البرص وغيره لخوف زيادته أو شدة تمكنه لما روي { أن عائشة رضي الله عنها سخنت ماء في الشمس للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص } .

                                                                                                                            وهذا وإن كان ضعيفا لكنه يتأيد بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره الاغتسال به وقال : إنه يورث البرص كما رواه الشافعي ، ودعوى من قال : إنه لم يثبت فيه عن الأطباء شيء وترد بأنها شهادة نفي لا يحسن بها رد [ ص: 70 ] قول الشافعي ، ويكفي في إثباته خبر من الذي هو أعرف بالطب من غيره . وضابط المشمس أن تؤثر فيه السخونة بحيث تفصل من الإناء أجزاء سمية تؤثر في البدن ، لا مجرد انتقاله من حالة لأخرى بسببها ، وإن نقل في البحر عن الأصحاب الاكتفاء بذلك ، وشمل ذلك ما لو كان الماء مغطى حيث أثرت الشمس فيه التأثير المار وإن كان المكشوف أشد كراهة لشدة تأثيرها فيه ، ويشترط أن يكون في منطبع كحديد ونحاس ليخرج به غيره كالخزف والخشب والجلود والحياض ، إلا أن يكون المنطبع من ذهب أو فضة لصفاء جوهرهما فلا ينفصل منهما شيء ولا فرق فيهما ، وفي المنطبع من غيرهما بين أن يصدأ أو لا ، وأما المموه بأحدهما فالأوجه فيه أن يقال : إن كثر التمويه به بحيث يمنع انفصال شيء من أصل الإناء لم يكره ، وإلا كره حيث انفصل منه شيء يؤثر ، ويجري ذلك في الإناء المغشوش ، وأن يكون بقطر حار ليخرج البارد كالشام والمعتدل كمصر ; لأن تأثير الشمس فيهما ضعيف فلا يتوقع المحذور ، وأن يكون وقتها ليخرج بذلك غيره وأن يبقى على حرارته ، فلو برد زالت الكراهة ، وهي شرعية لا إرشادية .

                                                                                                                            وفائدة ذلك الثواب ولهذا قال السبكي : التحقيق أن فاعل الإرشاد لمجرد غرضه لا يثاب ، ولمجرد الامتثال يثاب ولهما يثاب ثوابا أنقص من ثواب من محض قصد الامتثال ، ولا يكره استعماله في أرض أو آنية أو ثوب أو طعام جامد كخبز عجن به ; لأن الأجزاء السمية تستهلك في الجامد فلا يخشى منها ضرر بخلافها في المائع ، وإن طبخ بالنار فإنه يكره ، ويؤخذ من ذلك أن الماء المشمس إذا سخن بالنار لا تزول الكراهة ، وهو [ ص: 71 ] كذلك كما اعتمده الوالد رحمه الله تعالى ، إذ لا يخفى أن نار الطبخ أشد من نار التسخين ، فإذا لم تزل نار الطبخ الكراهة فلأن لا تزيلها نار التسخين بطريق الأولى ، ويحمل قولهم إنه لا يكره المسخن بالنار على الابتداء . وعلم من ذلك عدم كراهة ما سخن بالنار ولو بنجاسة مغلظة ، وإن قال بعضهم فيه وقفة لعدم ثبوت نهي عنه ولذهاب الزهومة لقوة تأثيرها .

                                                                                                                            لا يقال إن اختلاط ذلك في الطعام المائع تفرقت به أجزاء السمية بأجزائه فلا تقدر النار حينئذ على دفعها بخلاف مجرد الماء ; لأنا نمنع ذلك ، إذ شدة غليانه تقتضي إخراجها ولم يراع ذلك فيه ، ولا يكره إن عدم غيره فيجب شراؤه حينئذ إن ضاق الوقت وهو محتاج للطهارة ، ولا يجوز له التيمم مع وجوده لقدرته على طاهر بيقين ، وترتب الضرر على استعماله غير متحقق ولا مظنون إلا في جنسه على ندور ، بخلاف السم فإن ضرره محقق ، نعم لو غلب على ظنه أن هذا المشمس يضره بقول طبيب عدل الرواية أو بمعرفة نفسه ، فقياس ما ذكروه في التيمم لخوف مرض أو برد أنه يحرم استعماله ، ويجوز له التيمم .

                                                                                                                            والأفضل ترك التطهر بالماء المشمس إن تيقن غيره آخر الوقت ، ولو استعمله في حيوان غير آدمي فإن لحق الآدمي منه ضرر أو كان مما يدركه البرص كره وإلا فلا ، ويكره شديد الحرارة والبرودة لمنعهما الإسباغ ، وكل ماء غضب على أهله ، والأوجه كراهة ترابها أيضا ، وحينئذ فالمياه المكروهة ثمانية : المشمس ، وشديد الحرارة ، وشديد البرودة ، وماء ديار ثمود إلا بئر الناقة ، وماء ديار قوم لوط ، وماء بئر برهوت ، [ ص: 72 ] وماء أرض بابل ، وماء بئر ذروان

                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                            حاشية الشبراملسي

                                                                                                                            ( قوله : وسواء أكان قليلا ) أن المشمس ( قوله كما في الحياة ) أي وهو في حق الحي مكروه فكذا في الميت ، ولو قيل يحرم في الميت إن عد إزراء به لم يبعد ، ويفرق بينه وبين الحي بأن الحي هو المدخل للضرر بتقديره على نفسه ، ولا كذلك الميت فإن الاستعمال من غيره ، ويؤيد الفرق ما قالوه في الفرق بين إزالة دم الشهيد وخلوف فم الصائم من أن المزيل للخلوف هو الصائم نفسه ، بخلاف دم الشهيد فإن المزيل غيره ، وبنوا عليه أنه لو سوكه غيره بغير إذنه حرم ، وأن الشهيد لو أزال دمه بنفسه قبل موته لم يحرم وإن قطع بموته ( قوله : أن عائشة رضي الله عنها سخنت ماء ) لم يقيده بكونه في إناء منطبع فالأخذ به يقتضي الكراهة ، وإن كان مسخنا في خزف أو خشب أو غيرهما إلا أن يقال يستنبط من النص معنى يخصصه ، وذلك أنه حيث قال صلى الله عليه وسلم { فإنه يورث البرص } أشعر أن الكلام في المنطبع ( قوله : يا حميراء ) هو بالمد والتصغير ( قوله وإن كان ضعيفا ) قيل وكذا [ ص: 70 ] كل حديث فيه يا حميراء ( قوله : لا مجرد انتقاله من حالة لأخرى ) خلافا للخطيب على أبي شجاع ( قوله : الاكتفاء بذلك ) اسم الإشارة راجع لقوله مجرد انتقاله ( قوله : لشدة تأثيرها فيه ) ولم ينظروا إلى أن المغطى تنحبس فيه الأجزاء السمية ، فكان أولى بالكراهة كما قيل بكراهة المكمور من اللحم ونحوه ، بل قيل بحرمته كأنه ; لأن زيادة التأثير للشمس يتوهم الضرر معها أكثر ( قوله : في منطبع ) أي مطرق : أي من شأنه ذلك وإن لم يطرق بالفعل ( قوله : بين أن يصدأ أو لا ) أي فلا يكره في الذهب والفضة وإن صدئا ويكره في غيرهما ، ولا يقال إن الصدأ في غيرهما مانع من وصول الزهومة إلى الماء ( قوله : وأن يكون بقطر ) ولو خالف البلد قطره فالعبرة بالبلد ، فيكره المشمس بحوران دون الطائف .

                                                                                                                            ( قوله : وأن يكون وقتها ) أي في الصيف ( قوله فلو برد ) من باب سهل ا هـ مختار ، وعبارة المصباح برد الشيء برودة مثل سهل سهولة إذا سكنت حرارته ، وأما برد بردا من باب قتل فيستعمل لازما ومتعديا ، يقال برد الماء وبردته فهو بارد ومبرود ، ثم قال وبردته بالتثقيل مبالغة ( قوله : زالت الكراهة ) أي ولو سخن بالنار بعد ، قال ابن قاسم على ابن حجر : وبقي ما لو برد ثم شمس أيضا في إناء غير منطبع فهل تعود الكراهة ; لأنها إنما زالت لفقد الحرارة وقد وجدت ، أو لا تعود كما اقتضاه كلامهم ؟ فيه نظر وقد يوجه إطلاقهم باحتمال أن التبريد أزال الزهومة أو أزال تأثيرها أو أضعفه وإن وجدت الحرارة ، وبأن الكراهة لا تثبت إلا بسببها وقد زالت بالتبريد ، ولم يوجد بعد سببها وهو التشميس بشروطه ، وباحتمال أن الحرارة المؤثرة مشروطة بحصولها بواسطة الإناء المنطبع لخصوصية فيه فليتأمل انتهى .

                                                                                                                            أقول : والأقرب عدم زوال الكراهة ; لأن الزهومة باقية فيه ، وإنما خمدت بالتبريد فإذا سخن أثرت تلك الزهومة الخامدة ( قوله : إذا سخن بالنار ) أي حال حرارته لما مر أنه إذا برد زالت الكراهة [ ص: 71 ] قوله : وإن قال بعضهم ) مراده شيخ الإسلام في شرح الروض وقوله لعدم علة لقوله عدم كراهة ما سخن إلخ وقوله فيه وقفة : أي لفحش أمر النجاسة المغلظة ( قوله : فيجب شراؤه ) فإن لم يجده ولم يضق لا يجب شراؤه ، وسيأتي أن الأفضل عدم استعماله إلا إن تيقن إلخ ( قوله : أو بمعرفة نفسه ) أي بسبب الطب لا بالتجارب ( قوله : ويجوز له التيمم ) أي بل يجب انتهى ابن قاسم ، ولا ينافيه تعبير الشارح بالجواز لكونه جوازا بعد منع فيصدق بالوجوب ( قوله : أو كان مما يدركه البرص ) أي كالخيل البلق ( قوله : لمنعهما الإسباغ ) أي كماله فإن ما يمنع أصل الإسباغ لا تصح الطهارة به لعدم تعميم العضو بالماء ، ثم قضية تعليله بمنعه الإسباغ اختصاص الكراهة بالوضوء والغسل ، وليس مرادا بل يكره استعماله في البدن مطلقا لخوف الضرر انتهى .

                                                                                                                            كذا نقل عن ابن قاسم على المنهج ، ثم رأيت عبارته نصها قوله لمنعه الإسباغ قضيته اختصاص الكراهة بالطهارة ، لكن عللها في شرح المهذب بخوف الضرر وقضيته الكراهة في البدن مطلقا فلينظر انتهى ( قوله والأوجه كراهة ترابها ) أي تراب الأرض المغضوب على أهلها ، وينبغي أن مثل ذلك ما يحصل فيها من الثمار ونحوها ( قوله وماء بئر برهوت ) محركة وبالضم : أي للباء انتهى قاموس . وعبارة مراصد الاطلاع بضم الهاء وسكون الواو وتاء فوقها نقطتان : واد باليمن ، قيل هو بقرب [ ص: 72 ] حضرموت جاء أن فيه أرواح الكفار ، وقيل بئر بحضرموت ، وقيل هو اسم البلد الذي فيه البئر رائحتها منتنة فظيعة جدا انتهى ( قوله : وماء أرض بابل ) اسم موضع بالعراق ينسب إليه السحر والخمر . قال الأخفش : لا ينصرف لتأنيثه وتعريفه وكونه أكثر من ثلاثة أحرف انتهى . مختار .

                                                                                                                            ( قوله : وماء بئر ذروان ) بفتح الذال المعجمة وسكون الراء ، ويقال فيها أيضا أروان بفتح الهمزة وسكون الراء انتهى مراصد الاطلاع في أسماء الأمكنة والبقاع . ثم رأيت في القاموس ما نصه : بئر ذروان بالمدينة أو هو ذو أروان بسكون الراء ، وقيل بتحريكه أصح انتهى



                                                                                                                            حاشية المغربي

                                                                                                                            ( قوله : ما سخنته الشمس ) أي من المائع كما يأتي [ ص: 70 ] قوله : ولهذا قال السبكي إلخ ) في ترتيب هذا على ما قبله وقفة ظاهرة وعبارة الشهاب ابن حجر عقب قول المصنف ويكره ما نصه شرعا لا طبا فحسب انتهت ، فأشعر كلامه أن القائل بأن الكراهة شرعية يقول إن فيها شائبة رشاد من حيث الطب ، فلعل قول الشارح وقول إلخ بالنظر إلى ذلك وإن كان في سياقه قلاقة ( قوله : بخلافها في المائع ) صورته أن المائع المشمس جعل حال حرارته في الطعام المائع وطبخ بقرينة ما مر ، ويأتي ( قوله : إذا سخن بالنار ) أي مع بقاء [ ص: 71 ] حرارته بدلالة ما يأتي ( قوله : على الابتداء ) أي أو بعد التبريد ( قوله : لا يقال إلخ ) هذا سؤال نشأ من أخذه بقاء كراهة الماء المشمس وإن سخن بالنار من بقائها في المائع الذي فيه ماء مشمس وإن طبخ بها حاصله وضوح الفرق بين المسألتين ، وهو أن اختلاط الماء المشمس بالطعام تفرقت به الأجزاء السمية بأجزائه فلم تقدر النار على دفعها ، بخلاف الماء المجرد : أي فالأخذ المذكور غير صحيح .

                                                                                                                            وحاصل الجواب أن شدة غليان الطعام بالنار يوجب إخراج تلك الأجزاء السمية فقول المعترض فلا تقدر النار على دفعها ممنوع : أي ومع اقتضاء النار إخراج ذلك لم نراعه وننفي الكراهة بل أثبتناها ، فإثباتها في مسألة الماء الذي ليس فيه إلا مجرد التسخين أولى لما مر فصح الأخذ المذكور ، والتفرقة التي هي حاصل السؤال للشهاب ابن حجر في شرح الإرشاد ، فإنه أثبت الكراهة في مسألة الطعام تبعا للمجموع ونفاها في مسألة الماء فارقا بما ذكر ، والإشارة في قول الشارح أن اختلاط ذلك للماء المشمس كما علم مما تقرر ( قوله : أو بمعرفة نفسه ) أي طبا لا تجربة ( قوله : أو برد ) الأولى بل الصواب إسقاطه [ ص: 72 ] قوله : بئر ذروان ) بفتح المعجمة ، كمروان عند البخاري ، ولمسلم بئر ذي أروان ، وأسقط الأصيلي الراء وغلط ، وكان الأصل ذي أروان فسهلت الهمزة لكثرة الاستعمال فصار ذروان ، وروي بئر أروان بإسقاط ذي وهي بئر بني زريق وضع لبيد بن الأعصم وكان منافقا حليفا في بني زريق سحره فيها للنبي صلى الله عليه وسلم تحت راعوفتها ، وكان ماؤها كنقاعة الحناء ونخلها كأنه رءوس الشياطين ، فأمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فدفنت بعد إخراج السحر منها لكنه لم يخرجه للناس ، هكذا في [ خلاصة الوفا في أخبار ديار المصطفى ] للسيد السمهودي




                                                                                                                            الخدمات العلمية