الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أو جرح وارتث ) وذلك ( بأن أكل أو شرب أو نام أو تداوى ) ولو قليلا ( أو أوى خيمة أو مضى عليه وقت صلاة وهو يعقل ) ويقدر على أدائها ( أو نقل من معركة ) وهو يعقل ، سواء وصل حيا أو مات على الأيدي وكذا لو قام من مكانه إلى مكان آخر بدائع ( لا لخوف وطء الخيل أو أوصى بأمور الدنيا ، وإن بأمور الآخرة لا ) يصير مرتثا ( عند محمد وهو الأصح ) جوهرة لأنه من أحكام الأموات ( أو باع أو اشترى أو تكلم بكلام كثير ) [ ص: 252 ] وإلا فلا ، وهذا كله إذا كان ( بعد انقضاء الحرب ولو فيها ) أي في الحرب ( لا ) يصير مرتثا بشيء مما ذكر ، وكل ذلك في الشهيد الكامل ، وإلا فالمرتث شهيد الآخرة وكذا الجنب ونحوه ، ومن قصد العدو فأصاب نفسه ، والغريق والحريق والغريب والمهدوم عليه والمبطون والمطعون والنفساء والميت ليلة الجمعة وصاحب ذات الجنب ومن مات وهو يطلب العلم ، وقد عدهم السيوطي نحو الثلاثين

التالي السابق


( قوله أو جرح ) فعل ماض مبني للمفعول وهو عطف على قتل ، وقوله وارتث بالبناء للمفعول : أي حمل من المعركة رثيثا : أي جريحا . وفي النهاية : الرث البالي الخلق : أي صار خلقا في الشهادة ، ومعناه الشرعي ما أفاده بقوله بأن أكل إلخ نهر : لأنه حصل له بذلك رفق من مرافق الحياة فلم تبق شهادته على جدتها وهيئتها التي كانت في شهداء أحد الذين هم الأصل في حكمه ، لأن ترك الغسل على خلاف القياس المشروع في حق سائر أموات بني آدم فيراعى فيه جميع الصفات التي كانت في المقيس عليه ، وتمامه في شرح المنية ( قوله : ولو قليلا ) يرجع إلى الأربعة قبله أفاده في البحر ط ( قوله : أو أوى خيمة ) بالمد والقصر يتعدى بإلى . وأنكر بعضهم تعديته بنفسه .

وقال الأزهري : إنها لغة فصيحة كما ذكره ابن الأثير ، أفاده القهستاني ، والمراد هنا ما إذا ضربت عليه خيمة ، وهو في مكانه ، وإلا فهي مسألة النقل من المعركة أفاده في البحر ( قوله وهو يعقل ) فلو لم يعقل لا يغسل وإن زاد على يوم وليلة ( قوله ويقدر على أدائها ) كذا قيده الزيلعي وقال حتى يجب عليه القضاء بتركها فيكون بذلك من أحكام الدنيا كما في الدرر ، قال في الفتح : والله أعلم بصحته ، وتمامه في البحر ( قوله : أو نقل من المعركة ) أو من المكان الذي جرح فيه كما في الينابيع إسماعيل ( قوله : وكذا إلخ ) أي بالأولى ( قوله لا لخوف وطء الخيل ) قيد لقوله أو نقل من المعركة فحينئذ لا يكون النقل منافيا للشهادة ، وهذا القيد مذكور في شرح الزيادات والكافي والمنبع وابن ملك وغرر الأذكار والزيلعي والدرر وغيرها إسماعيل وكذا في الهداية والبدائع معللا بأنه ما نال شيئا من راحة الدنيا ( قوله : وهو الأصح ) ذكر في البحر عن المحيط أن الأظهر أنه لا خلاف ; فقول أبي يوسف إنه يكون مرتثا فيما إذا أوصى بأمور الدنيا ، وقول محمد بعدمه فيما إذا أوصى بأمور الآخرة كما في وصية سعد بن الربيع وجزم به في النهر . وذكر ط وصية سعد عن سيرة الشامي حاصلها { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه من ينظر فقال : إني في الأموات ، فأبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عني السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول : جزاك الله عنا خيرا ما جزى نبيا عن أمته ، وقل له إني أجد ريح الجنة ، وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكروه وفيكم عين تطرف ، ثم لم يبرح أن مات } ( قوله أو تكلم بكلام كثير ) يمكن حمله على كلام ليس بوصية توفيقا بينهما ، لكن ذكر أبو بكر الرازي أنه لو أكثر كلامه في الوصية غسل لأنها إذا طالت أشبهت أمور الدنيا بحر عن غاية البيان .

قلت : يمكن حمل ما ذكره الرازي على الوصية بأمور الدنيا بدليل ما مر من وصية سعد ، فإن فيها كلاما [ ص: 252 ] طويلا ( قوله وإلا فلا ) أي وإن لم يكن كثيرا ككلمة أو كلمتين فلا يكون مرتثا ( قوله وهذا كله ) أي كون ما ذكر في بيان الارتثاث موجبا للغسل درر ( قوله إذا كان إلخ ) هذا الشرط يظهر فيمن قتل بمحاربة ، أما من قتل بغيرها كمن قتل ظلما فلا يظهر فيه بل إن ارتث غسل وإلا لا ، ولذا لم يقتد به هناك ( قوله وكل ذلك ) أي ما تقدم من الشروط وهي ست كما في البدائع : العقل والبلوغ والقتل ظلما ، وأن لا يجب به عوض مالي ، والطهارة عن الحدث الأكبر ، وعدم الارتثاث ط . مطلب في تعداد الشهداء ( قوله في الشهيد الكامل ) وهو شهيد الدنيا والآخرة ، وشهادة الدنيا بعدم الغسل إلا لنجاسة أصابته غير دمه كما في أبي السعود ، وشهادة الآخرة بنيل الثواب الموعود للشهيد أفاده في البحر ط والمراد بشهيد الآخرة من قتل مظلوما أو قاتل لإعلاء كلمة الله - تعالى - حتى قتل فلو قاتل لغرض دنيوي فهو شهيد دنيا فقط تجري عليه أحكام الشهيد في الدنيا ، وعليه فالشهداء ثلاثة .

( قوله ونحوه ) أي كالمجنون والصبي والمقتول ظلما إذا وجب بقتله مال ( قوله : والمطعون ) وكذا من مات في زمن الطاعون بغيره إذا أقام في بلده صابرا محتسبا فإن له أجر الشهيد كما في حديث البخاري . وذكر الحافظ ابن حجر أنه لا يسأل في قبره أجهوري ( قوله والنفساء ) ظاهره سواء ماتت وقت الوضع أو بعده قبل انقضاء مدة النفاس ط ( قوله والميت ليلة الجمعة ) أخرج حميد بن زنجويه في فضائل الأعمال عن مرسال إياس بن بكير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد } أجهوري ( قوله وهو يطلب العلم ) بأن كان له اشتغال به تأليفا أو تدريسا أو حضورا فيما يظهر ، ولو كل يوم درس ، وليس المراد الانهماك ط ( قوله وقد عدهم السيوطي إلخ ) أي في التثبيت نحو الثلاثين فقال : من مات بالبطن . واختلف فيه ، هل المراد به الاستسقاء أو الإسهال ؟ قولان ولا مانع من الشمول أو الغرق أو الهدم أو بالجنب : وهي قروح تحدث في داخل الجنب بوجع شديد ثم تنفتح في الجنب أو بالجمع بالضم بمعنى المجموع كالذخر بمعنى المذخور وكسر الكسائي الجيم . والمعنى أنها ماتت من شيء مجموع فيها غير منفصل عنها من حمل أو بكارة ، وقد تفتح الجيم أيضا على قلة قال صلى الله عليه وسلم { أيما امرأة ماتت بجمع فهي شهيدة } أو بالسل وهو داء يصيب الرئة ، ويأخذ البدن منه في النقصان والاصفرار . وفي الغربة أو بالصرع ، أو بالحمى ، أو دون أهله أو ماله أو دمه أو مظلمة ، أو بالعشق مع العفاف والكتم ، وإن كان سيئة حراما ، أو بالشرق ؟ ، أو بافتراس السبع أو بحبس سلطان ظلما ، أو بالضرب ، أو متواريا ، أو لدغته هامة ، أو مات على طلب العلم الشرعي ، أو مؤذنا محتسبا أو تاجرا صدوقا ، ومن سعى على امرأته وولده وما ملكت يمينه يقيم فيهم أمر الله - تعالى ، ويطعمهم من حلال كان حقا على الله - تعالى - أن يجعله من الشهداء في درجاتهم يوم القيامة والمائد في البحر : أي الذي حصل له غثيان والذي يصيبه القيء له أجر شهيد ومن ماتت صابرة على الغيرة لها أجر شهيد ، ومن قال كل يوم خمسا وعشرين مرة : اللهم بارك لي في الموت وفيما بعد الموت ثم مات على فراشه أعطاه الله أجر شهيد ، ومن صلى [ ص: 253 ]

الضحى وصام ثلاثة أيام من كل شهر ، ولم يترك الوتر سفرا ولا حضرا كتب له أجر شهيد { والمتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد } ومن قال في مرضه أربعين مرة " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فمات أعطي أجر شهيد ، وإن برئ برئ مغفورا له " وحذفت أدلة ذلك طلبا للاختصار ا هـ ملخصا ط .

أقول : وقد نظمها العلامة الشيخ علي الأجهوري المالكي وشرحها شرحا لطيفا ، وذكر نحو الثلاثين أيضا لكنه زاد على ما هنا : من مات بالطاعون كما مر أو بالحرق أو مرابطا أو يقرأ كل ليلة سورة يس ، ومن صرع عن دابة فمات . ويحتمل أن يكون هو المراد بقوله فيما مر أو بالصرع ، ومن بات على طهارة فمات { ومن عاش مداريا مات شهيدا } أخرجه الديلمي { ومن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة } أخرجه الطبراني { ومن سأل القتل في سبيل الله صادقا ثم مات أعطاه الله أجر شهيد } رواه الحاكم وغيره { ومن جلب طعاما إلى مصر من أمصار المسلمين كان له أجر شهيد } رواه الديلمي ، ومن مات يوم الجمعة كما مر . وسئل الحسن عن رجل اغتسل بالثلج فأصابه البرد فمات فقال : يا لها من شهادة . وأخرج الترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة حتى يصبح } ا هـ وبذلك زادت على الأربعين ، وقد عدها بعضهم أكثر من خمسين وذكرها الرحمتي منظومة فراجعه .

مطلب المعصية هل تنافي الشهادة ؟

[ خاتمة ]

ذكر الأجهوري قال في العارضة : من غرق في قطع الطريق فهو شهيد وعليه إثم معصيته وكل من مات بسبب معصية فليس بشهيد ، وإن مات في معصية بسبب من أسباب الشهادة فله أجر شهادته وعليه إثم معصيته ، وكذلك لو قاتل على فرس مغصوب ، أو كان قوم في معصية فوقع عليهم البيت فلهم الشهادة ، وعليهم إثم المعصية انتهى .

ثم نقل عن بعض شيوخه أنه يؤخذ منه أن من شرق بالخمر فمات فهو شهيد لأنه مات في معصية لا بسببها ثم نظر فيه لأنه مات بسببها لأن الشرقة بالخمر معصية لأنها شرب خاص . قال : ويتردد النظر فيمن ماتت بالولادة من الزنا في أن سبب السبب هل يكون بمنزلة السبب فلا تكون شهيدة أم لا والظاهر الأول . ا هـ . وجزم الرملي الشافعي بالثاني ، وقال : أي فرق بينها وبين من ركب البحر لمعصية أو سافر آبقا أو ناشزة ، بخلاف ما إذا ركب البحر في وقت لا تسير فيه السفن أو تسببت امرأة في إلقاء حملها للعصيان بالسبب ا هـ ملخصا .

قلت : الذي يظهر تقييد ركوب البحر أو السفر بما إذا كان لغير معصية وإلا كان معصية لكونه سببا للمعصية ، فهو كمن قاتل عصبية . فجرح ثم مات ، فالمناسب ما نقله عن بعضهم من تقييد السفر بالإباحة ، والله أعلم




الخدمات العلمية