الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وقال المفرد بالحج ) بلسانه مطابقا لجنانه ( اللهم إني أريد الحج فيسره لي ) لمشقته وطول مدته ( وتقبله مني ) لقول إبراهيم وإسماعيل - { ربنا تقبل منا } - وكذا المعتمر والقارن بخلاف الصلاة لأن مدتها يسيرة كذا في الهداية ، وقيل كذلك في الصلاة وعممه الزيلعي في كل عبادة وما في الهداية أولى ( ثم لبى دبر صلاته ناويا بها ) بالتلبية ( الحج ) [ ص: 483 ] بيان للأكمل وإلا فيصح الحج بمطلق النية ولو بقلبه ، لكن بشرط مقارنتها بذكر يقصد به التعظيم كتسبيح وتهليل ولو بالفارسية وإن أحسن العربية والتلبية على المذهب ( وهي : لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد ) بكسر الهمزة وتفتح ( والنعمة لك ) [ ص: 484 ] بالفتح أو مبتدأ وخبر ( والملك لا شريك لك ، وزد ) ندبا ( فيها ) أي عليها لا في خلالها ( ولا تنقص ) منها فإنه مكروه أي تحريما لقولهم إنها مرة شرط والزيادة سنة ويكون مسيئا بتركها وبترك رفع الصوت بها

التالي السابق


( قوله بلسانه مطابقا لجنانه ) أي لقلبه يعني أن دعاءه بطلب التيسير والتقبل لا بد أن يكون مقرونا بصدق التوجه إلى الله تعالى لأن الدعاء بمجرد اللسان عن قلب غافل لا يفيد وليس هذا بنية للحج كما نذكره قريبا فافهم ( قوله لمشقته إلخ ) لأن أداءه في أزمنة متفرقة وأمكنة متباينة ، فلا يعرى عن المشقة غالبا فيسأل الله تعالى التيسير لأنه الميسر كل عسير زيلعي ( قوله لقول إبراهيم وإسماعيل ) عليهما السلام تعليل لقوله تقبله مني ، لأنهما لما طلبا ذلك في بناء البيت ناسب طلبه في قصده للحج إليه فإن العبادة في المساجد عمارة لها فافهم ( قوله وكذا المعتمر ) لوجود المشقة في العمرة وإن كانت أدنى من مشقة الحج ( قوله والقارن ) فيقول : اللهم إني أريد الحج والعمرة إلخ قال ح : وترك المتمتع لأنه يفرد الإحرام بالحج ويفرده بالعمرة فهو داخل فيما قبله ( قوله وقيل ) عزاه في التحفة والقنية إلى محمد كما في النهر ( قوله وما في الهداية أولى ) كذا في النهر .

قال الرحمتي : ولكن ما أعظم الصلاة وما أصعب أداءها على وجهها وما أحرى طلب تيسيرها من الله تعالى فلذا عممه الزيلعي تبعا لغيره من الأئمة ( قوله ناويا بها الحج ) قال في النهر : فيه إيماء إلى أنها غير حاصلة بقوله : اللهم إني أريد الحج إلخ لأن النية أمر آخر وراء الإرادة وهو العزم على الشيء كما قال البزازي ، وقد أفصح عن ذلك ما قاله الراغب إن دواعي الإنسان للفعل على مراتب : السانح ، ثم الخاطر ، ثم الفكر ، ثم الإرادة ، ثم الهمة ، ثم العزم . ولو قال بلسانه : نويت الحج وأحرمت به لبيك إلخ كان حسنا ليجتمع القلب واللسان كذا في الزيلعي . قال في الفتح : وعلى قياس ما قدمناه في شروط الصلاة إنما يحسن إذا لم تجتمع عزيمته لا إذا اجتمعت ، ولم نعلم أن أحدا من الرواة لنسكه صلى الله عليه وسلم روى أنه سمعه يقول : نويت العمرة ولا الحج ولهذا قال مشايخنا إن الذكر باللسان حسن ليطابق القلب . ا هـ .

قال في البحر : فالحاصل أن التلفظ باللسان بالنية بدعة مطلقا في جميع العبادات ا هـ لكن اعترضه الرحمتي بما في صحيح البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه سمعتهم يصرخون بهما جميعا . وعنه : ثم أهل بحج وعمرة ، وأهل الناس بهما إلى غير ذلك مما هو مصرح بالنطق بما يفيد معنى النية ولم يقل أحد إن النية تتعين بلفظ مخصوص لا وجوبا ولا ندبا فكيف يقال إنها لم توجد في كلام أحد من الرواة فتأمل . ا هـ .

قلت : قد يجاب بأن المراد نفي التصريح بلفظ نويت الحج وأن ما ورد من الإهلال المذكور هو ما في ضمن الدعاء بالتيسير والتقبل ، وقد علمت أن هذا ليس بنية وإنما النية وقت التلبية كما أشار إليه المصنف كغيره بقوله ناويا أو هو ما يذكره في التلبية . ففي اللباب وشرحه . ويستحب أن يذكر في إهلاله أي في رفع صوته بالتلبية ما أحرم [ ص: 483 ] به من حج أو عمرة فيقول : لبيك بحجة ومثله في البدائع تأمل ( قوله بيان للأكمل ) راجع إلى قوله تنوي بها الحج كما في البحر ( قوله بمطلق النية ) من إضافة الصفة للموصوف : أي بالنية المطلقة عن التقييد بالحج بأن نوى النسك من غير تعيين حج أو عمرة ; ثم إن عين قبل الطواف فيها وإلا صرف للعمرة كما يأتي . قال في اللباب : وتعيين النسك ليس بشرط فصح مبهما وبما أحرم به الغير . ثم قال في موضع آخر : ولو أحرم بما أحرم به غيره فهو مبهم فيلزمه حجة أو عمرة وقيده شارحه بما إذا لم يعلم بما أحرم به غيره ا هـ وكذا لو أطلق نية الحج صرف للفرض ويأتي تمامه قبيل قوله ولو أشعرها ( قوله ولو بقلبه ) لأن ذكر ما يحرم به من الحج أو العمرة باللسان ليس بشرط كما في الصلاة زيلعي ( قوله بذكر يقصد به التعظيم ) أي ولو مشوبا بالدعاء على الصحيح شرح اللباب . وفي الخانية ولو قال اللهم ولم يزد قال الإمام ابن الفضل هو على الاختلاف الذي ذكرناه في الشروع في الصلاة .

والحاصل أن اقتران النية بخصوص التلبية ليس بشرط بل هو السنة وإنما الشرط اقترانها بأي ذكر كان وإذا لبى فلا بد أن تكون باللسان . قال في اللباب : فلو ذكرها بقلبه لم يعتد بها والأخرس يلزمه تحريك لسانه وقيل لا بل يستحب ا هـ ومال شارحه إلى الثاني لأن الأصح أنه لا يلزمه التحريك في القراءة للصلاة فهذا أولى لأن الحج أوسع ولأن القراءة فرض قطعي متفق عليه بخلاف التلبية ( قوله ولو بالفارسية ) أي أو غيرها كالتركية والهندية كما في اللباب ، وأشار إلى أن العربية أفضل كما في الخانية ( قوله وإن أحسن العربية والتلبية ) أي بخلاف الصلاة لأن باب الحج أوسع ; حتى قام غير الذكر مقامه كتقليد البدن ح عن الشرنبلالية . وفيه أن الشروع في الصلاة يتحقق بالفارسية ولو مع القدرة على العربية وقدمه الشارح هناك ونبه على ما وقع للشرنبلالي وغيره من الاشتباه حيث جعلوا الشروع كالقراءة ط ( قوله وهي لبيك اللهم لبيك ) أي أقمت ببابك إقامة بعد أخرى وأجبت نداءك إجابة بعد أخرى ، وجملة اللهم بمعنى يا الله معترضة بين المؤكد والمؤكد شرح اللباب فالتثنية لإفادة التكرار كما في - { فارجع البصر كرتين } - أي كرات كثيرة وتكرار اللفظ لتوكيد ذلك ، ويوجد في بعض النسخ بعد اللهم لبيك لبيك مرتين وهو الموافق لما في الكنز والهداية والجوهرة واللباب وغيرها فتكون إعادته ثالثا لمبالغة التأكيد . قال بعض المحشين : وقد استحسن الشافعية الوقف على لبيك والثالثة ولم أره لأئمتنا فراجعه ا هـ

قلت : مقتضى ما في القهستاني الوقف على الثانية فإنه تكلم على قوله : لبيك اللهم لبيك ، ثم قال لبيك لا شريك لك استئناف ، فإن مفاده أن الاستئناف بقوله : لبيك الثالثة لا بقوله : لا شريك لك وهو مفاد ما في شرح اللباب أيضا ( قوله بكسر الهمزة وتفتح ) والأول أفضل قال في المحيط : لأنه عليه الصلاة والسلام فعله ورده في البناية بأنه لم يعرف ، نعم علل أكثرهم الأفضلية بأنه استئناف للثناء فتكون التلبية للذات ، بخلاف الفتح فإنه تعليل للتلبية أي لبيك لأن الحمد لك والنعمة والملك أو تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات أولى منه باعتبار صفة . واعترض بأن الكسر يجوز أن يكون تعليلا مستأنفا أيضا ومنه - { وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } - إنه ليس من أهلك - ومنه : علم ابنك العلم إن العلم نافعه . وأجيب بأنه وإن جاز فيه كل منهما إلا أنه يحمل هنا على الاستئناف لأولويته بخلاف الفتح إذ ليس فيه سوى التعليل ، وحكى الشراح عن الإمام الفتح وعن محمد والكسائي والفراء الكسر [ ص: 484 ] إلا أن المذكور في الكشاف أن اختيار الإمام الكسر والشافعي الفتح وهو الذي يعطيه ظاهر كلامهم نهر ( قوله بالفتح ) الأصوب بالنصب لأنه معرب لا مبني وعبارة النهر بالنصب على المشهور ويجوز الرفع إلخ ( قوله أو مبتدأ ) وخبره لك وعليه فخبر إن محذوف لدلالة ما بعده عليه والأولى جعل لك خبر إن وخبر المبتدأ محذوف كما قرروا الوجهين في قوله تعالى { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن } الآية فافهم ( قوله والملك ) بالنصب وجوز الرفع وعلى كل فالخبر محذوف ، واستحسن الوقف عليه لئلا يتوهم أن ما بعده خبره شرح اللباب ونقل بعضهم أنه مستحب عند الأئمة الأربعة .

[ تنبيه ]

في اللباب وشرحه ويستحب أن يرفع صوته بالتلبية ثم يخفضه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بما شاء ، ومن المأثور { اللهم إني أسألك رضاك والجنة وأعوذ بك من غضبك والنار } وفيه أيضا وتكرارها سنة في المجلس الأول وكذا في غيره ، وعند تغير الحالات مستحب مؤكدا والإكثار مطلقا مندوب ، ويستحب أن يكررها كلما شرع فيها ثلاثا على الولاء ولا يقطعها بكلام ( قوله وزد فيها ) ولا تستحب الزيادة من غير المأثور كما في العناية خلافا لما في النهر فافهم ، نعم في شرح اللباب ما وقع مأثورا يستحب بأن يقول : لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغباء إليك إله الخلق لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا ، لبيك إن العيش عيش الآخرة ، وما ليس مرويا فجائز أو حسن ( قوله أي عليها ) فالظرف بمعنى على كما أفاده الزيلعي قال في النهر لأن الزيادة إنما تكون بعد الإتيان بها لا في خلالها كما في السراج ا هـ فما مر من لبيك وسعديك إلخ ، ونقله في النهر عن ابن عمر يأتي به بعد التلبية لا في أثنائها فافهم ( قوله تحريما لقولهم إنها مرة شرط ) تبع فيه النهر مخالفا للبحر ، ولا يخفى ما فيه فإنه إن أراد أن الشرط خصوص الصيغة المارة ففيه أن ظاهر المذهب كما في الفتح أنه يصير محرما بكل ثناء وتسبيح وقد مر ، وإن أراد بها مطلق الذكر فلا يفيد مدعاه وهو كراهة نقص هذه الصيغة تحريما فالحق ما في البحر من أن خصوص التلبية سنة ، فإذا تركها أصلا ارتكب كراهة التنزيه ، فإذا نقص عنها فكذلك بالأولى وأن قول الكافي النسفي لا يجوز فيه نظر ظاهر وقول من قال إنها شرط مراده ذكر يقصد به التعظيم لا خصوصها . ا هـ . ( قوله والزيادة سنة ) أي تكرارها كما قدمناه عن اللباب ، وأما الزيادة على الصيغة المارة فقد مر أنها مندوبة وهو معنى ما في الكافي وغيره أنها مستحبة فافهم ( قوله وبترك رفع الصوت بها ) أي بالتلبية ومقتضاه أن الرفع سنة وبه صرح في النهر عن المحيط وهو خلاف ما قدمناه وصرح به البحر والفتح من أنه مستحب لكن ذكر في البحر في غير هذا الموضع أن الإساءة دون الكراهة فلا يلزم من قول الشارح تبعا للمحيط أنه يكون مسيئا بتركه أن يكون سنة مؤكدة تأمل .




الخدمات العلمية