الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وذبح حلال صيد الحرم وحلبه ) لبنه ( وقطع حشيشه وشجره ) [ ص: 567 ] حال كونه ( غير مملوك ) يعني النابت بنفسه سواء كان مملوكا أو لا ; حتى قالوا لو نبت في ملكه أم غيلان فقطعها إنسان فعليه قيمة لمالكها وأخرى لحق الشرع بناء على قولهما المفتى به من تملك أرض الحرم ( ولا منبت ) أي ليس من جنس ما ينبته الناس فلو من جنسه فلا شيء عليه كمقلوع وورق لم يضر بالشجر ، ولذا حل قطع الشجر المثمر لأن إثماره أقيم مقام الإنبات ( قيمته ) في كل ما ذكر ( إلا ما جف ) أو انكسر لعدم النماء ، أو ذهب بحفر كانون أو ضرب فسطاط لعدم إمكان الاحتراز عنه لأنه تبع ( والعبرة للأصل لا لغصنه وبعضه ) أي الأصل ( كهو ) ترجيحا للحرمة [ ص: 568 ] ( والعبرة لمكان الطائر ، فإن كان ) على غصن بحيث ( لو وقع ) الصيد ( وقع في الحرم فهو صيد الحرم وإلا لا ، ولو كان قوائم الصيد ) القائم ( في الحرم ورأسه في الحل فالعبرة لقوائمه ) وبعضها ككلها ( لا لرأسه ) وهذا في القائم ، ولو كان نائما فالعبرة لرأسه لسقوط اعتبار قوائمه حينئذ ، فاجتمع المبيح والمحرم ، والعبرة لحالة الرمي إلا إذا رماه من الحل ومر السهم في الحرم يجب الجزاء استحسانا بدائع

التالي السابق


( قوله وذبح حلال صيد الحرم ) سيعيد المصنف هذه المسألة ، ونتكلم عليها هناك ( قوله وحلبه لبنه ) لأن اللبن من أجزاء الصيد فتجب قيمته كما صرح به في النقاية والملتقى ، وكذا لو كسر بيضه أو جرحه يضمن كما في البحر . ثم إن ذكر الشارح المفعول وهو لبنه يفيد أن الحلب مصدر مضاف إلى ضمير الفاعل وهو الحلال مع أنه غير قيد فلو ترك ذكر لبنه وجعل المصدر مضافا إلى ضمير المفعول وهو الصيد لكان أولى لأنه يشمل حينئذ ما إذا كان الحالب محرما لكنه لا يختص بصيد الحرم تأمل ( قوله وقطع حشيشه وشجره ) ذكر النووي عن أهل اللغة أن العشب والخلا بالقصر اسم للرطب والحشيش لليابس ، وأن الفقهاء يطلقون الحشيش على الرطب أيضا مجازا باعتبار ما يئول إليه . ا هـ . وفي الفتح : والشجر اسم للقائم الذي بحيث ينمو فإذا جف فهو حطب . ا هـ . وأطلق في القاطع فشمل الحلال والمحرم ، وقيد بالقطع لأنه ليس في المقلوع ضمان ، وأشار بضمان قيمته إلى أنه لا مدخل للصوم هنا ، وإلى أنه يملكه بأداء الضمان كما في حقوق العباد . ويكره الانتفاع به بيعا وغيره ، ولا يكره للمشتري ، [ ص: 567 ] وتمامه في البحر ( قوله غير مملوك ولا منبت ) اعلم أن النابت في الحرم إما جاف أو منكسر أو إذخر أو غيرها ، والثلاثة الأول مستثناة من الضمان كما يأتي . وغيرها إما أن يكون أنبته الناس أو لا ، والأول لا شيء فيه ، سواء كان من جنس ما ينبته الناس كالزرع أو لا كأم غيلان .

والثاني إن كان من جنس ما ينبتونه فكذلك وإلا ففيه الجزاء ، فما فيه الجزاء هو النابت بنفسه وليس مما يستنبت ، ومنكسرا ولا جافا ولا إذخرا كما قرره في البحر . وذكر أن المراد من قول الكنز غير مملوك هو النبات بنفسه مملوكا أو لا ، لئلا يرد عليه ما لو نبت في ملك رجل ما لا يستنبت كأم غيلان فإنه مضمون أيضا كما نص عليه في المحيط . وما أجاب به في النهر لم يظهر لي وجه صحته ، فلذا خالف الشارح عادته ولم يتابعه بل تابع البحر ويأتي قريبا في الشرح ( قوله فقطعها إنسان ) لم يذكر ما إذا قطعها المالك .

ونقل في غاية الإتقان عن محمد أنه قال في أم غيلان تنبت في الحرم في أرض رجل ليس لصاحبه قطعه ، ولو قطعه فعليه لعنة الله ، ومقتضاه أن لا يجب عليه جزاء ، لكنه مخالف لما مر من أن كل ما ينبت بنفسه ولم يكن من جنس ما ينبته الناس ففيه القيمة ، سواء كان مملوكا أو لا فينبغي أن تلزمه قيمة واحدة لحق الشرع ، أفاده نوح أفندي ، وصرح في شرح اللباب بضمانه جازما به ( قوله بناء على قولهما إلخ ) أما على قول الإمام إن أرض الحرم سوائب : أي أوقاف في حكم السوائب ، فلا يتصور قولهم لو نبت في ملكه بحر ، وعليه فالواجب قيمة واحدة لحق الشرع فقط ( قوله فلو من جنسه إلخ ) لأن الذي ينبته الناس غير مستحق للأمن بالإجماع ، وما لا ينبتونه عادة إذا أنبتوه التحق بما ينبتونه عادة ، فكان مثله بجامع انقطاع كمال النسبة إلى الحرم عند النسبة إلى غيره بالإنبات كما في الهداية والعناية شرنبلالية ( قوله كمقلوع ) أي إذا انقلعت شجرة إن كان عروقها لا تسقيها فلا شيء بقطعها لباب ( قوله ولذا ) أي لكون الشجر أو الحشيش الذي هو من جنس ما ينبته الناس لا شيء فيه من جزاء لحق الشرع ولا من حرمة ط ( قوله حل قطع الشجر المثمر ) أي وإن لم يكن من جنس ما ينبته الناس ، لكن إن كان له مالك توقف على إجازته وإلا وجبت قيمته له كما لا يخفى ط ( قوله لأن إثماره إلخ ) بدل من قوله ولذا إلخ لأن ما كان من جنس ما ينبته الناس إذا نبت بنفسه إنما لا يجب فيه شيء لأنه بمنزلة ما أنبتوه تأمل .

( قوله قيمته ) فاعل وجب ، وقوله في كل ما ذكر : أي قيمة ما أتلفه في كل ما ذكر من المسائل الثمانية ، ففي الأوليين والخامسة قيمة الصيد ، وفي الثالثة البيض ، وفي الرابعة الفرخ ، وفي السادسة اللبن ، وفي السابعة الحشيش ، وفي الثامنة الشجر ( قوله إلا ما جف أو انكسر ) أي فلا يضمنه القاطع إلا إذا كان مملوكا فيضمن قيمته لمالكه كما في شرح اللباب ، والجاف بالجيم : اليابس ، وقد مر أنه يسمى حطبا ( قوله أو ضرب فسطاط ) أي خيمة ، ومثله ما لو ذهب بمشيه أو مشي دوابه كما في اللباب ( قوله لعدم إمكان الاحتراز عنه لأنه تبع ) كذا في بعض النسخ ، والصواب ذكر قوله لأنه تبع بعد قوله لا لغصنه كما في بعض النسخ ( قوله والعبرة للأصل إلخ ) في البحر عن الأجناس الأغصان تابعة لأصلها وذلك على ثلاثة أقسام : [ ص: 568 ]

أحدها أن يكون أصلها في الحرم والأغصان في الحل ، فعلى قاطع الأغصان القيمة .

الثاني عكسه ، فلا شيء عليه فيهما .

الثالث بعض الأصل في الحل وبعضه في الحرم ضمن سواء كان الغصن من جانب الحل أو الحرم ا هـ ( قوله والعبرة لمكان الطائر ) أي لمكانه من الشجرة لا لأصلها لأن الصيد ليس تابعا لها ط ( قوله بحيث لو وقع الصيد ) فسر الضمير به مع أن مرجعه الطائر قصدا للتعميم فإن هذا الحكم لا يخص الطير . ا هـ . ح ( قوله وإلا لا ) أي لو وقع في الحل فهو من صيد الحل ، ولو أخذ الغصن شيئا من الحل والحرم فالعبرة للحرم ترجيحا للحاظر كما يعلم من نظائره ط ( قوله القائم ) محترزه ما يذكره من النائم ; ولو قال والعبرة لقوائم الطير لكان أخصر وأعم لأنه يفيد حكم ما إذا كانت في الحل ط ( قوله وبعضها ككلها ) أي لو كان بعض قوائمه في الحرم فهو ككلها فيجب الجزاء . قال في شرح اللباب : أي من غير نظر إلى الأقل والأكثر من القوائم في الحل أو الحرم ، وهذا في القائم لا حاجة إليه مع قوله سابقا القائم ط ( قوله ولو كان نائما فالعبرة لرأسه ) مقتضاه أنه لو كان رأسه في الحل فقط فهو من صيد الحل ، وبه صرح في السراج ، لكن مقتضى قوله فاجتمع المبيح والمحرم أنه من صيد الحرم . لأن القاعدة ترجيح المحرم . وعبارة البحر كالصريحة فيما قلنا ، وكذا قوله في اللباب لو كان مضطجعا في الحل وجزء منه في الحرم فهو من صيد الحرم ورئي قال شارحه القاضي : أي جزء كان . وقال الكرماني : لو مضطجعا في الحل ورأسه في الحرم يضمن لأن العبرة لرأسه وهو موهم أن الجزء المعتبر هو الرأس لا غير وليس كذلك ، بل إذا لم يكن مستقرا على قوائمه يكون بمنزلة شيء ملقى ، وقد اجتمع فيه الحل والحرمة فيرجح جانب الحرمة احتياطا .

ففي البدائع : إنما تعتبر القوائم في الصيد إذا كان قائما عليها وجميعه إذا كان مضطجعا ا هـ وهو بظاهره كما قال في الغاية يقتضي أن الحل لا يثبت إلا إذا كان جميعه في الحل حالة الاضطجاع وليس كذلك . ففي المبسوط : إذا كان جزء منه في الحرم حالة النوم فهو من صيد الحرم ، والله أعلم ا هـ فافهم ( قوله والعبرة لحالة الرمي ) أي المعتبر في الرامي حالة الرمي لا حالة الوصول عند الإمام ; حتى لو رمى مجوسي إلى صيد فأسلم ثم وصل السهم إليه لا يؤكل ; ولو رمى مسلم فارتد ثم وصل السهم يؤكل ح عن البحر ( قوله إلا إذا رماه إلخ ) أقول : قال في اللباب : ولو رمى صيدا في الحل فهرب فأصابه السهم في الحرم ضمن ، ولو رماه في الحل وأصابه في الحل فدخل الحرم فمات فيه لم يكن عليه الجزاء ولكن لا يحل أكله ، ولو كان الرمي في الحل والصيد في الحل إلا أن بينهما قطعة من الحرم فمر فيها السهم لا شيء عليه ا هـ .

ولا يخفى أن ما ذكره الشارح هو المسألة الأخيرة كما هو المتبادر مع أنه قد جزم في البحر أيضا بأنه لا شيء فيها من غير حكاية استحسان أو قياس ، وإنما حكى ذلك في المسألة الأولى حيث نقل أولا عن الخانية وجوب [ ص: 569 ] الجزاء وأنه اختلف كلام المبسوط ، ففي موضع لا يجب ، وفي موضع يجب ، وأن هذه المسألة مستثناة من أصل أبي حنيفة فإن عنده المعتبر حالة الرمي إلا في هذه المسألة خاصة . ثم نقل عن البدائع أن الوجوب استحسان وعدمه قياس ، ووفق به بين كلامي المبسوط ، وكذا صرح القاري عن الكرماني بأنها مستثناة احتياطا في وجوب الضمان وبه ظهر أن الشارح اشتبه عليه إحدى المسألتين بالأخرى ، وسبقه إلى ذلك صاحب النهر ، ولا يصح حمل كلامه على ما إذا مر السهم في الحرم وأصاب الصيد في الحرم لأنه إن كان الصيد وقت الرمي في الحرم لم تكن المسألة مستثناة من اعتبار حالة الرمي ويكون وجوب الجزاء لا شك فيه قياسا واستحسانا ، وما نقله ح عن البحر لم أره فيه وإن كان الصيد وقت الرمي في الحل والإصابة في الحرم يصير قوله ومر السهم في الحرم لا فائدة فيه فافهم .




الخدمات العلمية