الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( دخل كوفي ) أي آفاقي ( البستان ) أي مكانا من الحل داخل الميقات ( لحاجة ) قصدها [ ص: 582 ] ولو عند المجاوزة على ما مر ، ونية مدة الإقامة ليست بشرط على المذهب ( له دخول مكة غير محرم ووقته البستان ولا شيء عليه ) لأنه التحق بأهله كما مر ، وهذه حيلة لآفاقي يريد دخول مكة بلا إحرام

التالي السابق


( قوله أي آفاقي ) أفاد أن المراد بالكوفي كل من كان خارج المواقيت ( قوله البستان ) أي بستان بني عامر : وهو موضع قريب من مكة داخل الميقات خارج الحرم ، وهي التي تسمى الآن نخلة محمود بن كمال . زاد غيره أن منه إلى مكة أربعة وعشرين ميلا . قال بعض المحشين : قال النووي : قال بعض أصحابنا : هذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا وقف بأرض عرفات . وفي غاية السروجي : بالقرب من جبل عرفات على طريق العراق والكوفة إلى مكة ( قوله أي مكانا من الحل ) أشار إلى أن البستان غير قيد ; وأن المراد مكان داخل المواقيت من الحل . والظاهر أنه لا يشرط أن يقصد مكانا معينا لأن الشرط عدم قصد دخول الحرم عند المجاوزة ; فأي مكان قصده من داخل المواقيت حصل المراد كما سيتضح فافهم ( قوله لحاجة ) كذا في البدائع والهداية والكنز وغيرها ، وهو احتراز عما إذا أراد دخول مكان من الحل لمجرد المرور إلى مكة فإنه لا يحل له إلا محرما فلا بد من هذا القيد ، وإلا فكل آفاقي أراد دخول مكة لا بد له من دخول مكان في الحل .

على أنه في البحر جعل الشرط قصده الحل من حين خروجه من بيته : أي ليكون سفره لأجله لا لدخول الحرم كما يأتي ، ولذا قال ابن الشلبي في شرحه ومنلا مسكين لحاجة له بالبستان لا لدخول مكة ، ويأتي توضيحه فافهم [ ص: 582 ] قوله ولو عند المجاوزة ) الظرف متعلق بقصدها أي ولو كان قصد الحاجة التي هي علة إرادته دخول البستان عند مجاوزة الميقات ، أما بعد المجاوزة فلا يعتبر قصد الحاجة لكونه عند المجاوزة كان قاصدا مكة فلا يسقط الدم ما لم يرجع . وأفاد أنه لو قصد دخول البستان لحاجة قبل المجاوزة فهو كذلك بالأولى وإن قصده لذلك من حين خروجه من بيته غير شرط ، خلافا لما في البحر حيث قال عقب ذكره إن ذلك حيلة لآفاقي أراد دخول مكة بلا إحرام ، ولم أر أن هذا القصد لا بد منه حين خروجه من بيته أولا . والذي يظهر هو الأول ، فإنه لا شك أن الآفاقي يريد دخول الحل الذي بين الميقات والحرم وليس ذلك كافيا فلا بد من وجود قصد مكان مخصوص من الحل الداخل الميقات حين يخرج من بيته . ا هـ .

وحاصله أن الشرط أن يكون سفره لأجل دخول الحل وإلا فلا تحل له المجاوزة بلا إحرام . قال في النهر : الظاهر أن وجود ذلك القصد عند المجاوزة كاف ، ويدل على ذلك ما في البدائع بعد ما ذكر حكم المجاوزة بغير إحرام قال : هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير إحرام ، فأما إذا لم يرد ذلك وإنما أراد أن يأتي بستان بني عامر أو غيره لحاجة فلا شيء عليه ا هـ فاعتبر الإرادة عند المجاوزة كما ترى ا هـ أي إرادة الحج ونحوه و إرادة دخول البستان ، فالإرادة عند المجاوزة معتبرة فيهما . ولذا ذكر الشارح ذلك في الموضعين كما قدمناه فافهم . وقول البحر فلا بد من وجود قصد مكان مخصوص من الحل غير ظاهر ، بل الشرط قصد الحل فقط تأمل ( قوله على ما مر ) أي قريبا في قوله ظاهر ما في النهر عن البدائع إلخ ( قوله على المذهب ) مقابله ما قاله أبو يوسف إنه إن نوى إقامة خمسة عشر يوما في البستان فله دخول مكة بلا إحرام وإلا فلا ح عن البحر ( قوله له دخول مكة غير محرم ) أي إذا أراد دخول البستان لحاجة لا لدخول مكة ثم بدا له دخول مكة لحاجة له دخولها غير محرم كما في شرح ابن الشلبي ومنلا مسكين . قال في الكافي لأن وجوب الإحرام عند الميقات على من يريد دخول مكة وهو لا يريد دخولها ، وإنما يريد البستان وهو غير مستحق التعظيم فلا يلزمه الإحرام بقصد دخوله . ا هـ .

قلت : وهذا إذا أراد دخول مكة لحاجة غير النسك وإلا فلا يجاوز ميقاته إلا بإحرام ، ولذا قال قبيل فصل الإحرام عند ذكر المواقيت : وحل لأهل داخلها دخول مكة غير محرم ما لم يرد نسكا ( قوله ووقته البستان ) أي لو أراد النسك فميقاته للحج أو العمرة البستان ، يعني جميع الحل الذي بين المواقيت والحرم كما مر في بحث المواقيت فلو أحرم من الحرم لزمه دم ما لم يعد كما قدمناه قريبا عن النهر واللباب ، إلا إذا دخل الحرم لحاجة ثم أراد النسك فإنه يحرم من الحرم لأنه صار مكيا كما مر ( قوله ولا شيء عليه ) مرتبط بقوله له دخول مكة غير محرم ، فكان الأولى ذكره قبل قوله ووقته البستان ( قوله كما مر ) أي قبيل فصل الإحرام حيث قال : أما لو قصد موضعا من الحل كخليص وحدة حل له مجاوزته بلا إحرام ، فإذا حل به التحق بأهله . فله دخول مكة بلا إحرام ( قوله هذه حيلة لآفاقي إلخ ) أي إذا لم يكن مأمورا بالحج عن غيره كما قدمه الشارح هناك وقدمنا الكلام عليه . ثم إن هذه الحيلة مشكلة لما علمت من أنه لا يجوز له مجاوزة الميقات بلا إحرام ما لم يكن أراد دخول مكان في الحل لحاجة ، وإلا فكل آفاقي يريد دخول مكة لا بد أن يريد دخول الحل وقدمنا أن التقييد بالحاجة احتراز عما لو كان عند المجاوزة يريد دخول مكة وإنه إنما يجوز له دخولها بلا إحرام إذا بدا له بعد ذلك دخولها كما قدمناه عن شرح ابن الشلبي ومنلا مسكين . [ ص: 583 ]

فعلم أن الشرط لسقوط الإحرام أن يقصد دخول الحل فقط ، ويدل عليه أيضا ما نقلناه عن الكافي من قوله وهو لا يريد دخولها أي مكة ، وإنما يريد البستان ، وكذا ما نقلناه عن البدائع من قوله فأما إذا لم يرد ذلك وإنما أراد أن يأتي بستان بني عامر ، وكذا قوله في اللباب : ومن جاوز وقته يقصد مكانا من الحل ثم بدا له أن يدخل مكة فله أن يدخلها بغير إحرام فقوله ثم بدا له أي ظهر وحدث له يقتضي أنه لو أراد دخول مكة عند المجاوزة يلزمه الإحرام وإن أراد دخول البستان لأن دخول مكة لم يبد له بل هو مقصوده الأصلي ، وقد أشار في البحر إلى هذا الإشكال وأشار إلى جوابه بما تقدم عنه من أنه لا بد أن يكون قصد البستان من حين خروجه من بيته : أي بأن يكون سفره المقصود لأجل البستان لا لأجل دخوله مكة كما قدمناه . وأجاب أيضا في شرح اللباب بقوله والوجه في الجملة أن يقصد البستان قصدا أوليا ، ولا يضره دخول الحرم بعده قصدا ضمنيا أو عارضيا ، كما إذا قصد هندي جدة لبيع وشراء أولا ويكون في خاطره أنه إذا فرغ منه أن يدخل مكة ثانيا ، بخلاف من جاء من الهند بقصد الحج أولا ويقصد دخول جدة تبعا ولو قصد بيعا وشراء . ا هـ .

وهو قريب من جواب البحر لأن حاصله أن يكون المقصود من سفره البيع والشراء في الحل ويكون دخول مكة تبعا ، لكن ينافيه قولهم ثم بدا له دخول مكة فإنه يفيد أنه لا بد أن يكون دخولها عارضا غير مقصود لا أصالة ولا تبعا ، بل يكون المقصود دخول الحل فقط كما هو ظاهر جواب البحر وكلام الكافي والبدائع واللباب وغيرها ، وهذا مناف لقولهم إنه الحيلة لآفاقي يريد دخول مكة بلا إحرام لأنه إذا كان قصده دخول الحل فقط لم يحتج إلى حيلة إذا بدا له دخول مكة ، على أن هذا أيضا فيمن أراد دخول مكة لحاجة غير النسك ; أما لو أراد النسك فلا يحل له دخولها بلا إحرام لأنه إذا صار من أهل الحل فميقاته ميقاتهم وهو الحل كما مر مرارا ، فكيف من خرج من بيته لأجل الحج فافهم .




الخدمات العلمية