الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 611 ] ( وإن مات ) المأمور ( أو سرقت نفقته في الطريق ) قبل وقوفه ( حج من منزل آمره بثلث ما بقي ) من ماله ، فإن لم يف فمن حيث يبلغ فإن مات أو سرقت ثانيا حج من ثلث الباقي بعدها ، هكذا مرة بعد أخرى إلى أن لا يبقى من ثلثه ما يبلغ الحج ، فتبطل الوصية [ ص: 612 ] قلت : وظاهره أنه لا رجوع في تركة المأمور ، فليراجع ( لا من حيث مات ) خلافا لهما ، وقولهما استحسان . [ فروع ] يصير مخالفا بالقران أو التمتع كما مر لا بالتأخير عن السنة الأولى وإن عينت لأنه للاستعجال لا للتقييد والأفضل أن يعود إليه وعليه رد ما فضل من النفقة ، [ ص: 613 ] وإن شرطه له فالشرط باطل إلا أن يوكله بهبة الفضل من نفسه أو يوصي الميت به لمعين ، ولوارثه أن يسترد المال من المأمور ما لم يحرم وكذا إن أحرم وقد دفع إليه ليحج عنه وصيه فأحرم ثم مات الآمر . وللوصي أن يحج بنفسه إلا أن يأمره بالدفع أو يكون وارثا ولم تجز البقية . ولو قال : منعت وكذبوه لم يصدق إلا أن يكون أمرا ظاهرا ; ولو قال حججت وكذبوه صدق بيمينه إلا إذا كان مديون الميت وقد أمر بالإنفاق ; ولا تقبل بينتهم أنه كان يوم النحر بالبلد إلا إذا برهنا على إقراره أنه لم يحج .

التالي السابق


( قوله وإن مات إلخ ) الأنسب ذكر هذه المسألة عند قوله المار خرج المكلف إلخ ( قوله قبل وقوفه ) قيد به لأنه لو مات بعده قبل الطواف جاز عن الآمر لأنه أدى الركن الأعظم خانية وفتح ، وقدمنا نحوه عن التجنيس ، فما بحثه في البحر من أن أعظميته للأمن من الإفساد بعده لا لأنه يكفي فيجب على الآمر الإحجاج ا هـ مخالف للمنقول ; وأما لو بقي حيا وأتم الحج إلا طواف الزيارة فرجع ولم يطفه فقال في الفتح : لا يضمن النفقة غير أنه حرام على النساء ويعود بنفقة نفسه ليقضي ما بقي عليه لأنه جان في هذه الصورة ا هـ ( قوله من منزل آمره ) أي إن لم يعين منزلا وإلا اتبع كما مر ( قوله فإن مات ) أي المأمور الثاني ( قوله من ثلث الباقي بعدها ) أي بعد النفقة أي ثلث الباقي بعد هلاكها وهو المراد بقولهم بثلث ما بقي من المال فافهم ، وهذا عند الإمام ، وعند أبي يوسف بالباقي من الثلث وعند محمد بما بقي مع المأمور . [ ص: 612 ] مثاله : أوصى بأن يحج عنه ومات عن أربعة آلاف فدفع الوصي للمأمور ألفا فسرقت ، فعند الإمام يؤخذ ما يكفي من ثلث ما بقي من التركة وهو ألف ، فإن سرقت يؤخذ من ثلث الألفين الباقيين ، وهكذا إلى أن لا يبقى ما ثلثه يكفي الحج .

وعند أبي يوسف إذا سرق الألف الأول لم يبق من ثلث التركة إلا ثلثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث فتدفع له إن كفت ، ولا تؤخذ مرة أخرى . وعند محمد إن فضل من الألف الأولى ما يبلغ الحج حج به وإلا فلا ، هكذا ذكر الخلاف عامة المشايخ . وبعضهم قالوا : هذا إن أوصى بأن يحج عنه من الثلث أو بأن يحج عنه ولم يزد ، أما لو أوصى بأن يحج عنه بثلث ماله فقول محمد كقول أبي يوسف ، وتمامه في جامع قاضي خان والفتح ، وهذا الاختلاف إذا هلك في يد المأمور ، فلو في يد الوصي بعدما قاسم الورثة يحج عنه بثلث ما بقي اتفاقا كما في التتارخانية .

( قوله وظاهره أنه لا رجوع في تركة المأمور ) إن كان المراد أنه لا رجوع لورثة الآمر في تركة المأمور بما بقي معه فهذا بعيد جدا لأن ما بقي مع المأمور لا يملكه ، بل لو أتم الحج يجب عليه رد الفاضل كما يأتي ، فيصدق على هذا الباقي أنه من مال الآمر فيحسب من الثلث ، وقد صرح به القهستاني حيث قال بثلث الباقي مما في أيدي الورثة ، والمأمور وإن كان المراد أنه لا رجوع لهم بما أنفقه قبل موته أو بما سرق منه فهو لا شبهة فيه حيث لم يخالف كما مر فيما لو فاته الحج بغير صنعه وإن كان المراد أنه لا رجوع في تركته بما يدفع للمأمور الثاني ، فهذا هو المتبادر من قولهم بثلث ما بقي من ماله أي مال الآمر والظاهر أن هذا مراد الشارح نبه به على أنه لو فاته الحج بلا صنعه ولزمه القضاء يكون عن نفسه اتفاقا خلافا لما قدمناه من أن هذا ظاهر على قول محمد وأنه على قول غيره يكون القضاء عن الآمر وتلزم المأمور نفقته ، فإن مقتضاه أن المأمور إذا مات في الطريق ترجع ورثة الآمر على تركته بنفقة الذي يأمرونه بالحج عن مورثهم ، وهذا خلاف ما قرره الفقهاء هنا في المسألة الخلافية ، حيث جعلوا الإحجاج ثانيا بثلث ما بقي من جميع مال الآمر أو الباقي من الثلث أو بالباقي مع المأمور ، ولم يقل أحد إنه يكون من مال المأمور ، فينافي ما تقدم بحثا عن البدائع والسراج والنهر ، فلله در هذا الشارح ما أبعد مرماه فافهم ( قوله خلافا لهما ) أي في الموضعين فيما يدفع ثانيا ، وفي المحل الذي يجب الإحجاج منه ثانيا فتح ( قوله وقولهما استحسان ) يعني قولهما في المحل ، أما فيما يدفع ثانيا فلم يذكروا فيه الاستحسان .

وفي الفتح : قول الإمام في الأول : أي فيما يدفع ثانيا أوجه وقولهما هنا أوجه ، وقدمنا ما يفيد ترجيحه أيضا عن العناية والمعراج ، لكن قدمنا أيضا أن المتون على قول الإمام ونقل تصحيحه العلامة قاسم ( قوله كما مر ) أي في قوله وإلا فيصير مخالفا فيضمن ح ( قوله لا للتقييد ) لأن الحج لا يختلف باختلاف السنين ، ففي أي سنة حصل فيها وقع عنه ، ولا يخفى أن الأولى إيقاعه في السنة المعينة خوفا من ذهاب النفقة أو تعطل الحج ط ( قوله والأفضل أن يعود إليه ) أي إلى منزل الآمر المذكور في المتن . قال في البحر : ولو أحج رجلا فحج ثم أقام بمكة جاز لأن الفرض صار مؤدى والأفضل أن يحج ثم يعود إلى أهله ا هـ فافهم ( قوله وعليه رد ما فضل من النفقة ) قال في البحر : فالحاصل أن المأمور لا يكون مالكا لما أخذه من النفقة ، بل يتصرف فيه على ملك الآمر حيا كان أو ميتا معينا كان القدر أو لا ، ولا يحل له الفضل إلا بالشرط الآتي سواء كان الفضل كثيرا أو يسيرا كيسير من الزاد كما صرح به في الظهيرية ا هـ .

[ ص: 613 ] قلت : وهذا مما يدل على أن الاستئجار على الحج لا يصح عند المتأخرين كما قدمنا الكلام عليه فافهم ( قوله إلا أن يوكله إلخ ) قال في الفتح : وإذا أراد أن يكون ما فضل للمأمور يقول له وكلتك أن تهب الفضل من نفسك وتقبضه لنفسك ، فإن كان على موت قال والباقي مني لك وصية . ا هـ .

زاد في اللباب : وإن لم يعين الآمر رجلا يقول للوصي أعط ما بقي من النفقة من شئت ، وإن أطلق فقال وما يبقى من النفقة فهو للمأمور فالوصية باطلة . ا هـ .

أي لأنها لمجهول ( قوله ولوارثه إلخ ) هذه المسألة تقدمت عند قوله إن وفى به ثلثه ، لكن ذكرت في كل من الموضعين مع زيادة ، لم توجد في الآخر ففي الأول زاد الوصي ، والتفصيل في نفقة الرجوع وفي هذا زاد قوله كذا إن أحرم إلخ وكان عليه أن ينظمهما في سلك واحد ح ( قوله وكذا إن أحرم وقد دفع إليه ليحج عنه وصيه إلخ ) هذا التركيب فاسد المعنى . ووجد في نسخة ليحج عنه بلا وصية وهي الصواب لأن المراد أن المحجوج عنه إذا لم يوص بالحج ولكنه دفع إلى رجل ليحج عنه ثم مات الدافع فللورثة استرداد المال الباقي من الرجل ، وإن أحرم بالحج . قال في النهر : وقيدنا بكون الآمر أوصى بالحج عنه لما في المحيط : لو دفع إلى رجل مالا ليحج به عنه فأهل بحجة ثم مات الآمر فلورثته أن يأخذوا ما بقي من المال معه ويضمنونه ما أنفق بعد موته لأن نفقة الحج كنفقة ذوي الأرحام تبطل بالموت ا هـ ( قوله وللوصي أن يحج إلخ ) قال في فتح القدير : ولا يجوز الاستئجار على الطاعات ، وعن هذا قلنا لو أوصى أن يحج عنه ولم يزد على ذلك كان للوصي أن يحج عنه بنفسه إلا أن يكون وارثا ، أو دفعه لوارث ليحج فإنه لا يجوز إلا أن تجيز الورثة وهم كبار ، لأن هذا كالتبرع بالمال فلا يصح للوارث إلا بإجازة الباقين ; ولو قال الميت للوصي ادفع المال لمن يحج عني لم يجز له أن يحج بنفسه مطلقا . ا هـ .

( قوله ولو قال منعت ) أي عن الحج وكذبوه أي الورثة لم يصدق ويضمن ما أنفقه من مال الميت إلا أن يكون أمرا ظاهرا يشهد على صدقه . لأن سبب الضمان قد ظهر فلا يصدق في دفعه إلا بظاهر يدل على صدقه فتح ( قوله صدق بيمينه ) لأنه يدعي الخروج عن عهدة ما هو أمانة في يده فتح ( قوله إلا إلخ ) أي فإنه لا يصدق إلا ببينة لأنه يدعي قضاء الدين هكذا في كثير من الكتب وعليه المعول خلافا لما في خزانة الأكمل بحر ( قوله وقد أمر بالإنفاق ) أي مما عليه من الدين ط ( قوله ولا تقبل إلخ ) لأنها شهادة على النفي بحر : أي لأن مقصودهم نفي حجه وإن كانت صورة شهادتهم إثباتا ح ( قوله إلا إذا برهنا إلخ ) لأن إقراره وهو تلفظه بهذه الجملة إثبات ح ، وفي بعض النسخ برهنوا بصيغة الجمع : أي الورثة ، وهي أولى . [ تتمة ] في المحيط عن المنتقي : أوصى لرجل بألف وللمساكين بألف ولحجة الإسلام بألف والثلث ألفان يقسم الثلث بينهم أثلاثا ثم تضاف حصة المساكين إلى الحجة ، فما فضل عن الحجة فللمساكين لأن البداءة بالفرض أهم ; ولو عليه حجة وزكاة وأوصى لإنسان يتحاصون في الثلث ثم ينظر إلى الزكاة والحج فيبدأ بما بدأ به الموصي ; ولو فريضة ونذر بدئ بالفريضة ، ولو تطوع ونذر بدئ بالنذر ، ولو كلها تطوعات أو فرائض أو واجبات بدئ بما بدأ به الميت . ا هـ . [ ص: 614 ] وتوضيح هذه المسألة سيأتي في الوصايا فاحفظها فإنها مهمة كثيرة الوقوع ، وبقي فروع كثيرة من هذا الباب تعلم من الفتح واللباب ، والله أعلم بالصواب .




الخدمات العلمية