الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 341 ] باب التعليق ( هو ) لغة من علقه تعليقا قاموس : جعله معلقا . واصطلاحا ( ربط حصول مضمون جملة بحصول مضمون جملة أخرى ) ويسمى يمينا مجازا

[ ص: 342 ] وشرط صحته كون الشرط معدوما على خطر الوجود ; فالمحقق كإن كان السماء فوقنا تنجيز ، والمستحيل كإن دخل الجمل في سم الخياط لغو [ ص: 343 ] وكونه متصلا إلا لعذر وأن لا يقصد به المجازاة ، فلو قالت يا سفلة فقال : إن كنت كما قلت فأنت كذا [ ص: 344 ] تنجيز كان كذلك أو لا وذكر المشروط ، فنحو أنت طالق إن لغو به يفتى ووجود رابط حيث تأخر الجزاء كما يأتي

التالي السابق


باب التعليق

ذكره بعد بيان تنجيز الطلاق صريحا وكناية لأنه مركب من ذكر الطلاق والشرط ، فأخره عن المفرد نهر . مطلب فيما لو حلف لا يحلف فعلق

( قوله من علقه تعليقا ) كذا في البحر . والأولى أن يقول : وهو مصدر علقه جعله معلقا ط : أي لأن كلامه يوهم اشتقاق المصدر بيان المادة لإفادة أن المراد به لغة مطلق التعليق الشامل للحسي والمعنوي ( قوله واصطلاحا ربط إلخ ) فهو خاص بالمعنوي والمراد بالجملة الأولى في كلامه جملة الجزاء ، وبالثانية جملة الشرط ، وبالمضمون ما تضمنته الجملة من المعنى ، فهو في مثل إن دخلت الدار فأنت طالق ربط حصول طلاقها بحصول دخولها الدار ( قوله ويسمى يمينا مجازا ) لما في النهر من أن التعليق في الحقيقة إنما هو شرط وجزاء فإطلاق اليمين عليه مجاز لما فيه من معنى السببية . ا هـ . وفيه أن هذا بيان للجملة الشرطية المتضمنة للتعليق المعرف بالربط الخاص كما علمت ، وهذا الربط يسمى يمينا . قال في الفتح : إن اليمين في الأصل القوة ، وسميت إحدى اليدين باليمين لزيادة قوتها على الأخرى وسمي الحلف بالله تعالى يمينا لإفادته القوة على المحلوف عليه من الفعل أو الترك بعد تردد النفس فيه ، ولا شك في أن تعليق المكروه للنفس على أمر بحيث ينزل شرعا عند نزوله يفيد قوة الامتناع عن ذلك الأمر وتعليق المحبوب لها أي للنفس على ذلك يفيد الحمل عليه فكان يمينا ا هـ لكن هذا يحتمل أنه حقيقة أو مجاز في اللغة .

وفي أيمان البحر : ظاهر ما في البدائع أن التعليق يمين في اللغة أيضا ، قال : لأن محمدا أطلق عليه يمينا وقوله حجة في اللغة ا هـ فأفاد أنه يمين لغة واصطلاحا ، ولذا قال في معراج الدراية : اليمين يقع على الحلف بالله تعالى وعلى التعليق : قلت : لكن مقتضى كلام الفتح المار أن المراد به التعليق على أمر اختياري للمعلق ليفيد قوة الامتناع عن الأمر المحلوف عليه أو قوة الحمل عليه ، نحو : إن بشرتني بكذا فأنت حر فغيره من التعليق لا يسمى يمينا ، مثل إن طلعت الشمس أو إن حضت فأنت كذا ; لكن في تلخيص الجامع وشرحه للفارسي : لو حلف لا يحلف بيمين حنث بتعليق الجزاء بما يصلح شرطا ، سواء كان الشرط فعل نفسه أم فعل غيره أم مجيء الوقت ، كأنت طالق إن دخلت أو إن قدم زيد أو إذا جاء غد وكذا إذا جاء رأس الشهر ، أو إذا أهل الهلال والمرأة من ذوات الحيض دون الأشهر لوجود ركن اليمين وهو تعليق الجزاء ، ووجود اليمين شرط الحنث فيحنث ، إلا أن يعلق بعمل من أعمال القلب كإن شئت أو أردت أو أحببت أو هويت أو رضيت ، أو ، بمجيء الشهر كإذا جاء رأس الشهر والمرأة من ذوات الأشهر فلا يحنث .

أما الأول فلأنه مستعمل في التمليك ولذا يقتصر على المجلس فلم يتمحض للتعليق ، وأما الثاني فلأنه مستعمل في بيان وقت السنة لأن رأس الشهر في حقها وقت وقوع الطلاق السني فلم يتمحض للتعليق ، ولهذا لم يحنث بتعليق الطلاق بالتطليق كأنت طالق إن طلقتك لاحتمال إرادة الحكاية عن الواقع من كونه مالكا لتطليقها فلم يتمحض للتعليق ، ولا بقوله لعبده إن أديت إلي ألفا فأنت حر وإن عجزت فأنت رقيق وإن وجد [ ص: 342 ] الشرط والجزاء لأنه تفسير الكتابة فلم يتمحض للتعليق ، ولا بقوله أنت طالق إن حضت حيضة لأن الحيضة الكاملة لا وجود لها إلا بوجود جزء من الطهر فيقع في الطهر فأمكن جعله تفسيرا لطلاق السنة فلم يتمحض للتعليق وإنما لم نحنثه بما لم يتمحض للتعليق في هذه الصور ، لأن الحلف بالطلاق محظور ، وحمل كلام العاقل على وجه فيه إعدام المحظور أولى ، وقد أمكن حمله هنا على ما يحتمله من التمليك أو التفسير فلا يحمل على الحلف بالطلاق ، وإنما حنث في قوله إن حضت فأنت طالق لوجود شرط الحنث وهو اليمين بذكر ركنه وهو الجزاء والشرط وقوله إن حضت لا يصلح تفسيرا للطلاق البدعي لتنوع البدعي إلى أنواع فلم يمكن جعله تفسيرا بخلاف السني فإنه نوع واحد وإنما حنث فيما إذا قال لها أنت طالق إن طلعت الشمس مع أن معنى اليمين وهو الحمل أو المنع مفقود ومع أن طلوع الشمس متحقق الوجود لا يصلح شرطا لأنه لا خطر في وجوده . لأنا نقول : الحمل والمنع ثمرة اليمين وحكمته ، فقد تم الركن في اليمين دون الثمرة والحكمة ، إذ الحكم الشرعي في العقود الشرعية يتعلق بالصورة لا بالثمرة والحكمة ، ولذا لو حلف لا يبيع فباع فاسدا حنث لوجود ركن البيع وإن كان المطلوب منه وهو انتقال الملك غير ثابت ، ولا نسلم عدم الخطر لاحتمال قيام الساعة في كل زمان ا هـ ملخصا .

مطلب لا يحنث بتعليق الطلاق بالتطليق

وحاصله أن كل تعليق يمين سواء كان تعليقا على فعله أو فعل غيره أو على مجيء الوقت وإن لم توجد فيه ثمرة اليمين وهي الحمل أو المنع فيحنث به في حلفه لا يحلف إلا إذا أمكن صرفه عن صورة التعليق إلى جعله تمليكا أو تفسيرا لطلاق السنة أو لبيان الواقع أو للكتابة كما في هذه المسائل الخمس المستثناة كما سيأتي في كتاب الأيمان إن شاء الله تعالى ، وبهذا يتضح ما قاله في البحر من أن تعبير المصنف بالتعليق أولى من قول الهداية باب اليمين بالطلاق لأن التعليق يشمل الصوري كهذه الخمس ، وبعضها قد ذكر في هذا الباب مع أنها ليست يمينا كما علمت وقوله في النهر إنه لا يحنث فيها لأنها ليست يمينا عرفا فلا ينافي كونها يمينا في اصطلاح الفقهاء ساقط لما علمت من أن عدم الحنث فيها لعدم تمحضها تعليقا وأنها ليست يمينا عندهم . وأيضا لو كان ذلك مبنيا على العرف فما الفرق في العرف بين إن حضت وإن حضت حيضة حتى كان الأول يمينا دون الثاني ( قوله كون الشرط ) أي مدلول فعل الشرط ( قوله على خطر الوجود ) أي مترددا بين أن يكون وأن لا يكون لا مستحيلا ولا متحققا لا محالة لأن الشرط للحمل والمنع وكل منهما لا يتصور فيهما شرح التحرير ( قوله فالمحقق ) محترز قوله معدوما ح ( قوله تنجيز ) ليس على إطلاقه بل فيما لبقائه حكم ابتدائه كقوله لعبده إن ملكتك فأنت حر عتق حين سكت ، وقوله لها إن أبصرت أو سمعت أو صححت وهي بصيرة أو سميعة أو صحيحة طلقت الساعة لأن ذلك أمر يمتد ، فكان لبقائه حكم الابتداء ، بخلاف إن حضت أو مرضت وهي حائض أو مريضة فعلى حيضة مستقبلة لأن الحيض والمرض مما لا يمتد أفاده في البحر .

ووجهه كما في الخانية أن الحيض والمرض وإن كان يمتد إلا أن الشرع لما علق بالجملة أحكاما لا تتعلق بكل جزء منه فقد جعل الكل شيئا واحدا فافهم ( قوله والمستحيل ) محترز قوله على خطر الوجود ح ( قوله لغو ) فلا يقع أصلا لأن غرضه منه تحقيق النفي حيث علقه بأمر محال ، وهذا يرجع إلى قولهما إمكان البر شرط انعقاد اليمين خلافا لأبي يوسف وعلى هذا ظهر ما في الخانية : لو قال لها إن لم تردي علي الدينار الذي أخذتيه من كيسي فأنت [ ص: 343 ] طالق فإذا الدينار في كيسه لا تطلق بحر ، ومنه ما في القنية : سكران طرق الباب فلم يفتح له فقال إن لم تفتحي الباب الليلة فأنت طالق ولم يكن في الدار أحد لا تطلق نهر ومنه مسائل ستأتي في الفروع آخر الباب .

مطلب إن لم تتزوجي بفلان فأنت طالق .

[ تنبيه ] في فتاوى الكازروني عن فتاوى المحقق عبد الرحمن المرشدي أنه سئل عمن قال لزوجته أنت طالق إن لم تتزوجي بفلان فأجاب لا خفاء في أن مراد الزوج بهذا التعليق إنما هو عدم تزوجها بفلان بعد زوال سلطانه عنها بانفصال العصمة وانقضاء العدة وهي حينئذ في غير ملكه فيكون لغوا فيلغو الشرط ويبقى قوله أنت طالق فتطلق منجزا كما اختاره بعض المتأخرين من علماء اليمن ، بناء على استحالة وجود الشرط المعلق عليه الطلاق حالة بقائها في عصمة الزوج واختار بعض منهم صحة التعليق وجعله ممكنا وأوقع الطلاق في آخر جزء من حياته أو حياتها لأنه في معنى العدم والعدم متحقق مستمر ، لكنه لما علقه بالمستقبل صلح جميع زمان الاستقبال لوجوده فلا يتعين له وقت آخر إلى أن ينتهي إلى آخر جزء من الحياة فيتضيق فيقع . ولحظ بعضهم أنه شرط إلزامي فكأنه يريد إلزامها بعدم تزوجها بفلان وهو إلزام ما لا يلزم ، فيلغو ويقع الطلاق منجزا .

أقول : ولو قيل بأن مراد الزوج التعليق بعدم إرادتها التزوج بفلان بعد الطلاق صونا لكلام العاقل عن الإلغاء لم يبعد ويكون في ذلك القول قولها مع يمينها كما في نظائره من الأمور القلبية ، نحو إن كنت تحبيني ، فإن قالت له لم أرد التزوج به بعدك وقع الطلاق وإلا فلا ا هـ ملخصا . ثم نقل الكازروني هذه المسألة ثانيا عن الحدادي صاحب الجوهرة وأنه أجاب عنها سراج الدين الهاملي رواية عن شيخه علي بن نوح بأنها تطلق وتتزوج من أرادت . قال الكازروني : وهو الذي ينبغي أن يعول عليه : أي بناء على أنه تعليق بمستحيل أو شرط إلزامي ، ( قوله وكونه متصلا إلخ ) أي بلا فاصل أجنبي وسيأتي الكلام عليه عند قوله قال لها أنت طالق إن شاء الله متصلا .

مطلب التعليق المراد به المجازاة دون الشرط

( قوله وأن لا يقصد به المجازاة إلخ ) قال في البحر : فلو سبته بنحو قرطبان وسفلة ، فقال : إن كنت كما قلت فأنت طالق تنجز ، سواء كان الزوج كما قالت أو لم يكن لأن الزوج في الغالب لا يريد إلا إيذاءها بالطلاق ، فإن أراد التعليق يدين وفتوى أهل بخارى عليه كما في الفتح ا هـ يعني على أنه للمجازاة دون الشرط كما رأيته في الفتح وكذا في الذخيرة . وفيها والمختار والفتوى أنه إن كان في حالة الغضب فهو على المجازاة وإلا فعلى الشرط ا هـ ومثله في التتارخانية عن المحيط . وفي الولوالجية : إن أراد التعليق لا يقع ما لم يكن سفلة ، وتكلموا في معنى السفلة . عن أبي حنيفة أن المسلم لا يكون سفلة إنما السفلة الكافر وعن أبي يوسف أنه الذي لا يبالي ما قال وما قيل له . وعن [ ص: 344 ] محمد أنه الذي يلعب بالحمام ويقامر . وقال خلف : إنه من إذا دعي لطعام يحمل من هناك شيئا والفتوى على ما روي عن أبي حنيفة لأنه هو السفلة مطلقا . ا هـ . والقرطبان الذي لا غيرة له ( قوله تنجيز ) الأولى تنجز بصيغة الماضي لأنه جواب قوله فلو قال ( قوله وذكر المشروط ) أي فعل الشرط لأنه مشروط لوجود الجزاء ( قوله لغو ) أي فلا تطلق لأنه ما أرسل الكلام إرسالا وكذا لو قال أنت طالق ثلاثا لولا أو إلا أو إن كان أو إن لم يكن بحر ( قوله به يفتى ) هو قول أبي يوسف . وقال محمد تطلق للحال بحر ( قوله ووجود رابط ) أي كالفاء وإذا الفجائية ح ( قوله كما يأتي ) أي عند قوله وألفاظ الشرط ح




الخدمات العلمية