الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لو زفت إليه بلا جهاز يليق به فله مطالبة الأب بالنقد إلا إذا سكت انتهى . وعليه فلو زفت به إليه لا يحرم عليه الانتفاع به وفي عرفنا يلتزمون كثرة المهر لكثرة الجهاز وقلته لقلته ولا شك أن المعروف كالمشروط فينبغي العمل بما مر كذا في النهر . وفيه عن قضاء البحر : هل تقدير القاضي للنفقة حكم منه ؟ قلت : نعم ; لأن طلب التقدير بشرطه دعوى فلا تسقط بمضي المدة . ولو فرض لها كل يوم أو كل شهر هل يكون قضاء ما دام النكاح ؟ - [ ص: 586 ] قلت : نعم إلا لمانع ، ولذا قالوا الإبراء قبل الفرض باطل وبعده يصح مما مضى ومن شهر مستقبل ، حتى لو شرط في العقد أن النفقة تكون من غير تقدير والكسوة كسوة الشتاء والصيف لم يلزم فلها بعد ذلك طلب التقدير فيهما . ولو حكم بموجب العقد مالكي يرى ذلك فللحنفي تقديرها لعدم الدعوى والحادثة . - [ ص: 587 ] بقي لو حكم الحنفي بفرضها دراهم هل للشافعي بعده أن يحكم بالتموين ؟ قال الشيخ قاسم في موجبات الأحكام : لا ، وعليه فلو حكم الشافعي بالتموين ليس للحنفي الحكم بخلافه فليحفظ ، نعم لو اتفقا بعد الفرض على أن تأكل معه تموينا بطل الفرض السابق لرضاها بذلك . وفي السراجية : قدر كسوتها دراهم ورضيت وقضى به هل لها أن ترجع وتطلب كسوة قماشا ؟ أجاب نعم ، وقالوا : ما بقي من النفقة لها فيقضى بأخرى ، بخلاف إسراف وسرقة وهلاك ونفقة محرم وكسوة ، إلا إذا تخرقت - [ ص: 588 ] بالاستعمال المعتاد أو استعملت معها أخرى فيفرض أخرى .

التالي السابق


مطلب فيما لو زفت إليه بلا جهاز ( قوله بلا جهاز يليق به ) الضمير في عبارة البحر عن المبتغى عائد إلى ما بعثه الزوج إلى الأب من الدراهم والدنانير ; ثم قال : والمعتبر ما يتخذ للزوج لا ما يتخذ لها . ا هـ وقدمنا في باب المهر أن هذا المبعوث إلى الأب يسمى في عرف الأعاجم بالدستيمان وأنه في الكافي وغيره فسره بالمهر المعجل ، وأن غيره فصل ، وقال : إن أدرج في العقد فهو المهر المعجل حتى ملكت المرأة منع نفسها لاستيفائه فلا يملك الزوج طلب الجهاز ; لأن الشيء لا يقابله عوضان وإن لم يدرج فيه ولم يعقد عليه فهو كالهبة بشرط العوض ، فله طلب الجهاز على قدر العرف والعادة أو طلب الدستيمان ، وبذلك يحصل التوفيق بين القولين ( قوله فله مطالبة الأب بالنقد ) أي المنقود ، وهو ما بعثه إلى الأب لا على كونه من المهر ، بل على كونه بمقابلة ما يتخذ للزوج في الجهاز لما علمت من أنه هبة بشرط العوض فله الرجوع بها عند عدم المعوض فافهم ( قوله إلا إذا سكت ) أي زمانا يعرف به رضاه ( قوله وعليه ) أي يبتني على ما ذكر من أن له المطالبة به ; لأنه يصير ملكه حين تسلمه بعد الزفاف ( قوله فينبغي العمل بما مر ) أي من أنه لا يحرم الانتفاع به بلا إذنها .

وأما ما ذكره صاحب النهر هناك عن البزازية من أن الصحيح أنه لا يرجع على الأب بشيء ; لأن المال في النكاح غير مقصود . ا هـ فهو مبني على أن ذلك المعجل أدرك في العقد بدليل التعليل بأن المال وهو الجهاز غير مقصود في النكاح ; لأن المهر يجعل بدلا عن البضع وحده . لا يقال : إنه وإن أدرج في العقد يعتبر بدلا عن الجهاز أيضا بحكم العرف فصار المعقود عليه كلا منهما . ; لأنا نقول يلزم منه فساد التسمية لعدم العلم بما يخص كل واحد منهما . وأيضا حيث صرح بجعله مهرا وهو بدل البضع لا يعتبر المعنى ، على أن هذا العرف غير معروف في زماننا ، فإن كل أحد يعلم أن الجهاز ملك المرأة وأنه إذا طلقها تأخذه كله ، وإذا ماتت يورث عنها ولا يختص بشيء منه وإنما المعروف أنه يزيد في المهر لتأتي بجهاز كثير ليزين به بيته وينتفع به بإذنها ويرثه هو وأولاده إذا ماتت ، كما يزيد في مهر الغنية لأجل ذلك لا ليكون الجهاز كله أو بعضه ملكا له ولا ليملك الانتفاع به وإن لم تأذن فافهم ( قوله هل تقدير القاضي ) أي من غير قوله حكمت بذلك ط . والظاهر أنه بالدال هنا وفيما بعده من المواضع ويصح بالراء ، وكان ينبغي ذكر هذه المسائل عند قول المصنف الآتي والنفقة لا تصير دينا إلا بالقضاء أو الرضا ( قوله بشرطه ) هو شكوى المطل . وحضور الزوج ، وكونه غير صاحب مائدة ط ( قوله فلا تسقط ) أي النفقة ، وهذا تفريع على كونه حكما ح ( قوله هل يكون قضاء إلخ ) قال [ ص: 586 ] في البحر : ومسألة الإبراء أي الآتية قريبا تدل على أن الفرض في الشهر الأول منجز وفيما بعده مضاف فيتنجز بدخوله وهكذا . ا هـ . ( قوله إلا لمانع ) كنشوزها فتسقط في مدته كما مر ، وكتغير السعر غلاء أو رخصا فتنقص أو تزاد ( قوله ولذا ) أي لما علم مما سبق أن النفقة تصير دينا بالقضاء ولا تسقط بمضي المدة ط ( قوله قبل الفرض ) يشمل الفرض بالقضاء أو بالرضا ، وقوله باطل ; لأنها لا تصير دينا بدون الفرض المذكور ، فليس في كلامه قصور فافهم .

مطلب في الإبراء عن النفقة [ تنبيه ] يستثنى من ذلك ما لو خالعها على أن تبرئه من نفقة العدة كما قدمناه في بابه ; لأنه إبراء بعوض وهو استيفاء قبل الوجوب فيجوز ، أما الأول فهو إسقاط للشيء قبل وجوبه فلا يجوز كما في الفتح ( قوله ومن شهر مستقبل ) أي إذا كانت مفروضة بالأشهر ، فلو بالأيام يبرأ من نفقة يوم مستقبل ، وكذا لو بالسنين يبرأ عن نفقة سنة مستقبلة كما هو ظاهر . والظاهر أن المراد بالمستقبل ما دخل أوله ; لأنه إنما يتنجز بدخوله كما علمته آنفا ، وقبل دخول حكمه حكم ما بعده من الأشهر المستقبلة ، ويؤيده ما في البحر : وكذا لو قالت أبرأتك عن نفقة سنة لم يبرأ إلا من نفقة شهر واحد ; لأن القاضي لما فرض نفقة كل شهر فإنما فرض لمعنى يتجدد بتجدد الشهر ; فما لم يتجدد الشهر لا يتجدد الفرض وما لم يتجدد الفرض لا تصير نفقة الشهر الثاني واجبة إلخ .

وحاصله أن النفقة تفرض لمعنى الحاجة المتجددة ، فإذا فرضت كل شهر كذا صارت الحاجة متجددة بتجدد كل شهر ، فقبل تجدده لا يتجدد الفرض فلم تجب النفقة قبله ، ولا يصح الإبراء عما لم يجب ، ومقتضاه أنه لو فرضها كل سنة كذا صح الإبراء عن سنة دخلت لا عن أكثر ولا عن سنة لم تدخل ، هذا ما ظهر لي فتدبره ( قوله حتى لو شرط ) تفريع على مفهوم كون تقدير القاضي النفقة حكما منه . ا هـ ح ، والمفهوم هو كونها بدون تقدير القاضي لا تكون لازمة ، وفيه أنها تلزم بالتراضي على قدر معلوم وتصير به دينا في ذمة الزوج فيتعين كونه تفريعا على مفهوم قوله الإبراء قبل الفرض باطل ، وقد علمت أن الفرض شامل للقضاء والرضا ; لأن الفرض معناه التقدير وهو حاصل بكل منهما ، ومفهوم أنها قبل الفرض المذكور لا تكون لازمة ; لأن الشرط المذكور ليس فيه تقدير كما يظهر قريبا فافهم ( قوله تكون من غير تقدير ) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها تموين بدل تكون ، فقوله من غير تقدير تفسير للتموين ( قوله والكسوة كسوة الشتاء والصيف ) أي يأتيها بالكسوة الواجبة في كل نصف حول ، بأن يأتيها بها ثيابا بلا تقويم وتقدير بدراهم بدل الثياب فافهم .

( قوله لم يلزم إلخ ) كذا ذكره في البحر بحثا . ووجهه أن ذلك الشرط وعدمه سواء ; لأن ذلك هو الواجب عليه بنفس العقد سواء شرطه أو لا ، وإنما يعدل إلى التقدير بشيء معين بالصلح والتراضي أو بقضاء القاضي إذا ظهر له مطله ، فتصير النفقة بذلك لازمة عليه ودينا بذمته حتى لا تسقط بمضي المدة ويصح الإبراء عنها وقبل ذلك لا تصير كذلك كما علمت ( قوله فلها بعد ذلك إلخ ) أي بعد ما ذكر من الشرط طلب التقدير في النفقة والكسوة من الزوج أو القاضي بشرطه المار ( قوله ولو حكم بموجب العقد مالكي إلخ ) أي لو ترافعا إلى مالكي بعد المنازعة في صحة العقد فقال حكمت بصحته وصحة شروطه [ ص: 587 ] وبموجبه : أي بما يستوجبه العقد ويقتضيه من لزوم المهر ولزم تسليمها نفسها ونحوه صح الحكم ، لكن للحنفي تقدير النفقة دراهم وإن كان مذهب المالكي لزوم الشرط بالتموين ; لأن ذلك لم يصح حكم المالكي فيه إذ لا بد في صحة الحكم من الدعوى والحادثة : أي ترافعهما لديه في الحادثة التي يحكم بها ، ولم يقع بينهما تنازع في صحة اشتراط التموين حتى يصح حكمه به وإن قال حكمت بشروطه وموجبه ، إذ ليس لزوم اشتراط التموين من موجبات العقد اللازمة له فللحنفي الحكم بخلافه .

( قوله بقي لو حكم الحنفي ) أي حكما مستوفيا شرائطه كما مر ( قوله لا ) أي ليس للشافعي الحكم بالتموين ; لأن فيه إبطال قضاء الحنفي ط ( قوله وعليه إلخ ) هذا بحث لصاحب النهر ط ( قوله فلو حكم الشافعي بالتموين ) بأن ترافعا إليه وطلبت منه التقدير وأبى ولم يظهر للقاضي مطله فحكم لها بالتموين لم يكن للحنفي نقضه . قلت : إلا أن يظهر بعد ذلك مطله ، فيفرضها دراهم لكون ذلك حادثة أخرى غير التي حكم بها الشافعي ( قوله بطل الفرض السابق ) أي الفرض الحاصل بالقضاء أو بالرضا ( قوله لرضاها بذلك ) ; لأن الفرض كان حقها لكونه أنفع لها فإن النفقة تصير به دينا في ذمته فلا تسقط بالمضي ، فإذا اتفقا على التموين في المستقبل يكون إعراضا عن الفرض السابق ، وهذه المسألة ذكرها في البحر بحثا وقال إنها كثيرة الوقوع .

وقد أخذها مما في الذخيرة : لو صالحته على ثلاثة دراهم كل شهر قبل التقدير بالقضاء أو الرضا أو بعده كان تقديرا للنفقة ، فتجوز الزيادة عليه لو قالت لا يكفيني ، والنقصان عنه لو قال لا أطيقه وعلم القاضي صدقه بالسؤال عنه وإلا لا ; لأن التزامه ذلك باختياره دليل قدرته عليه ولو صالحته على نحو ثوب أو عبد مما لا يصح للقاضي أن يفرضه في النفقة ، فإن كان قبل التقدير بالقضاء أو الرضا كان تقديرا أيضا ، وإن كان بعده كان معاوضة فلا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان . ا هـ ملخصا . قال في البحر : وعلم منه أن تراضيهما على ما يصلح للنفقة مبطل لفرض القاضي ، فيستفاد منه أنهما لو اتفقا إلخ ( قوله وفي السراجية إلخ ) أي فتاوى سراج الدين قارئ الهداية وهذا مخالف لما قاله الشيخ قاسم ، وكون ذاك مفروضا في النفقة وهذا في الكسوة لا يجدي نفعا في الفرق تأمل .

وقد يجاب بأن ذاك في فرض القاضي وهذا في التراضي بدليل قوله ورضيت ، وقوله وقضى به لم يرد به القضاء الحقيقي بل الصوري ; لأن التقدير صح بتراضيهما قبل القضاء ، وأيضا فإن شرط القضاء ظهور المطل وبمجرد التراضي لم يظهر مطل ، وحينئذ فرجوعها وطلب الكسوة قماشا ليس فيه إبطال قضاء سابق بل فيه إعراض عن حقها لكون التقدير برضاهما أنفع لها كما مر في فرض القاضي ، ويظهر من هذا أن قوله السابق لو اتفقا إلخ غير قيد بل يكفي طلبها . ويظهر منه أيضا أنه لا فرق بين كون طلبها بعد الفرض والتقدير بالقضاء أو الرضا ولذا ذكر ما في السراجية عقب قوله لو اتفقا إلخ ، لكن يشكل على هذا ما مر عن الشيخ قاسم فإنه إذا لم يصح حكم الشافعي بالتموين بعد حكم الحنفي بالتقدير بالدراهم فعدم صحة طلبها بدون حكم يكون بالأولى فليتأمل .

( قوله وقالوا إلخ ) الأصل أن القاضي إذا ظهر له الخطأ في التقدير يرده وإلا فلا فلو قدر لها عشرة دراهم نفقة شهر فمضى [ ص: 588 ] الشهر وبقي منها شيء يفرض لها عشرة أخرى إذا لم يظهر خطؤه في التقدير بيقين لجواز أنها قترت على نفسها فيبقى التقدير معتبرا فيقضي لها بأخرى ، بخلاف ما إذا أسرفت فيها أو سرقت أو هلكت قبل مضي الوقت لا يقضي بأخرى ما لم يمض الوقت لعدم ظهور الخطأ ، بخلاف نفقة المحرم وكذا كسوته فإنه إذا مضى الوقت وبقي شيء لا يقضي بأخرى ; لأنها في حقه باعتبار الحاجة ، ولذا لو ضاعت منه يفرض له أخرى ، وفي حق المرأة معاوضة عن الاحتباس . وبخلاف كسوة المرأة فإنها لا يقضى لها بأخرى إلا إذا تخرقت قبل مضي المدة بالاستعمال المعتاد فيقضي لها بأخرى قبل تمام المدة لظهور خطئه في التقدير حيث وقت وقتا لا تبقى معه الكسوة ، وإلا إذا مضت المدة وهي باقية لكونها استعملت أخرى معها فيقضي لها بأخرى أيضا لعدم ظهور الخطأ ، ومثله ما إذا لم تستعملها أصلا وسكت عنه الشارح لعلمه بالأولى .

وفهم من كلامه أنها إذا تخرقت قبل مضي المدة باستعمال غير معتاد لا يقضي بأخرى ما لم تمض المدة لعدم ظهور الخطأ في التقدير ، وأنها إذا بقيت في المدة مع استعمالها وحدها فكذلك لا يقضي لها بأخرى ما لم تتخرق لظهور خطئه حيث وقت وقتا تبقى الكسوة بعده ، وتمام الكلام في البحر عن الذخيرة .




الخدمات العلمية