الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 594 ] ( والنفقة لا تصير دينا إلا بالقضاء أو الرضا ) أي اصطلاحهما على قدر معين أصنافا أو دراهم ، فقبل ذلك لا يلزم شيء ، وبعده ترجع بما أنفقت ولو من مال نفسها بلا أمر قاض .

ولو اختلفا في المدة - [ ص: 595 ] فالقول له والبينة عليها . ولو أنكرت إنفاقه فالقول لها بيمينها ذخيرة ( وبموت أحدهما وطلاقها ) ولو رجعيا ظهيرية وخانية واعتمد في البحر بحثا عدم سقوطها بالطلاق ، لكن اعتمد المصنف ما في جواهر الفتاوى ، والفتوى عدم سقوطها بالرجعي كي لا يتخذ الناس ذلك حيلة واستحسنه محشي الأشباه ، وبالأول أفتى شيخنا الرملي ، لكن صحح الشرنبلالي في شرحه للوهبانية ما بحثه في البحر من عدم السقوط ولو بائنا قال وهو الأصح ورد ما ذكره ابن الشحنة فيتأمل عند الفتوى ( يسقط المفروض ) [ ص: 596 ] ; لأنها صلة ( إلا إذا استدانت بأمر القاضي ) فلا تسقط بموت أو طلاق في الصحيح لما مر أنها كاستدانته بنفسه . وعبارة ابن الكمال : إلا إذا استدانت بعد فرض قاض آخر ولو بلا أمره فليحرر . ( ولا ترد ) النفقة والكسوة ( المعجلة ) بموت أو طلاق عجلها الزوج أو أبوه ولو قائمة به يفتى .

التالي السابق


مطلب لا تصير النفقة دينا إلا بالقضاء أو الرضا ( قوله والنفقة لا تصير دينا إلخ ) أي إذا لم ينفق عليها بأن غاب عنها أو كان حاضرا فامتنع فلا يطالب بها بل تسقط بمضي المدة . قال في الفتح : وذكر في الغاية معزوا إلى الذخيرة أن نفقة ما دون الشهر لا تسقط فكأنه جعل القليل مما لا يمكن الاحتراز عنه ، إذ لو سقطت بمضي يسير من الزمان لما تمكنت من الأخذ أصلا . ا هـ ومثله في البحر ، وكذا في الشرنبلالية عن البرهان ووجهه في غاية الظهور لمن تدبر فافهم .

ثم اعلم أن المراد بالنفقة نفقة الزوجة ، بخلاف نفقة القريب فإنها لا تصير دينا ولو بعد القضاء والرضا ، حتى لو مضت مدة بعدهما تسقط كما يأتي وسيأتي أن الزيلعي استثنى نفقة الصغير ويأتي تمام الكلام عليه عند قول المصنف قضى بنفقة غير الزوجة إلخ ( قوله إلا بالقضاء ) بأن يفرضها القاضي عليه أصنافا أو دراهم أو دنانير نهر ( قوله فقبل ذلك لا يلزمه شيء ) أي لا يلزمه عما مضى قبل القرض بالقضاء أو الرضا ولا عما يستقبل ; لأنه لم يجب بعد ، ولذا لا يصح الإبراء عنها قبل الفرض وبعده يصح مما مضى ، ومن شهر مستقبل كما تقدم قبل قوله ولخادمها وأما الكفالة بها شهرا أو أكثر فصرح في البحر هنا عن الذخيرة أنها لا تصح قبل الفرض والتراضي ، ونقل بعده عن الذخيرة أيضا ما يخالفه ، وقدمنا الكلام عليه والتوفيق بين كلاميه ( قوله وبعده ) أي وبعد القضاء أو الرضا ترجع ; لأنها بعده صارت ملكا لها كما قدمناه ، ولذا قال في الخانية : لو أكلت من مالها أو من المسألة ، لها الرجوع بالمفروض . ا هـ . وكذا لو تراضيا على شيء ثم مضت مدة ترجع بها ولا تسقط . قال في البحر : فهذا هو المراد بقولهم أو الرضا ، فأما ما توهمه بعض حنفية العصر من أن المراد به أنه إذا مضت مدة بغير فرض ولا رضا ثم رضي الزوج بشيء فإنه يلزمه فخطأ ظاهر لا يفهمه من له أدنى تأمل . ا هـ ومقتضاه أنه لا يلزمه شيء بهذا الرضا لكون ما مضى قبله لم يجب عليه فهو التزام ما لم يلزم ، وإنما يلزمه ما يمضي بعد الرضا ; لأنه صار واجبا به كالقضاء ، وأطلق في الرجوع فشمل ما إذا شرط الرجوع لها أو لا كما هو ظاهر المتون والشروح . وأما ما في الخانية والظهيرية من أن القاضي إذا فرض لها النفقة فقال الزوج استقرضي كل شهر كذا وأنفقي لا ترجع ما لم يقل وترجعي بذلك علي فلعل المراد لا ترجع بما استقرضت بل بالمفروض فقط وإلا فهو غلط محض أفاده في البحر . وأجاب المقدسي بأن التوكيل في القرض لا يصح ، وإذا شرط الرجوع يكون كالاصطلاح على هذا المقدار فترجع به ، وكذا أجاب الخير الرملي بأنه لما لم يصح الأمر بالاستقراض عليه صارت مستقرضة على نفسها متبرعة إن لم يشترط الرجوع عليه .

[ تنبيه ] أطلق النفقة فشمل نفقة العدة إذا لم تقبضها حتى انقضت العدة : ففي الفتح أن المختار عند الحلواني أنها لا تسقط ، وسنذكر عن البحر أن الصحيح السقوط وأنه لا بد من إصلاح المتون هنا لإطلاقها عدم السقوط ، وأن هذا كله في غير المستدانة وسيأتي تمام الكلام فيه ( قوله ولو اختلفا في المدة ) أي في قدر ما مضى منها [ ص: 595 ] من وقت القضاء أو الرضا ، وكذا لو اختلفا في قدر النفقة أو جنسها كما في البزازية ( قوله فالقول له ) ; لأنها تدعي زيادة دين وهو ينكر ، فالقول له مع يمينه ذخيرة .

( قوله وبموت أحدهما وطلاقها ) وكذا بنشوزها كما قدمه الشارح بقوله وتسقط به : أي بالنشوز المفروضة لا المستدانة في الأصح كالموت . ا هـ وموت أحدهما غير قيد فكذا موتهما بالأولى كما لا يخفى . قال الخير الرملي : وقيد السقوط بالطلاق شيخنا الشيخ محمد بن سراج الدين الحانوتي بما إذا مضى شهر يعني فأزيد ، وهو قيد لا بد منه تأمل . ا هـ . ( قوله واعتمد في البحر بحثا إلخ ) فإنه أولا نقل السقوط بالطلاق عن النقاية والجوهرة والخانية والظهيرية والمجتبى والذخيرة ، وأن القاضي أبا علي النسفي نص على أن ذلك مروي ، وأنه أفتى به الصدر الشهيد والإمام ظهير الدين المرغيناني ، وشبهه بالذمي إذا اجتمع عليه خراج رأسه ثم أسلم يسقط عنه ما اجتمع عليه . ثم قال : فقد ظهر من هذا أن الراجح عندهم سقوطها بالطلاق كالموت . ثم قال بعده قال العبد الضعيف : ينبغي ضعف القول بسقوطها بالطلاق ولو بائنا لأمور ، وذكر ثلاثة اثنان منها ضعيفان ، وقال الثالث وهو أقواها ما في البدائع من الخلع لو قال : خالعتك ونوى الطلاق يقع الطلاق ولا يسقط شيء من المهر والنفقة . قال فهذا صريح في المسألة ، وفي البدائع أيضا : ولا خلاف بينهم في الطلاق على مال أنه لا يبرأ به عن سائر الحقوق التي وجبت لها بسبب النكاح . ا هـ فالذي يتعين المصير إليه على كل مفت وقاض اعتماد عدم السقوط خصوصا ما تضمنه القول بالسقوط من الإضرار بالنساء ا هـ ملخصا . ورد عليه العلامة المقدسي والخير الرملي بإمكان حمل ما في البدائع من الحقوق التي لا تسقط على المهر ونفقة ما دون الشهر والنفقة المستدانة بأمر ، وبأن هذه الرواية قد أفتى بها من تقدم وذكرت في المتون كالوقاية والنقاية والإصلاح والغرر وغيرها ، قال المقدسي : ولهذا توقفت كثيرا في الفتوى بالسقوط وظفرت بنقل صريح في تصحيح عدم السقوط في خزانة المفتين . وفي الجواهر أنه لا ينبغي أن يفتى بسقوطها بالطلاق الرجعي لئلا يتخذها الناس وسيلة لقطع حق النساء . ا هـ والذي يتعين المصير إليه أن يقال : يتأمل عند الفتوى كما جرت به عادة المشايخ في هذا المقام . ا هـ ملخصا

( قوله لكن إلخ ) استدراك على إطلاق الطلاق الشامل للبائن والرجعي بتخصيص السقوط بالبائن وعدمه بالرجعي ( قوله والفتوى إلخ ) هذه عبارة جواهر الفتاوى كما في المنح فيكون بدلا من ما . ا هـ . ح . وفي هذه العبارة مخالفة لما نقله المقدسي عنها ( قوله وبالأول ) أي بالسقوط بالطلاق مطلقا ح ( قوله أفتى شيخنا ) يعني الخير الرملي : قال في الخيرية بعد عزوه إلى الخلاصة والبزازية وكثير من الكتب وأفتى به الشيخ زين الدين بن نجيم ووالد شيخنا الشيخ أمين الدين ، وهي في فتاويهما ( قوله لكن صحح الشرنبلالي إلخ ) وعبارته : المرأة إذا طلقت وقد تجمد لها نفقة مفروضة ، قيل تسقط وهو غير المختار .

وأشار إليه المصنف : أي ابن وهبان بصيغة قيل . والأصح عدم السقوط ولو كان الطلاق بائنا لئلا يتخذ حيلة لسقوط حقوق النساء ، وما ذكره الشارح أي ابن الشحنة غير التحقيق في المسألة . ا هـ ويوافقه ما في القهستاني عن خزانة المفتين أن المفروضة لا تسقط بالطلاق على الأصح . ا هـ . ط ( قوله فيتأمل عند الفتوى ) بأن ينظر في حال الرجل هل فعل ذلك تخلصا [ ص: 596 ] من النفقة أو لسوء أخلاقها مثلا ، فإن كان الأول يلزم بها ، وإن كان الثاني لا يلزم ، وهذا ما قاله المقدسي وينبغي التعويل عليه ط .

( قوله لأنها صلة ) أي والصلات تبطل بالموت قبل القبض هداية ، وهذا التعليل لا يظهر في الطلاق وتعليله ما قدمناه من أنها كخراج رأس الذمي ( قوله في الصحيح ) كذا في الزيلعي عن النهاية والبحر والنهر وغيرها ومقابله قول الخصاف بسقوطها ولو مع الأمر بالاستدانة ، وهو ظاهر الهداية . قال في الفتح : والصحيح ما ذكره الحاكم الشهيد أنها مع الأمر بالاستدانة لا تسقط بالموت ; لأن الاستدانة بأمر من له ولاية تامة عليه كالاستدانة بنفسه فلا تسقط بالموت ، وعلى هذا الخلاف سقوطها بعد الأمر بالاستدانة بالطلاق والصحيح لا تسقط . ا هـ . ( قوله لما مر إلخ ) لم يمر هذا في كلامه ط ( قوله فليحرر ) أنت خبير بأنه مخالف للمتون والشروح فلا يعول عليه . ا هـ . ح وقد علمت قول الخصاف بسقوط المفروضة مع الأمر بالاستدانة فكيف بدونه ؟ والظاهر أن ما ذكره ابن كمال سبق قلم ( قوله بموت أو طلاق ) هذا عندهما . وقال محمد : يرفع عنها حصة ما مضى ، ويجب رد الباقي إن كان قائما ، وقيمته إن كان مستهلكا ذخيرة . قال في الفتح والموت والطلاق قبل الدخول سواء . وفي نفقة المطلقة إذا مات الزوج اختلفوا فيه ، قيل ترد وقيل لا تسترد بالاتفاق ، ; لأن العدة قائمة في موته ، كذا في الأقضية . ا هـ قال الخير الرملي : واستفيد منه ومما في الذخيرة جواب حادثة الفتوى : طلقها بائنا وعجل لها نفقة تسعة أشهر فأسقطت سقطا بعد عشرة أيام فانقضت بذلك عدتها هل يرجع عليها بما زاد على حصة العشرة أم لا ؟ الجواب لا يرجع عندهما لا عند محمد ، وهو القياس ( قوله عجلها الزوج أو أبوه ) لما في الولوالجية وغيرها أبو الزوج إذا دفع نفقة امرأة ابنه مائة ثم طلقها الزوج ليس للأب أن يسترد ما دفع ; لأنه لو أعطاها الزوج والمسألة بحالها لم يكن له ذلك عند أبي يوسف وعليه الفتوى فكذا إذا أعطاها أبوه . ا هـ ووجهه أنها صلة لزوجته ، ولا رجوع فيما يهبه لزوجته ، والعبرة لوقت الهبة لا لوقت الرجوع ، فالزوجية من الموانع من الرجوع كالموت ، ودفع الأب كدفع الابن ، فلا إشكال بحر .

قلت : وظاهره أن دفع الأجنبي ليس كذلك ، ولعل وجهه أن الأب يدفع بطريق النيابة عن ابنه عادة فكان هبة من الابن فلا رجوع ، بخلاف دفع الأجنبي فتأمل .




الخدمات العلمية