الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 249 ] ( و ) اعلم أن تصرفات المرتد على أربعة أقسام ف ( ينفذ منه ) اتفاقا ما لا يعتمد تمام ولاية ، وهي خمس : ( الاستيلاد والطلاق وقبول الهبة وتسليم الشفعة والحجر على عبده ) المأذون ( ويبطل منه ) اتفاقا ما يعتمد الملة وهي خمس ( النكاح ، والذبيحة ، والصيد ، والشهادة ، والإرث . ويتوقف منه ) اتفاقا ما يعتمد المساواة ، وهو ( المفاوضة ) أو ولاية متعدية [ ص: 250 ] ( و ) هو ( التصرف على ولده الصغير . و ) يتوقف منه عند الإمام وينفذ عندهما كل ما كان مبادلة مال بمال أو عقد تبرع ك ( المبايعة ) والصرف والسلم ( والعتق والتدبير والكتابة والهبة ) والرهن ( والإجارة ) والصلح عن إقرار ، وقبض الدين لأنه مبادلة حكمية ( والوصية ) وبقي أمانه وعقله ولا شك في بطلانهما . وأما إيداعه واستيداعه والتقاطه ولقطته فينبغي عدم جوازها نهر ( إن أسلم نفذ ، وإن هلك ) بموت أو قتل ( أو لحق بدار الحرب وحكم ) بلحاقه ( بطل ) ذلك كله ( فإن جاء مسلما قبله ) قبل الحكم ( فكأنه لم يرتد ) وكما لو عاد بعد الموت الحقيقي زيلعي ( وإن ) جاء مسلما ( بعده وماله مع وارثه أخذه ) بقضاء أو رضا ، [ ص: 251 ] ولو في بيت المال لا لأنه فيء نهر ( وإن هلك ) ماله ( أو أزاله ) الوارث ( عن ملكه لا ) يأخذه ولو قائما لصحة القضاء وله ولاء مدبره وأم ولده ومكاتبه له إن لم يؤد ، وإن عجز عاد رقيقا له بدائع

التالي السابق


( قوله واعلم إلخ ) بيان لتصرفه حال ردته بعد بيان حكم أملاكه قبل ردته بحر ( قوله على أربعة أقسام ) نافذ اتفاقا ، باطل اتفاقا ، موقوف اتفاقا موقوف عنده نافذ عندهما ط ( قوله ما لا يعتمد تمام ولاية ) قال الزيلعي لأنها لا تستدعي الولاية ولا تعتمد حقيقة الملك حتى صحت هذه التصرفات من العبد مع قصور ولايته . ا هـ . ط ( قوله الاستيلاد ) صورته إذا جاءت بولد فادعاه ثبت نسبه منه ، ويرث ذلك الولد مع ورثته وتصير الجارية أم ولد له بحر ط ( قوله والطلاق ) أي ما دامت في العدة لأن الحرمة بالردة غير متأبدة لارتفاعها بالإسلام فيقع طلاقه عليها في العدة ، بخلاف حرمة المحرمية فإنها لا غاية لها فلا يفيد لحوق الطلاق فائدة فتح من باب نكاح الكافر ، وقدمنا هناك عن الخانية أن طلاقه إنما يقع قبل لحوقه ، فلو لحق بدار الحرب فطلق امرأته لا يقع إلا إذا عاد مسلما وهي في العدة فطلقها . وأورد أنه كيف يتصور طلاقه وقد بانت بردته . وأجيب بأنه لا يلزم من وقوع البينونة امتناع الطلاق ، وقد سلف أن المبانة يلحقها الصريح في العدة بحر أي ولو كان الواقع بذلك الصريح بائنا كالطلاق الثلاث أو على مال وكذا لو قال أنت طالق بائن ، وأما قولهم إن البائن لا يلحق البائن فذاك إذا أمكن جعله إخبارا عن الأول ; حتى لو قال أبنتك بأخرى يقع كما تقدم في الكنايات فافهم ( قوله وتسليم الشفعة والحجر ) قال في البحر : ولا يمكن توقف التسليم لأن الشفعة بطلت به مطلقا .

وأما الحجر فيصح بحق الملك فبحقيقة الملك الموقوف أولى . ا هـ . قلت : ومفهومه أن له قبل إسلامه الأخذ بالشفعة . والذي في شرح السير أن ذلك قول محمد . وفي قول أبي حنيفة لا شفعة له حتى يسلم ، فلو لم يسلم ولم يطلب بطلت شفعته لتركه الطلب بعد التمكن بأن يسلم ( قوله ما يعتمد الملة ) أي ما يكون الاعتماد في صحته على كون فاعله معتقدا ملة من الملل ط أي والمرتد لا ملة له أصلا لأنه لا يقر على ما انتقل إليه ، وليس المراد ملة سماوية لئلا يرد النكاح فإن نكاح المجوسي والوثني صحيح ولا ملة لهما سماوية بل المراد الأعم ( قوله النكاح ) أي ولو لمرتدة مثله ( قوله والذبيحة ) الأولى والذبح لأنه من التصرفات ( قوله والصيد ) أي بالكلب والبازي ومثله الرمي بحر ( قوله والشهادة ) أي أداؤها لا تحملها ط . وذكر في الأشباه عن شهادات الولوالجية أنه يبطل ما رواه لغيره من الحديث فلا يجوز للسامع منه أن يرويه عنه بعد ردته ا هـ ولكن كلامنا فيما فعله في ردته وهذا قبلها .

( قوله الإرث ) فلا يرث أحدا ولا يرثه أحد مما اكتسبه في ردته ، بخلاف كسب إسلامه فإنه يرثه ورثته كما مر لاستناده إلى ما قبلها فهو إرث مسلم من مثله والكلام في إرث المرتد فافهم ( قوله ما يعتمد المساواة ) أي بين المتعاقدين في الدين ( قوله وهو المفاوضة ) فإذا فاوض مسلما توقفت اتفاقا ، فإن أسلم نفذت ، وإن هلك بطلت ، وتصير عنانا من الأصل عندهما ، وتبطل عنده بحر عن الخانية ( قوله أو ولاية متعدية ) أي إلى غيره [ ص: 250 ] قوله ويتوقف منه عند الإمام ) بناء على زوال الملك كما سلف نهر ( قوله وينفذ عندهما ) إلا أنه عند أبي يوسف تصح كما تصح من الصحيح لأن الظاهر عوده إلى الإسلام . وعند محمد كما تصح من المريض لأنها تفضي إلى القتل ظاهرا عن البحر ( قوله والصرف والسلم ) من عطف الخاص لأنهما من عقود المبايعة ط ( قوله والهبة ) هي من قبيل المبادلة إن كانت بعوض كما في النهر ، ومن قبيل التبرع إن لم تكن ح ( قوله والرهن ) لأنه مضمون عند الهلاك بالدين فهو معاوضة مآلا ( قوله والصلح عن إقرار ) أي فيكون مبادلة وأما إذا كان عن إنكار أو سكوت فالمذكور في كتاب الصلح أنه معاوضة في حق المدعي ، وفداء يمين وقطع نزاع في حق الآخر .

ومقتضاه أنه إن كان المرتد مدعيا فهو داخل في عقود المبادلة ، وإن كان المدعى عليه يدخل في عقد التبرع أفاده ط ، لكن في كونه تبرعا نظر لأنه لم يدفع المال مجانا بل مفاداة ليمينه ، فهو خارج عن مبادلة المال بالمال وعن عقد التبرع تأمل ( قوله لأنه مبادلة حكمية ) وجهه ما قالوا إن الدين يقضى بمثله وتقع المقاصة ، فقابض الدين أخذ بدل ما تحقق في ذمة المدين ط ( قوله والوصية ) أي التي في حال ردته ، أما التي في حال إسلامه فالمذكور في ظاهر الرواية من المبسوط وغيره أنها تبطل قربة كانت أو غير قربة من غير ذكر خلاف وتمامه في الشرنبلالية عن الفتح ( قوله وبقي إلخ ) لما فرغ من ذكر المنقول في الأقسام الأربعة ذكر أشياء لم يصرحوا بها فافهم ( قوله ولا شك في بطلانهما ) أما الأمان فلأنه لا يصح من الذمي فمن المرتد أولى . وأما العقل فلأن المرتد لا ينصر ولا ينصر والعقل بالنصرة ح ( قوله فينبغي عدم جوازها ) عبارة النهر : فلا ينبغي التردد في جوازها منه ا هـ فلفظة عدم من سبق القلم ( قوله بطل ذلك كله ) الإشارة ترجع إلى المتوقف اتفاقا والمتوقف عند الإمام ط ( قوله فكأنه لم يرتد ) فلا يعتق مدبره وأم ولده ، ولا تحل ديونه ، وله إبطال ما تصرف فيه الوارث لكونه فضوليا بحر ، وما مع وارثه يعود لملكه بلا قضاء ولا رضا من الوارث در منتقى .

قلت : وكذا يبطل ما تصرف فيه بنفسه بعد اللحاق قبل الحكم به ، كما لو أعتق عبده الذي في دار الإسلام أو باعه من مسلم في دار الحرب ثم رجع تائبا قبل الحكم بلحاقه فماله مردود عليه وجميع ما صنع فيه باطل لأنه باللحاق زال ملكه ، وإنما توقف على القضاء دخوله في ملك وارثه ، فتصرفه بعد اللحاق صادف مالا غير مملوك له فلا ينفذ ، وإن عاد إلى ملكه بعد كالبائع بشرط خيار المشتري إذا تصرف في المبيع لا ينفذ وإن عاد إلى ملكه بفسخ المشتري ، نعم لو أقر بحرية العبد أو بأنه لفلان صح لأنه ليس بإنشاء التصرف بل هو إقرار لازم كما لو أقر بعبد الغير ثم ملكه ملخصا من شرح السير الكبير ( قوله وكما لو عاد بعد الموت الحقيقي ) أي لو أحيا الله تعالى ميتا حقيقة وأعاده إلى دار الدنيا كان له أخذ ما في يد ورثته بحر إلا أنه ذكره بعد عود من حكم بلحاقه وكذا ذكره الزيلعي فكان على الشارح ذكره بعد قوله وإن جاء بعده كما أفاده ح ( قوله بقضاء أو رضا ) لأن بقضاء القاضي بلحاقه صار المال ملكا لورثته فلا يعود إلا بالقضاء ، ألا ترى أن الوارث لو أعتق العبد بعد رجوع المرتد قبل [ ص: 251 ] القضاء برد المال عليه نفذ عتقه ولم يضمن للمرتد شيئا كما لو أعتقه قبل رجوع المرتد ، وبهذا يستدل على أنه لا ينفذ عتق المرتد لأن العتق يستدعي حقيقة الملك شرح السير ، ونقله في البحر عن التتارخانية ، وبه جزم الزيلعي .

( قوله ولو في بيت المال لا ) قال في النهر : وفي قوله وإرثه إيماء إلى أنه لا حق له فيما وجده من كسب ردته لأن أخذه ليس بطريق الخلافة عنه بل لأنه فيء ، ألا ترى أن الحربي لا يسترد ماله بعد إسلامه ، وهذا وإن لم نره مسطورا إلا أن القواعد تؤيده وأصل البحث لصاحب البحر . وظاهره أن ما وضع في بيت المال لعدم الوارث له أخذه ، ففي كلام الشرح إبهام كما أفاده السيد أبو السعود ( قوله أو أزاله الوارث عن ملكه ) سواء كان بسبب يقبل الفسخ كبيع أو هبة ، أو لا يقبله كعتق أو تدبير واستيلاد فإنه يمضي ولا عود له فيه ولا يضمنه ا هـ فتح ( قوله وله ولاء مدبره وأم ولده ) أفاد أنهم لا يعودون في الرق لأن القضاء بعتقهم قد صح والعتق بعد نفاذه لا يقبل البطلان فتح ( قوله ومكاتبه له ) مبتدأ وخبر ( قوله إن لم يؤد ) أي إلى الورثة بدل الكتابة فيأخذها من المكاتب . وأما إن أداه إليهم فلا سبيل له عليه لأنه عتق بأداء المال والعتق لا يحتمل الفسخ ، ويأخذ منهم المال لو قائما وإلا لا ضمان عليهم كسائر أمواله بحر

.



الخدمات العلمية