الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 529 ] ( وشرط لصحته معرفة قدر ) مبيع وثمن ( ووصف ثمن ) [ ص: 530 ] كمصري أو دمشقي . ( غير مشار ) إليه ( لا ) يشترط ذلك في ( مشار إليه ) لنفي الجهالة بالإشارة ما لم يكن ربويا قوبل بجنسه [ ص: 531 ] أو سلما اتفاقا أو رأس مال سلم لو مكيلا أو موزونا خلافا لهما كما سيجيء

[ ص: 529 ]

التالي السابق


[ ص: 529 ] ( قوله : وشرط لصحته معرفة قدر مبيع وثمن ) ككر حنطة وخمسة دراهم أو أكرار حنطة فخرج ما لو كان قدر المبيع مجهولا أي جهالة فاحشة ، فإنه لا يصح وقيدنا بالفاحشة لما قالوه لو باعه جميع ما في هذه القرية أو هذه الدار والمشتري لا يعلم ما فيها لا يصح لفحش الجهالة أما لو باعه جميع ما في هذا البيت ، أو الصندوق ، أو الجوالق ، فإنه يصح ; لأن الجهالة يسيرة قال : في القنية : إلا إذا كان لا يحتاج معه إلى التسليم والتسلم ، فإنه يصح بدون معرفة قدر المبيع ، كمن أقر أن في يده متاع فلان غصبا أو وديعة ثم اشتراه جاز ، وإن لم يعرف مقداره . ا هـ .

ومعرفة الحدود تغني عن معرفة المقدار ، ففي البزازية - : باعه أرضا وذكر حدودها لا ذرعها طولا وعرضا ، جاز ، وكذا إن لم الحدود ، ولم يعرفه المشتري إذا لم يقع بينهما تجاحد ، وفيها جهل البائع معرفة المبيع لا يمنع وجهل المشتري يمنع . ا هـ . وعلى هذا تفرع ما في القنية : لك في يدي أرض خربة لا تساوي شيئا في موضع كذا فبعها مني بستة دراهم ، فقال : بعتها ، ولم يعرفها البائع وهي تساوي أكثر من ذلك جاز ولم يكن ذلك بيع المجهول ; لأنه لما قال : لك في يدي أرض صار كأنه قال : أرض كذا وفي المجمع لو باعه نصيبه من دار فعلم العاقدين شرط أي عند الإمام ، ويجيزه أي أبو يوسف مطلقا وشرط أي محمد علم المشتري وحده وفي الخانية : اشترى كذا كذا قربة من ماء الفرات . قال : أبو يوسف : إن كانت القربة بعينها جاز لمكان التعامل ، وكذا الراوية والجرة وهذا استحسان وفي القياس لا يجوز إذا كان لا يعرف قدرها ، وهو قول الإمام وخرج أيضا ما لو كان الثمن مجهولا كالبيع بقيمته أو برأس ماله أو بما اشتراه أو بمثل ما اشتراه فلان ، فإن علم المشتري بالقدر في المجلس جاز ومنه أيضا ما لو باعه بمثل ما يبيع الناس إلا أن يكون شيئا لا يتفاوت نهر . ( قوله : ووصف ثمن ) ; لأنه إذا كان مجهول الوصف تتحقق المنازعة فالمشتري يريد دفع الأدون والبائع يطلب الأرفع فلا يحصل مقصود شرعية العقد نهر .

[ تنبيه ] ظاهر كلامه كالكنز يعطى أن معرفة وصف المبيع غير شرط ، وقد نفى اشتراطه في البدائع في المبيع والثمن ، وظاهر الفتح إثباته فيهما ، ووفق في البحر بحمل ما في البدائع على المشار إليه أو إلى مكانه ، وما في الفتح على غيره لمن حقق في النهر أن ما فهمه من الفتح وهم فاحش ; لأن كلام الفتح في الثمن فقط . قلت : وظاهره الاتفاق على اشتراط معرفة القدر في المبيع والثمن ، وإنما الخلاف في اشتراط الوصف فيهما وللعلامة الشرنبلالي رسالة سماها : نفيس المتجر بشراء الدرر ، حقق فيها أن المبيع المسمى جنسه لا حاجة فيه إلى بيان قدره ولا وصفه ولو غير مشار إليه أو إلى مكانه ; لأن الجهالة المانعة من الصحة تنتفي بثبوت خيار الرؤية ; لأنه إذا لم يوافقه يرده فلم تكن الجهالة مفضية إلى المنازعة واستدل على ذلك بفروع صححوا فيها البيع بدون بيان قدر ولا وصف ، منها ما قدمناه من صحة بيع جميع ما في هذا البيت أو الصندوق ، وشراء ما في يده من غصب [ ص: 530 ] أو وديعة ، وبيع الأرض مقتصرا على ذكر حدودها وشراء الأرض الخربة المارة عن القنية . ومنها : ما قالوا لو قال : بعتك عبيدي ، وليس له إلا عبد واحد صح ، بخلاف بعتك عبدا بدون إضافة ، فإنه لا يصح في الأصح .

ومنها : لو قال : بعتك كرا من الحنطة فإن لم يكن كل الكر في ملكه بطل ولو بعضه في ملكه بطل في المعدوم وفسد في الموجود ، ولو كله في ملكه لكن في موضعين أو من نوعين مختلفين ، لا يجوز ولو من نوع واحد في موضع واحد جاز وإن لم يضف البيع إلى تلك الحنطة ، وكذا لو قال : بعتك ما في كمي فعامتهم على الجواز وبعضهم على عدمه وأول قول الكنز ولا بد من معرفة قدر ووصف ثمن ، بأن لفظ " قدر " غير منون مضافا لما بعده من الثمن مثل قول العرب : بعتك بنصف وربع درهم . قلت : ما ذكره من الاكتفاء بذكر الجنس عن ذكر القدر والوصف يلزم عليه صحة البيع في نحو : بعتك حنطة بدرهم ولا قائل به ، ومثله بعتك عبدا أو دارا وما قاله من انتفاء الجهالة بثبوت خيار الرؤية مدفوع بأن خيار الرؤية قد يسقط برؤية بعض المبيع ، فتبقى الجهالة المفضية إلى المنازعة ، وكذا قد يبطل خيار الرؤية قبلها ، بنحو بيع أو رهن لما اشتراه كما سيأتي بيانه في بابها ; ولذا قال : المصنف هناك : صح البيع والشراء لما لم يرياه ، والإشارة إليه أو إلى مكانه شرط الجواز ا هـ . فأفاد أن انتفاء الجهالة بهذه الإشارة شرط جواز أصل البيع ليثبت بعده خيار الرؤية . نعم : صحح بعضهم الجواز بدون الإشارة المذكورة ، لكنه محمول على ما إذا حصل انتفاء الجهالة بدونها ولذا قال : في النهاية هناك : صح شراء ما لم يره يعني شيئا مسمى موصوفا أو مشارا إليه أو إلى مكانه وليس فيه غيره بذلك الاسم . ا هـ .

وقال : في العناية قال : صاحب الأسرار ; لأن كلامنا في عين هي بحالة لو كانت الرؤية حاصلة لكان البيع جائزا . ا هـ . وفي حاوي الزهدي : باع حنطة قدرا معلوما ، ولم يعينها لا بالإشارة ، ولا بالوصف لا يصح . ا هـ .

هذا والذي يظهر من كلامهم تفريعا وتعليلا أن المراد بمعرفة القدر ، والوصف ما ينفي الجهالة الفاحشة وذلك بما يخصص المبيع عن أنظاره ، وذلك بالإشارة إليه لو حاضرا في مجلس العقد ، وإلا فبيان مقداره مع بيان وصفه لو من المقدرات ، كبعتك كر حنطة بلدية مثلا بشرط كونه في ملكه ، أو ببيان مكانه الخاص كبعتك ما في هذا البيت ، أو ما في كمي أو بإضافته إلى البائع كبعتك عبدي ، ولا عبد له غيره ، أو بيان حدود أرض ففي كل ذلك تنتفي الجهالة الفاحشة عن المبيع ، وتبقى الجهالة اليسيرة التي لا تنافي صحة البيع لارتفاعها بثبوت خيار الرؤية ، فإن خيار الرؤية إنما يثبت بعد صحة البيع لرفع تلك الجهالة اليسيرة لا لرفع الفاحشة المنافية لصحته فاغتنم تحقيق هذا المقام بما يرفع الظنون والأوهام ، ويندفع به التناقض واللوم عن عبارات القوم . ( قوله : كمصري أو دمشقي ) ونظيره إذا كان الثمن من غير النقود كالحنطة لا بد من بيان قدرها ووصفها ككر حنطة بحيرية أو صعيدية كما أفاده الكمال وحققه في النهر . ( قوله : غير مشار إليه ) أي إلى ما ذكر من المبيع والثمن قال : في البحر : لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد ، وهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز . ا هـ .

( قوله : لا يشترط ذلك في مشار إليه ) قال : في البحر : وقوله : غير مشار إليه قيد فيهما ; لأن المشار إليه مبيعا كان أو ثمنا لا يحتاج إلى معرفة قدره ، ووصفه فلو قال : بعتك هذه الصبرة من الحنطة أو هذه الكورجة من الأرز والشاشات : وهي مجهولة العدد بهذه الدراهم التي في يدك : وهي مرئية له فقبل جاز ، ولزم ; لأن الباقي جهالة الوصف يعني القدر ، وهو لا يضر إذ لا يمنع من التسليم والتسلم . ا هـ .

( قوله : ما لم يكن ) أي المشار إليه ربويا قوبل [ ص: 531 ] بجنسه أي وبيع مجازفة مثل بعتك هذه الصبرة من الحنطة بهذه الصبرة . قال : في البحر : فإنه لا يصح لاحتمال الربا واحتماله مانع كحقيقته . ( قوله : أو سلما ) أراد به المسلم فيه بقرينة ما بعده لكنه لا حاجة لذكره ; لأن المسلم فيه مؤجل غير حاضر فلا يصح أن يكون مشارا إليه والكلام فيه . ( قوله : لو مكيلا أو موزونا ) فلا تكفي الإشارة إليه كما في مذروع وحيوان خلافا لهما ; لأنه ربما لا يقدر على تحصيل المسلم فيه ، فيحتاج إلى رد رأس المال وقد ينفق بعضه ثم يجد باقيه معيبا فيرده ولا يستبدله رب السلم في مجلس الرد فيفسخ العقد في المردود ، ويبقى في غيره فتلزم جهالة المسلم فيه فيما بقي فوجب بيانه كما سيجيء في باب السلم .




الخدمات العلمية