الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قلت : ومما يكثر وقوعه ما لو اشترى بقطع رائجة فكسدت بضرب جديدة يجب قيمتها يوم البيع من الذهب لا غير إذ لا يمكن الحكام الحكم بمثلها لمنع السلطان منها ، ولا يدفع قيمتها من الفضة الجديدة لأنها ما لم يغلب غشها فجيدها ورديئها سواء إجماعا [ ص: 534 - 535 ] أما ما غلب غشه ففيه الخلاف ، كما سيجيء في فصل القرض فتنبه وبه أجاب سعدي أفندى وهذا إذا بيع بثمن دين فلو بعين فسد فتح و ( بخلاف جنسه ولم يجمعهما قدر ) لما فيه من ربا النساء كما سيجيء في بابه

التالي السابق


مطلب مهم في أحكام النقود إذا كسدت أو انقطعت أو غلت أو رخصت . ( قوله : قلت ومما يكثر وقوعه إلخ ) أعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس ولم يسلمها للبائع ثم كسدت بطل البيع والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد ويجب على المشتري رد المبيع لو قائما ومثله أو قيمته لو هالكا ، إن لم يكن مقبوضا فلا حكم لهذا البيع أصلا وهذا عنده وعندهما لا يبطل البيع ; لأن المتعذر التسليم بعد الكساد ، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج لكن عند أبي يوسف تجب قيمته يوم البيع ، وعند محمد يوم الكساد وهو آخر ما تعامل الناس بها وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف ، وفي المحيط والتتمة والحقائق وبقول محمد يفتى رفقا بالناس ا هـ . والكساد : أن تترك المعاملة بها في جميع البلاد ، فلو في بعضها لا يبطل لكنه تتعيب إذا لم ترج في بلدهم ، فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته . وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن وجد في يد الصيارفة والبيوت هكذا في الهداية والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب لكن قال : في المضمرات فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار ا هـ .

هذا إذا كسدت وانقطعت أما إذا غلت قيمتها أو انتقضت فالبيع على حاله ولا يتخير المشتري ، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع كذا في فتح القدير . وفي البزازية عن المنتقى غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول والثاني ، أولا ليس عليه غيرها ، وقال : الثاني ثانيا عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض وعليه الفتوى ، وهكذا في الذخيرة [ ص: 534 ] والخلاصة عن المنتقى ، ونقله في البحر وأقره ، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات ، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء ، ولم أر من جعل الفتوى على قول الإمام هذا خلاصة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في رسالته : بذل المجهود في مسألة تغير النقود وفي الذخيرة عن المنتقى إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت . قال : أبو يوسف ، قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء وليس له غيرها ، ثم رجع أبو يوسف وقال : عليه قيمتها من الدراهم ، يوم وقع البيع ويوم وقع القبض . ا هـ . وقوله : يوم وقع البيع أي في صورة البيع ، وقوله : ويوم وقع القبض أي في صورة القرض كما نبه عليه في النهر في باب الصرف .

وحاصل ما مر : أنه على قول أبي يوسف المفتى به لا فرق بين الكساد والانقطاع والرخص والغلاء في أنه تجب قيمتها يوم وقع البيع أو القرض لا مثلها ، وفي دعوى البزازية ، من النوع الخامس عشر ، عن فوائد الإمام أبي حفص الكبير استقرض منه دانق فلوس حال كونها عشرة بدانق ، فصارت ستة بدانق أو رخص وصار عشرون بدانق يأخذ منه عدد ما أعطى ولا يزيد ولا ينقص . ا هـ . قلت : هذا مبني على قول الإمام ، وهو قول أبي يوسف أولا ، وقد علمت أن المفتى به قوله : ثانيا بوجوب قيمتها يوم القرض ، وهو دانق أي سدس درهم سواء صار الآن ستة فلوس بدانق أو عشرين بدانق تأمل ومثله ما سيذكره المصنف في فصل القرض من قوله استقرض من الفلوس الرائجة والعدالي فكسدت فعليه مثلها كاسدة لا قيمتها . ا هـ . فهو على قول الإمام . وسيأتي في باب الصرف متنا وشرحا اشترى شيئا به أي بغالب الغش ، وهو نافق أو بفلوس نافقة فكسد ذلك قبل التسليم للبائع بطل البيع كما لو انقطعت عن أيدي الناس ، فإنه كالكساد وكذا حكم الدراهم ، لو كسدت أو انقطعت بطل وصححاه بقيمة المبيع وبه يفتى رفقا بالناس بحر وحقائق . ا هـ . وقوله : بقيمة المبيع صوابه بقيمة الثمن الكاسد .

وفي غاية البيان قال أبو الحسن : لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها قال بشر : قال أبو يوسف : عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها ، يعني البخارية والطبرية واليزيدية وقال محمد : قيمتها في آخر نفاقها قال القدوري : وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا فالدراهم البخارية فلوس على صفة مخصوصة والطبرية واليزيدية ، هي التي غلب الغش عليها فتجرى مجرى الفلوس فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس . ا هـ . ما في غاية البيان وما ذكره في القرض جاز في البيع أيضا ، كما قدمناه عن الذخيرية من قوله يوم وقع البيع إلخ . ثم اعلم أن الذي فهم من كلامهم أن الخلاف المذكور ، إنما هو في الفلوس والدراهم الغالبة الغش ، ويدل عليه أنه في بعض العبارات اقتصر على ذكر الفلوس . وفي بعضها ذكر العدالي معها وهي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهملة والدال وكسر اللام دراهم فيها غش . وفي بعضها تقييد الدراهم بغالبة الغش ، وكذا تعليلهم قول الإمام ببطلان البيع ، بأن الثمنية بطلت بالكساد ; لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنا بالاصطلاح ، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمنا فبقي البيع بلا ثمن فبطل ، ولم أر من صرح بحكم الدراهم الخالصة أو المغلوبة الغش سوى ما أفاده الشارح هنا .

وينبغي أنه لا خلاف في أنه لا يبطل البيع بكسادها ، ويجب على المشتري مثلها في الكساد ، والانقطاع والرخص والغلاء ، أما عدم بطلان البيع ، فلأنها ثمن خلقة فترك المعاملة بها لا يبطل ثمنيتها فلا يتأتى تعليل البطلان المذكور ، وهو بقاء البيع بلا ثمن . وأما وجوب مثلها وهو ما وقع عليه العقد كمائة ذهب [ ص: 535 ] مشخص ، أو مائة ريال فرنجي فلبقاء ثمنيتها أيضا وعدم بطلان تقومها ، وتمام بيان ذلك في رسالتنا تنبيه الرقود في أحكام النقود . وأما ما ذكره الشارح من أنه تجب قيمتها من الذهب فغير ظاهر ; لأن مثليتها ، لم تبطل فكيف يعدل إلى القيمة ، وقوله : إذا لم يمكن إلخ فيه نظر ; لأن منع السلطان التعامل بها في المستقبل لا يستلزم منع الحاكم من الحكم على شخص بما وجب عليه منها في الماضي . وأما قوله : ولا يدفع قيمتها من الجديدة ، فظاهر وبيانه أن كسادها عيب فيها عادة ; لأن الفضة الخالصة إذا كانت مضروبة رائجة تقوم بأكثر من غيرها ، فإذا كانت العشرة من الكاسدة تساوي تسعة من الرائجة مثلا فإن ألزمنا المشتري بقيمتها وهو تسعة من الجديدة يلزم الربا ، وإن ألزمناه بعشرة نظرا إلى أن الجودة والرداءة في باب الربا غير معتبرة يلزم ضرر المشتري ، حيث ألزمناه بأحسن مما التزم فلم يمكن إلزامه بقيمتها من الجديدة ، ولا بمثلها منها فتعين إلزامه بقيمتها من الذهب لعدم إمكان إلزامه بمثلها من الكاسدة أيضا لما علمت من منع الحكام منه ، لكن علمت ما فيه هذا ما ظهر لي في هذا المقام والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

وبقي ما لو وقع الشراء بالقروش كما هو عرف زماننا ويأتي الكلام عليه قريبا . ( قوله : أما ما غلب غشه إلخ ) أفاد أن الكلام السابق فيما كان خاليا عن الغش أو كان غشه مغلوبا ، وأنه لا خلاف فيه على ما يفهم من كلامهم كما قررناه آنفا . ( قوله : كما سيجيء في فصل القرض ) صوابه في باب الصرف كما علم مما قدمناه . ( قوله : وهذا ) أي ما ذكره في المتن من صحة البيع بثمن مؤجل إلى معلوم . ( قوله : بثمن دين إلخ ) أراد بالدين ما يصح أن يثبت في الذمة سواء كان نقدا أو غيره ، وبالعين ما قابله فيدخل في الدين الثوب الموصوف بما يعرفه لقوله في الفتح وغيره : إن الثياب كما تثبت مبيعا في الذمة بطريق السلم تثبت دينا مؤجلا في الذمة على أنها ثمن ، وحينئذ يشترط الأجل لا لأنها ثمن بل لتصير ملحقة بالسلم في كونها دينا في الذمة فلذا قلنا : إذا باع عبدا بثوب موصوف في الذمة إلى أجل جاز ، ويكون بيعا في حق العبد حتى لا يشترط قبضه في المجلس بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب ، وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب حتى شرط فيه الأجل وامتنع بيعه قبل قبضه لإلحاقه بالمسلم فيه . ا هـ . فافهم .

( قوله : وبخلاف جنسه ) عطف على قوله بثمن دين ، وفي بعض النسخ " أو " بدل الواو ، والأولى أولى ; لأن الشرط كل منهما لا أحدهما كما أفاده ط وقوله " ولم يجمعهما قدر " جملة حالية والقدر كيل أو وزن ، وذلك كبيع ثوب بدراهم واحترز عما لو كان بجنسه وجمعهما قدر ككر بر بمثله أو كان بجنسه ، ولم يجمعهما قدر كثوب هروي بمثله ، أو كان بخلاف جنسه وجمعهما قدر ككر بر بكر شعير فإنه لا يصح التأجيل لما فيها من ربا النساء ، فقول الشارح : لما فيه من ربا النساء بالفتح أي التأخير تعليل لمفهوم المتن ، وهو عدم صحة التأجيل في الصور الثلاثة أفاده ح . قلت : بقي شرط آخر وهو أن لا يكون المبيع الكيلي أو الوزني هالكا ، فقد ذكر الخير الرملي أول البيوع عن جواهر الفتاوى : له على آخر حنطة غير السلم فباعها منه بثمن معلوم إلى شهر لا يجوز ; لأنه بيع الكالئ بالكالئ وقد نهينا عنه ، وإن باعها ممن عليه ونقد المشتري الثمن في المجلس جاز فيكون دينا بعين . ا هـ .

وذكر المسألة في المنح قبيل باب الربا ، ومثله كل مكيل وموزون . وكالبيع الصلح ففي الثلاثين من جامع الفصولين ، ولو غصب كر بر فصالحه وهو قائم على دراهم مؤجلة جاز ، وكذا الذهب والفضة وسائر الموزونات ، ولو صالحه على كيل مؤجل لم يجز [ ص: 536 ] إذ الجنس بانفراده يحرم النساء ، ولو كان البر هالكا لم يجز الصلح على شيء من هذا نسيئة ; لأنه دين بدين إلا إذا صالح على بر مثله ، أو أقل منه مؤجلا جاز ; لأنه عين حقه والحط جائز لا لو على أكثر للربا ، والصلح على بعض حقه في الكيلي والوزني حال قيامه لم يجز . ا هـ . وفي البزازية الحيلة في جواز بيع الحنطة المستهلكة بالنسيئة ، أن يبيعها بثوب ويقبض الثوب ثم يبيعه بدراهم إلى أجل . ا هـ . أقول : وتجري هذه الحيلة في الصلح أيضا وهي واقعة الفتوى ويكثر وقوعها . ا هـ .




الخدمات العلمية