الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 149 ] ( اشترى مكيلا بشرط الكيل حرم ) أي كره تحريما ( بيعه وأكله حتى يكيله ) وقد صرحوا بفساده وبأنه لا يقال لآكله إنه أكل حراما لعدم التلازم [ ص: 150 ] كما بسطه الكمال لكونه أكل ملكه ( ومثله الموزون والمعدود ) بشرط الوزن والعد لاحتمال الزيادة ، وهي للبائع بخلافه مجازفة ; لأن الكل للمشتري وقيد بقوله ( غير الدراهم والدنانير ) لجواز التصرف فيهما بعد القبض قبل الوزن كبيع التعاطي فإنه لا يحتاج في الموزونات إلى وزن المشتري ثانيا ; لأنه صار بيعا بالقبض بعد الوزن قنية [ ص: 151 ] وعليه الفتوى خلاصة ( وكفى كيله من البائع بحضرته ) أي المشتري ( بعد البيع ) لا قبله أصلا أو بعده بغيبته فلو كيل بحضرة رجل فشراه فباعه قبل كيله لم يجز وإن اكتاله الثاني لعدم كيل الأول فلم يكن قابضا فتح ( ولو كان ) المكيل أو الموزون ( ثمنا جاز التصرف فيه قبل كيله ووزنه ) لجوازه قبل القبض فقبل الكيل أولى .

التالي السابق


( قوله : اشترى مكيلا إلخ ) قيد بالشراء ; لأنه لو ملكه بهبة أو إرث أو وصية جاز التصرف فيه قبل الكيل والمطلق من المبيع ينصرف إلى الكامل ، وهو الصحيح منه حتى لو باع ما اشتراه فاسدا بعد قبضه مكايلة لم يحتج المشتري الثاني إلى إعادة الكيل قال أبو يوسف : لأن البيع الفاسد يملك بالقبض كالقرض . ( قوله : أي كره تحريما ) فسر الحرمة بذلك ; لأن النهي خبر آحاد لا يثبت به الحرمة القطعية وهو ما أسنده ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه { أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري } وبقولنا أخذ مالك والشافعي وأحمد وحين علله الفقهاء بأنه من تمام القبض ألحقوا بمنع البيع منع الأكل قبل الكيل والوزن وكل تصرف يبنى على الملك كالهبة والوصية وما أشبههما ، ولا خلاف في أن النص محمول على ما إذا وقع البيع مكايلة فلو اشتراه مجازفة له التصرف فيه قبل الكيل وإذا باعه مكايلة يحتاج إلى كيل واحد للمشتري وتمامه في الفتح . ( قوله : وقد صرحوا بفساده ) صرح محمد في الجامع الصغير بما نصه محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة قال : إذا اشتريت شيئا مما يكال أو يوزن أو يعد ، فاشتريت ما يكال كيلا وما يوزن وزنا وما يعد عدا فلا تبعه حتى تكيله وتزنه وتعده ، فإن بعته قبل أن تفعل وقد قبضته فالبيع فاسد في الكيل والوزن ا هـ . ط .

قلت : وظاهره أن الفاسد هو البيع الثاني وهو بيع المشترى قبل كيله ، وأن الأول وقع صحيحا لكنه يحرم عليه التصرف فيه من أكل أو بيع حتى يكيله ، فإذا باعه قبل كيله وقع البيع الثاني فاسدا لما مر من أن العلة كون الكيل من تمام القبض ، فإذا باعه قبل كيله فكأنه باعه قبل القبض ، وبيع المنقول قبل قبضه لا يصح فكانت هذه المسألة من فروع التي قبلها ; فلذا أعقبها بها قبل ذكر التصرف في الثمن ، والتحقيق أن يقال : إذا ملك زيد طعاما ببيع مجازفة أو بإرث ونحوه ، ثم باعه من عمرو مكايلة سقط هنا صاع البائع ; لأن ملكه الأول لا يتوقف على الكيل وبقي الاحتياج إلى كيل المشتري فقط فلا يصح بيعه من عمرو بلا كيل فهنا فسد البيع الثاني فقط ، ثم إذا باعه [ ص: 150 ] عمرو من بكر لا بد من كيل آخر لبكر ، فهنا فسد البيع الأول والثاني لوجود العلة في كل منهما . ( قوله : كما بسطه الكمال ) حيث قال : ونص في الجامع الصغير على أنه لو أكله ، وقد قبضه بلا كيل لا يقال إنه أكل حراما ; لأنه أكل ملك نفسه إلا أنه آثم لتركه ما أمر به من الكيل ، فكان هذا الكلام أصلا في سائر المبيعات بيعا فاسدا إذا قبضها فملكها ثم أكلها وتقدم أنه لا يحل أكل ما اشتراه شراء فاسدا ، وهذا يبين أن ليس كل ما لا يحل أكله يقال فيه أكل حراما ا هـ ما في الفتح .

وحاصله : أنه إذا حرم الفعل وهو الأكل لا يلزم منه أن يكون أكل حراما ; لأنه قد يكون المأكول حراما كالميتة وملك الغير وقد لا يكون حراما كما هنا وكالمشترى فاسدا بعد قبضه ; لأنه ملكه ، ومثله ما لو دخل دار الحرب بأمان وسرق منهم شيئا وأخرجه إلى دارنا ملكه ملكا خبيثا ويجب عليه رده عليهم وكذا لو غصب شيئا واستهلكه بخلط ونحوه حتى ملكه ولم يؤد ضمانه يحرم عليه التصرف فيه بأكل ونحوه وإن كان ملكه . ( قوله : والمعدود ) أي الذي لا تتفاوت آحاده كالجوز والبيض فتح . وعن الإمام أنه يجوز في المعدود قبل العد ، وهو قولهما كذا في السراج والأول وهو أظهر الروايتين عن الإمام كما في الفتح نهر .

( قوله : لاحتمال الزيادة ) علة لقوله حرم أو لقوله وقد صرحوا بفساده قال في الهداية بعد تعليله بالنهي المار ; ولأنه يحتمل أن يزيد على المشروط ، وذلك للبائع والتصرف في مال الغير حرام فيجب التحرز عنه قال في الفتح : وإذا عرف أن سبب النهي أمر يرجع إلى المبيع كان البيع فاسدا ونص على الفاسد في الجامع الصغير ا هـ . ( قوله : بخلاف مجازفة ) محترز قوله بشرط الكيل ، وقوله : بشرط الوزن والعد أي لو اشتراه مجازفة له أن يتصرف فيه قبل الكيل والوزن ; لأن كل المشار إليه له : أي الأصل والزيادة أي الزيادة على ما كان يظنه بأن ابتاع صبرة على ظن أنها عشرة فظهرت خمسة عشر ، وتمامه في العناية ، ومثل الشراء مجازفة ما لو ملكه بهبة أو إرث أو وصية كما مر أو بزراعة أو استقرض حنطة على أنها كر ; لأن الاستقراض ، وإن كان تمليكا بعوض كالشراء ، لكنه شراء صورة عارية حكما ; لأن ما يرده عين المقبوض حكما فكان تمليكا بلا عوض حكما كما في الفتح ، ولو باع أحد هؤلاء مكايلة فلا بد من كيل المشتري وإن سقط كيل البائع كما قدمناه وفي الفتح : ولو اشتراها مكايلة ثم باعها مجازفة قبل الكيل وبعد القبض لا يجوز في ظاهر الرواية لاحتمال اختلاط ملك البائع بملك بائعه وفي نوادر ابن سماعة يجوز ا هـ .

وبه ظهر أن قوله بخلافه مجازفة مقيد بما إذا لم يكن البائع اشترى مكايلة . ( قوله : لجواز التصرف فيهما بعد القبض قبل الوزن ) كذا في البحر عن الإيضاح ، والظاهر أن هذا مفروض فيما إذا كان في عقد صرف أو سلم ، وإلا فالدراهم والدنانير ثمن ويأتي أنه يجوز التصرف في الثمن قبل قبضه . ( قوله : كبيع التعاطي إلخ ) عبارة البحر وهذا كله في غير بيع التعاطي أما هو فقال في القنية ولا يحتاج إلخ .

وظاهر قوله : وهذا كله أنه لا يتقيد بالموزنات بل التعاطي في المكيلات والمعدودات كذلك ، وهو مفاد التعليل أيضا بأنه صار بيعا بعد القبض ، فإنه لا يخص الموزونات لكن فيه أن مقتضى هذا أنه لا يصير بيعا قبل القبض ، ولعله مبني على قول بأنه لا بد فيه من القبض من الجانبين والأصح خلافه ، وعليه فلو دفع الثمن ، ولم يقبض صح ، وقدمنا في أول البيوع عن القنية دفع إلى بائع الحنطة خمسة دنانير ليأخذ منه حنطة ، وقال له بكم تبيعها فقال مائة بدينار فسكت المشتري ثم طلب منه الحنطة ليأخذها فقال البائع غدا أدفع لك ، ولم يجر بينهما بيع وذهب المشتري فجاء غدا ليأخذ الحنطة [ ص: 151 ] وقد تغير السعر فعلى البائع أن يدفعها بالسعر الأول ا هـ . وتمامه هناك فتأمل . ( قوله : وكفى كيله من البائع بحضرته ) قال في الخانية : لو اشترى كيليا مكايلة أو موزونا موازنة ، فكال البائع بحضرة المشتري . قال الإمام ابن الفضل يكفيه كيل البائع ، ويجوز له أن يتصرف فيه قبل أن يكيله ا هـ .

قلت : وأفاد أن الشرط مجرد الحضرة لا الرؤية لما في القنية يشتري من الخباز خبزا كذا منا فيزنه وكفة سنجات ميزانه في دربنده ، فلا يراه المشتري أو من البائع كذا منا فيزنه في حانوته ، ثم يخرجه إليه موزونا لا يجب عليه إعادة الوزن وكذا إذا لم يعرف عدد سنجاته ا هـ . ( قوله : لا قبله أصلا إلخ ) أي لو كاله البائع قبل المبيع لا يكفي أصلا أي ولو بحضرة المشتري ، وكذا لو كاله بعد البيع بغيبة المشتري لما علمت من أن الكيل من تمام التسليم ولا تسليم من الغيبة . ( قوله : فلو كيل إلخ ) تفريع على قوله لا قبله أصلا ; لأن قوله لعدم كيل الأول مبني على عدم اعتبار الكيل الواقع بحضرته قبل شرائه ، ثم إن عبارة الفتح هكذا ومن هنا ينشأ فرع ، وهو ما لو كيل طعام بحضرة رجل ، ثم اشتراه في المجلس ، ثم باعه مكايلة قبل أن يكتاله بعد شرائه لا يجوز هذا البيع سواء اكتاله المشتري منه أو لا ; لأنه لما لم يكتل بعد شرائه هو لم يكن قابضا فبيعه بيع ما لم يقبض فلا يجوز ا هـ .

ومثله في البحر والمنح فقوله : سواء اكتاله للمشترى منه أو لا إلخ صريح في أن فاعل اكتاله هو المشتري الأول الذي كيل الطعام بحضرته ، ثم اشتراه ثم باعه وقول الشارح : وإن اكتاله الثاني صريح في أن فاعل اكتاله هو المشتري الثاني وعبارة الفتح أحسن ، لإفادتها أن هذا الكيل الواقع من المشتري الأول للمشتري الثاني لا يكفيه عن كيل نفسه لوقوعه بعد بيعه للثاني ، فكان بيعا قبل القبض لعدم اعتبار الكيل الواقع أولا بحضرته قبل شرائه ، وأما على عبارة الشارح فلا شبهة في عدم الجواز ، ثم إن ما أفاده كلام الفتح من أن كيله للمشترى منه لا يكفي عن كيل نفسه ظاهر للتعليل الذي ذكره لكنه مخالف لما شرح به كلام الهداية أولا حيث قال وإن كاله بعد العقد بحضرة المشتري مرة كفاه ذلك ، حتى يحل للمشتري التصرف فيه قبل كيله وعند البعض لا بد من الكيل مرتين ا هـ .

ملخصا فإن قوله : كفاه أي كفى البائع وهو المشتري الأول يفيد أنه يكفيه ذلك عن الكيل لنفسه ، ولعل الشارح لأجل ذلك ، جعل فاعل اكتاله المشتري الثاني لكن الظاهر عدم الاكتفاء بذلك الكيل ، وإن وقع من المشتري الأول بعد المبيع لما ذكره من التعليل والله سبحانه أعلم . ( قوله : ولو كان المكيل أو الموزون ثمنا ) أي بأن اشترى عبدا مثلا بكر بر أو برطل زيت ، ثم لا يخفى أن هذه المسألة من أفراد قوله الآتي : وجاز التصرف في الثمن قبل قبضه ، وقد تبع المصنف شيخه في ذكرها هنا . ( قوله : فقيل الكيل أولى ) لأن الكيل من تمام القبض كما مر .




الخدمات العلمية