الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله وكره نقلها إلى بلد آخر لغير قريب وأحوج ) أما الصحة فلإطلاق قوله تعالى { إنما الصدقات للفقراء } من غير قيد بالمكان ، وأما حديث معاذ المشهور { خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم } فلا ينفي الصحة ; لأن الضمير راجع إلى فقراء المسلمين لا إلى أهل اليمن ، أو لأنه ورد لبيان أنه عليه الصلاة والسلام لا طمع له في الصدقات ولأنه صح عنه أنه كان يقول لأهل اليمن { : ائتوني بخميس أو لبيس - وهما الصغار من الثياب - آخذه منكم في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم } وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان في زمنه فهو تقرير ، وإن كان في زمن أبي بكر فذاك إجماع لسكوتهم عنه ، وعدم الكراهة في نقلها للقريب للجمع بين أجري الصدقة والصلة وللأحوج ; لأن المقصود منها سد خلة المحتاج فمن كان أحوج كان أولى ، وليس عدم الكراهة منحصرا في هاتين ; لأنه لو نقلها إلى فقير في بلد آخر أورع وأصلح كما فعل معاذ رضي الله عنه لا يكره ; ولهذا قيل : التصدق على العالم الفقير أفضل كذا في المعراج ، ولا يكره نقلها في دار الحرب إلى فقراء دار الإسلام ; ولهذا ذكر في نوادر المبسوط رجل مكث في دار الحرب سنين فعليه زكاة ماله الذي خلف ها هنا ومال استفاده في دار الحرب لكن تصرف زكاة الكل إلى فقراء المسلمين الذين في دار الإسلام ; لأن فقراءهم أفضل من فقراء دار الحرب ا هـ .

                                                                                        وكذا لا يكره نقل الزكاة المعجلة مطلقا ولهذا قال في الخلاصة : لا يكره أن ينقل زكاة ماله المعجلة قبل الحول لفقير غير أحوج ومديون ا هـ .

                                                                                        فاستثنى على هذا ستة ، هذا والمعتبر في الزكاة مكان المال في الروايات كلها ، وفي صدقة الفطر مكان الرأس المخرج عنه في الصحيح مراعاة لإيجاب الحكم في محل وجود سببه كذا في فتح القدير وصحح في المحيط أنه في صدقة الفطر يؤدي حيث هو ، ولا يعتبر مكان الرأس من العبد والولد ; لأن الواجب في ذمة المولى حتى لو هلك العبد لم يسقط عنه فاختلف التصحيح كما ترى فوجب الفحص عن ظاهر الرواية والرجوع إليها ، والمنقول في النهاية معزيا إلى المبسوط أن العبرة لمكان من تجب عليه لا بمكان المخرج عنه موافقا لتصحيح المحيط فكان هو المذهب ; ولهذا اختاره قاضي خان في فتاويه مقتصرا عليه ، وحكى الخلاف في البدائع فعن محمد يؤدي عن عبيده حيث هو ، وهو الأصح وعند أبي يوسف حيث هم ، وحكى القاضي في شرح مختصر الطحاوي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف

                                                                                        ( قوله : ولا يسأل من له قوت يومه ) أي لا يحل سؤال قوت يومه لمن له قوت يومه لحديث الطحاوي : { من سأل الناس عن ظهر غنى فإنه يستكثر من جمر جهنم قلت يا رسول الله وما ظهر غنى قال : أن يعلم أن عند أهله ما يغذيهم وما يعشيهم } قيدنا بسؤال القوت ; لأن سؤال الكسوة المحتاج إليها لا يكره وقيدنا بالسؤال ; لأن الأخذ لمن ملك أقل من نصاب جائز بلا سؤال كما قدمناه ، وقيد بمن له القوت ; لأن السؤال لمن لا قوت يومه له جائز ، ولا يرد عليه القوي المكتسب فإنه لا يحل سوال القوت له إذا لم يكن له قوت يومه ; لأنه قادر بصحته واكتسابه على قوت اليوم فكأنه مالك له ، واستثنى من ذلك في غاية البيان الغازي فإن طلب الصدقة جائز له ، وإن كان قويا مكتسبا لاشتغاله بالجهاد عن الكسب ا هـ .

                                                                                        وينبغي أن يلحق به طالب العلم لاشتغاله عن الكسب بالعلم ; ولهذا قالوا : إن نفقته على أبيه ، وإن كان صحيحا مكتسبا كما لو كان زمنا ، وإذا حرم السؤال عليه إذا ملك قوت يومه فهل يحرم الإعطاء له إذا علم حاله قال الشيخ أكمل الدين في شرح المشارق وأما الدفع إلى مثل ذلك السائل عالما بحاله فحكمه في القياس أن يأثم بذلك ; لأنه إعانة على الحرام لكنه يجعل هبة وبالهبة للغني أو لمن لا يكون محتاجا إليه لا يكون آثما ا هـ . ويلزم عليه

                                                                                        [ ص: 270 ] أن الصدقة على من ملك قوت يومه فقط تكون هبة حتى يثبت فيها أحكام الهبة من صحة الرجوع فإنهم قالوا : الصدقة على الغني هبة فله الرجوع بخلافها على الفقير ، وهو بعيد فإن الظاهر أن مرادهم بالغني من ملك نصابا لكن يمكن دفع القياس المذكور بأن الدفع ليس إعانة على الحرام ; لأن الحرمة في الابتداء إنما هي بالسؤال ، وهو متقدم على الدفع ، ولا يكون الدفع إعانة إلا لو كان الأخذ هو المحرم فقط فليتأمل والله - تعالى - أعلم .

                                                                                        [ ص: 269 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 269 ] قول المصنف : وكره نقلها إلخ ) قال الرملي قال الزيلعي : فأما كراهة النقل لغير هذين فلقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن { أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم } ولأن فيه رعاية حق الجوار فكان أولى ا هـ .

                                                                                        أقول : يؤخذ منه أنها كراهة تنزيه ( قوله : والمنقول في النهاية إلخ ) ظاهره أنه لم ير من صرح بظاهر الرواية مع أنه في النهاية وكذا في العناية صرح بأنه أي ما في المبسوط ظاهر الرواية كما نقل عبارتهما في الشرنبلالية

                                                                                        [ ص: 270 ] ( قوله : لكن يمكن دفع القياس المذكور إلخ ) الظاهر أن المراد بالإعانة على السؤال أنه يكون سببا لسؤاله بعد ذلك لا لهذا السؤال المخصوص ثم رأيت العلامة المقدسي اعترضه بمثل ذلك .




                                                                                        الخدمات العلمية