الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : والهرة والدجاجة المخلاة وسباع الطير وسواكن البيوت مكروه ) أي سؤر هذه الأشياء مكروه ، وفي التبيين وإعرابه بالرفع أجود على ما تقدم قال المصنف في المستصفى ويعني من السؤر المكروه أنه طاهر لكن الأولى أن يتوضأ بغيره ا هـ .

                                                                                        واعلم أن المكروه إذا أطلق في كلامهم فالمراد منه التحريم إلا أن ينص على كراهة التنزيه فقد قال المصنف في المستصفى : لفظ الكراهة عند الإطلاق يراد بها التحريم قال أبو يوسف : قلت لأبي حنيفة رحمه الله إذا قلت في شيء أكره فما رأيك فيه قال : التحريم ا هـ .

                                                                                        وقد صرحوا بالخلاف في كراهة سؤر الهرة فمنهم كالطحاوي ومن مال إلى أنها كراهة تحريم نظر إلى حرمة لحمها ، ومنهم كالكرخي من مال إلى كراهة التنزيه نظرا إلى أنها لا تتحامى النجاسة قالوا ، وهو الأصح ، وهو ظاهر ما في الأصل ، فإنه قال : وإن توضأ بغيره أحب [ ص: 138 ] إلي لكن صرح بالكراهة في الجامع الصغير فكانت للتحريم لما تقدم ، وأما سؤر الدجاجة المخلاة فلم أر من ذكر خلافا في المراد من الكراهة بل ظاهر كلامهم أنها كراهة تنزيه بلا خلاف ; لأنها لا تتحامى النجاسة وكذا في سباع الطير وسواكن البيوت

                                                                                        أما سؤر الهرة فظاهر ما في شروح الهداية أن أبا يوسف مع أبي حنيفة ومحمد في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أنه لا بأس بسؤرها وظاهر ما في المنظومة وغيرها أن أبا يوسف مخالف لهما مستدلا بما روي عن كبشة بنت كعب بن مالك ، وكانت تحت أبي قتادة قالت دخل عليها أبو قتادة فسكبت له وضوء فجاءت هرة تشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنة أخي فقلت نعم قال { إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات } رواه أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ومالك في الموطإ وابن خزيمة في صحيحه وقال الترمذي : حديث أبي قتادة حسن صحيح ، وهو أحسن شيء في الباب وقال البيهقي إسناده صحيح وعليه الاعتماد والنجس بفتحتين كل ما يستقذر

                                                                                        قال النووي أما لفظ أو الطوافات فروي بأو وبالواو قال صاحب مطالع الأنوار يحتمل أن تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث ، وهذا الذي قاله محتمل والأظهر أنه للنوعين قال أهل اللغة الطوافون الخدم والمماليك وقيل هم الذين يخدمون برفق وعناية ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم والصغار الذين سقط في حقهم الحجاب والاستئذان في غير الأوقات الثلاثة التي هي قبل الفجر وبعد العشاء وحين الظهيرة التي ذكرها الله تعالى إنما سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين فلهذا يعفى عن الهرة للحاجة ا هـ .

                                                                                        ولهما أنه لا نزاع في سقوط النجاسة ، المفاد بالحديث بعلة الطوف المنصوصة يعني أنها تدخل المضايق ولازمه شدة المخالطة بحيث يتعذر معه صون الأواني منها بل صون النفس متعذر فللضرورة اللازمة من ذلك سقطت النجاسة إنما الكلام بعد هذا في ثبوت الكراهة فإن كانت الكراهة كراهة تحريم كما قال الطحاوي لم ينهض به وجه

                                                                                        فإن قال سقطت النجاسة فبقيت كراهة التحريم منعت الملازمة إذ سقوط وصف أو حكم شرعي لا يقتضي ثبوت آخر إلا بدليل والحاصل أن إثبات كل حكم شرعي يستدعي دليلا فإثبات كراهة التحريم والحالة هذه بغير دليل ، وإن كانت كراهة تنزيه على الأصح كفى فيه أنها لا تتحامى النجاسة فيكره كماء غمس الصغير يده فيه وأصله كراهة غمس اليد في الإناء للمستيقظ قبل غسلها نهي عنه في حديث المستيقظ لتوهم النجاسة فهذا أصل صحيح منتهض يتم به المطلوب من غير حاجة إلى التمسك بالحديث ، وهو ما رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال { قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم السنور سبع } ووجه التمسك به على ما ذكره المصنف في المستصفى أنه عليه السلام لم يرد الحقيقة ; لأنه ما بعث لبيان الحقائق فيكون المراد به الحكم والحكم أنواع نجاسة السؤر وكراهته وحرمة اللحم ثم لا يخلو إما أن يلحق به في حق جميع الأحكام وهو غير ممكن ; لأن فيه قولا بنجاسة السؤر مع كراهته وأنه لا يجوز أو في حرمة اللحم وأنه لا يجوز لما أنها ثابتة بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع أو في كراهة السؤر ، وهو المرام أو في نجاسته ، وهو أنه لا يجوز أيضا إذ النجاسة منتفية بالإجماع أو بالحديث أو بالضرورة فبقيت الكراهة أو في الأول مع الثاني أو في الأول مع الثالث أو في الثاني مع الثالث وأنه لا يجوز لما مر

                                                                                        فإن قيل إنما يستقيم هذا الكلام أن لو كان هذا الحديث واردا بعد تحريم السباع قلنا حرمة لحم السباع قبل ورود هذا الحديث لا يخلو إما أن تكون ثابتة أو لم تكن ، فإن كانت ثابتة فظاهر ، وإن لم تكن ثابتة لا تكون الحرمة من لوازم كونه سبعا فلا يمكن جعله مجازا عنها أو [ ص: 139 ] نقول ابتداء لا يجوز أن تكون حرمة اللحم مرادة من هذا الحديث ; لأن فيه حمل كلام الرسول عليه الصلاة والسلام على الإعادة لا على الإفادة سواء كان هذا الحديث سابقا أو مسبوقا تأمل تدر ا هـ .

                                                                                        فثبت بهذا كراهة سؤرها ويحمل إصغاء أبي قتادة الإناء على زوال ذلك التوهم بأن كانت بمرأى منه في زمان يمكن فيه غسلها فمها بلعابها

                                                                                        وأما على قول محمد فيمكن كونه بمشاهدة شربها من ماء كثير أو مشاهدة قدومها عن غيبة يجوز معها ذلك فيعارض هذا التجويز تجويز أكلها نجسا قبيل شربها فيسقطه فتبقى الطهارة دون كراهة ; لأنها ما جاءت إلا من ذلك التجويز وقد سقط وعلى هذا لا ينبغي إطلاق كراهة أكل فضلها والصلاة إذا لحست عضوا قبل غسله كما أطلقه شمس الأئمة وغيره بل يقيد بثبوت ذلك التوهم ، فأما لو كان زائلا بما قلنا فلا وقد تسامح في غاية البيان حيث قال : ومن الواجب على العوام أن يغسلوا مواضع لحس الهرة إذا دخلت تحت لحافهم لكراهة ما أصابه فمها ، فإنا قدمنا أن الصحيح أنه تنزيهية وترك المكروه كراهة تنزيه مستحب لا واجب إلا أن يراد بالواجب الثابت ولا يخفى أن كراهة أكل فضلها تنزيها إنما هو في حق الغني ; لأنه يقدر على غيره أما في حق الفقير فلا يكره كما صرح به في السراج الوهاج ، وهو نظير ما قالوا إن السؤر المكروه إنما يكون عند وجود غيره أما عند عدم غيره فلا كراهة أصلا .

                                                                                        واعلم أن قولهم إن الأصل في سؤر الهرة أن يكون نجسا ، وإنما سقطت النجاسة بعلة الطواف يفيد أن سؤر الهرة الوحشية نجس ، وإن كان النص بخلافه لعدم العلة وهي الطواف ; لأن العلة إذا كانت ثابتة بالنص وعرف قطعا أن الحكم متعلق بها فالحكم يدور على وجودها لا غير كعدم حرمة التأفيف للوالدين إذا لم يعلم الولد معناه أو استعمله بجهة الإكرام ذكره في كشف الأسرار في بحث دلالة النص

                                                                                        وأما سؤر الدجاجة المخلاة ; فلأنها تخالط النجاسة فمنقارها لا يخلو عن قذر وكذا البقر الجلالة والإبل الجلالة إلا أن تكون محبوسة واختلفوا في تفسيرها فقيل هي التي تحبس في بيت ويغلق بابه وتعلف هناك لعدم النجاسة على منقارها لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الاعتبار ; لأنها لا تجد عذرات غيرها حتى تجول فيها ، وهي في عذرات نفسها لا تجول ، وإليه ذهب شيخ الإسلام في مبسوطه وحكي عن الإمام الحاكم عبد الرحمن أنه قال لم يرد بكونها محبوسة أن تكون محبوسة في بيتها ; لأنها ، وإن كانت محبوسة تجول في عذرات نفسها فلا يؤمن من أن يكون على منقارها قذر فيكره كما لو كانت مخلاة ، وإنما المراد أن تحبس في بيت لتسمن للأكل فيكون رأسها وعلفها وماؤها خارج البيت فلا يمكنها أن تجول في عذرات نفسها كذا في معراج الدراية واختار الثاني صاحب الهداية وغيره وفي فتح القدير والحق أنها لا تأكله بل تلاحظ الحب بينه فتلتقطه

                                                                                        وأما سؤر سباع الطير كالصقر والبازي فالقياس نجاسته لنجاسة لحمها لحرمة أكله كسباع البهائم ووجه الاستحسان أن حرمة لحمها ، وإن اقتضت النجاسة لكنها تشرب بمنقارها ، وهو عظم جاف طاهر لكنها تأكل الميتات والجيف غالبا فأشبه الدجاجة المخلاة فأورث الكراهة بخلاف سباع البهائم ، فإنها تشرب بلسانها وهو رطب بلعابها المتولد من لحمها ، وهو نجس فافترقا ; ولأن في سباع الطير ضرورة وبلوى ، فإنها تنقض من الهواء فتشرب ولا يمكن صون الأواني عنها خصوصا في البراري وعن أبي يوسف أن الكراهة لتوهم النجاسة في منقارها لا لوصول لعابها إلى الماء حتى لو كانت محبوسة يعلم لصاحبها أنه لا قذر في منقارها لا يكره التوضؤ بسؤرها واستحسن المشايخ المتأخرون هذه الرواية وأفتوا بها كذا في النهاية وفي التجنيس يجوز أن يفتى بها ، وأما سؤر سواكن البيوت كالحية والفأرة ; فلأن حرمة اللحم أوجبت النجاسة لكنها سقطت النجاسة بعلة الطواف وبقيت الكراهة والعلة المذكورة في .

                                                                                        [ ص: 140 ] الحديث في الهرة موجودة بعينها في سواكن البيوت وهي الطوف فيثبت ذلك الحكم المترتب عليها ، وهو سقوط النجاسة وتثبت الكراهة لتوهمها

                                                                                        [ ص: 138 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 138 ] ( قوله : ثم لا يخلو إما أن يلحق به في حق جميع الأحكام ) أي الثلاثة التي هي نجاسة السؤر وكراهته وحرمة اللحم ( قوله : أو في الأول مع الثاني ) معطوف على قوله في حق جميع الأحكام [ ص: 139 ] ( قوله : وعلى هذا لا ينبغي إطلاق كراهة أكل فضلها إلخ ) قال في النهر لو خرج الإطلاق على قول الطحاوي لكان أولى ، وعليه يحمل ما في غاية البيان وبه يستغني عما في البحر من حمله على التسامح أو تأويل الواجب الثابت ا هـ ونحوه في منح الغفار .




                                                                                        الخدمات العلمية