الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        وأشار المصنف إلى أن الكفالة بالنفقة قبل الفرض أو التراضي على معين لا تصح وبعد أحدهما تصح كما في الذخيرة ، ولو أن المرأة قالت للقاضي إن زوجي يريد أن يغيب وأرادت أن تأخذ منه كفيلا بالنفقة فإنه ليس لها ذلك ; لأن النفقة لم تجب ، وقال أبو يوسف أستحسن ذلك وآخذ منه كفيلا بالنفقة شهرا وعليه الفتوى ; لأن النفقة إن لم تجب للحال تجب بعده فتصير كأنه كفل بما ذاب لها على الزوج فيجبر استحسانا رفقا بالناس ، كذا في الواقعات زاد في الذخيرة أنه لا فرق في هذا الحكم بين أن تكون النفقة مفروضة أو لا وفي الذخيرة أيضا ، ولو اختلفا فيما مضى من المدة من وقت القضاء أو من وقت الصلح فالقول قول الزوج والبينة بينة المرأة ; لأنها تدعي زيادة دين والزوج ينكر فالقول قوله مع يمينه ، وإذا ادعى الزوج الإنفاق وأنكرت المرأة فالقول قولها مع اليمين كما في سائر الديون ا هـ .

                                                                                        وفي الظهيرية امرأة أقامت على رجل بينة بالنكاح فلا نفقة لها في مدة المسألة عن الشهود ، ولو أراد القاضي أن يفرض لها النفقة لما رأى من المصلحة ينبغي أن يقول لها إن كنت امرأته فقد فرضت ذلك عليه في كل شهر كذا ، وكذا ويشهد على ذلك فإذا مضى شهر ، وقد استدانت وعدلت البينة أخذته بنفقتها منذ فرض لها ا هـ .

                                                                                        وهو يدل على ما قلنا من أن الفرض من القاضي يصيرها دينا فلا تسقط بالمضي وإن فرض القاضي النفقة قضاء لا يقال إنه ليس بقضاء لعدم الدعوى ; لأنا نقول طلبها التقدير دعوى ومسألة الإبراء تدل على أن الفرض في الشهر الأول تنجز وفيما بعده مضاف فتنجز بدخول الشهر وهكذا فلا يصح الرجوع عنه لما في الخانية من الصلح ، ولو صالحت المرأة زوجها عن نفقة كل شهر على دراهم ، ثم قال الزوج لا أطيق ذلك فهو لازم لا يلتفت إليه إلا إذا تغير سعر الطعام ويعلم أن ما دون ذلك يكفيها ا هـ .

                                                                                        فإذا كان هذا في الصلح ففي فرض القاضي أولى ; لأن له ولاية عامة فإذا قرر القاضي لها نفقة كل يوم أو كل شهر أو كل سنة لزم التقرير ما دامت في عصمته حيث لم يوجد مسقط وكان بقدر حالهما وفي خزانة المفتين ، وإذا أراد القاضي أن يفرض النفقة يقول فرضت عليك نفقة امرأتك كذا وكذا في مدة كذا وكذا أو يقول قضيت عليك بالنفقة لمدة كذا يصح وتجب على الزوج حتى لا تسقط بمضي المدة ; لأن نفقة زمان مستقبل تصير واجبة بقضاء القاضي حتى لو أبرأت بعد الفرض صح ا هـ .

                                                                                        وهو دليل على ما قلنا من أن فرضها قضاء وأنه إذا فرضها ، ثم مضت مدة لم تسقط ، وقد نقل في فتح القدير أنه لا نفقة لها فيما إذا ادعى الزوج النكاح وهي تجحد أو عكسه واستشكله بأن فيه إضرارا بها وهو سهو ; لأنه إذا كان منكرا إنما نفوا النفقة في مدة المسألة عن الشهود لا مطلقا مع أن القاضي إذا فرض لها جاز ، وأما بعد قضاء القاضي بالنكاح بالبينة فلا شك في وجوبها ، وقد علم من عطف المصنف الرضا على القضاء أن فرض القاضي بطريق الجبر وقدمنا أنه إذا فرض عليه أكثر من حاله فإن له أن يمتنع عن الزيادة ، وكذا إذا اصطلحا على أزيد من نفقة المثل لما في الظهيرية ، وإذا صالح الرجل امرأته عن نفقة كل شهر على مائة درهم والزوج [ ص: 205 ] محتاج لا يلزمه إلا نفقة مثلها ، وإذا صالحها على دانق كل شهر جاز ولها أن تنقض إن لم يكفها ا هـ .

                                                                                        وفي الذخيرة ، وإذا صالحت المرأة زوجها من نفقتها على ثلاثة دراهم كل شهر فهو جائز وكان ذلك تقديرا لنفقتها والأصل أن الصلح بينهما متى حصل بشيء يجوز للقاضي أن يفرضه في نفقتها بحال فالصلح بينهما تقدير للنفقة ولا تعتبر معاوضة سواء كان هذا الصلح قبل فرض القاضي أو التراضي على شيء أو كان بعد أحدهما ، وإذا وقع الصلح على شيء لا يجوز للقاضي أن يفرضه على الزوج في نفقتها بحال كالثوب والعبد ينظر إن كان الصلح بينهما قبل قضاء القاضي لها بالنفقة وقبل تراضيهما على شيء لكل شهر يعتبر الصلح منهما تقديرا وبعد أحدهما يعتبر معاوضة ، وفائدة اعتبار التقدير أن تجوز الزيادة عليه والنقصان عنه وفائدة اعتبار المعاوضة أن لا تجوز الزيادة على ذلك ولا النقصان ، وإذا صالحها على دراهم كل شهر ، ثم قالت لا تكفيني زيدت ، ولو قال الرجل لا أطيقه فإنه لا يصدق في ذلك فإنه التزمه باختياره وذلك دليل على كونه قادرا على أداء ما التزم فيلزمه جميع ذلك إلا أن يتعرف القاضي على حاله بالسؤال من الناس فإذا أخبروه أنه لا يطيق ذلك نقص عنه وأوجب على قدر طاقته فإن لم يمض شيء من الشهر حتى صالحها من هذه الدراهم عن شيء إن كان شيئا يجوز للقاضي أن يفرضه كما إذا صالح عن الدراهم على ثلاث مخاتيم دقيق بعينه أو بغير عينه فهو تقدير للنفقة وإن كان ثوبا أو نحوه فهو معاوضة ولا يشبه هذا الديون كما إذا كان لرجل على آخر ثلاثة دراهم فصالحه من الدراهم على ثلاثة مخاتيم دقيق بغير عينه فإن الصلح لا يجوز ; لأن الصلح فيه معاوضة لوجوب الدين قبل الصلح فكان بيع دين بدين فلا يجوز إلا أن يدفع الدقيق في المجلس ، وأما هنا فقبل مضي الشهر فالنفقة لا تصير دينا فلم يكن معاوضة وإنما هو تقدير للنفقة حتى لو مضى الشهر وصارت الدراهم دينا ، ثم صالحها على دقيق بغير عينه لا يجوز أيضا لما قلنا ا هـ .

                                                                                        وقد علم منه أن رضاهما وصلحهما على شيء صالح للنفقة بعد فرض القاضي النفقة مبطل لتقدير القاضي حتى لا يلزمه إلا ما تراضيا عليه بعد فرض القاضي فيستفاد منه أنهما لو اتفقا على أن تأكل معه تموينا بعد فرض النفقة أو الاتفاق على قدر معين فإنه يبطل التقدير السابق لرضاها بذلك وهي كثيرة الوقوع في زماننا وفي الذخيرة أيضا ، ولو صالحها من نفقة سنة على ثوب جاز فإن استحق الثوب فإن وقع الصلح عليه بعد الفرض أو الرضا فإنها ترجع بما فرض لها أو تراضيا عليه ; لأن أخذها الثوب شراء ، وقد انفسخ بالاستحقاق فعاد دينها وإن كان قبل الفرض والتراضي رجعت بقيمة الثوب ، ولو صالحها على وصف وسط ولم يجعل له أجلا أو أجله فإن كان قبل الفرض أو التراضي جاز وإن كان بعد أحدهما لا يجوز وصلح المكاتبة على نفقتها جائز كالصلح عن مهرها ; لأنه حقها ، وكذلك العبد المحجور إذا صالح عن نفقة امرأته ، وقد تزوج بإذن المولى ، وكذا صلح المكاتب عن نفقة امرأته كل شهر جائز بالأولى ا هـ .

                                                                                        [ ص: 204 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 204 ] ( قوله : زاد في الذخيرة أنه لا فرق إلخ ) قال الرملي نقل في التتارخانية عن الذخيرة في النفقات بقوله وفي الذخيرة في كتاب الأقضية في رجل ضمن لامرأته النفقة والمهر فإن ضمان النفقة باطل إلا أن يسمي لكل شهر شيئا ومعناه أن الزوج مع المرأة يصطلحان على شيء مقدر لنفقة كل شهر ، ثم يضمنه رجل فحينئذ يجوز الضمان ، ولكن لا يلزمه الضمان أكثر من شهر ا هـ .

                                                                                        فجوازها مع عدم الفرض في مسألة مريد الغيبة استحسان تأمل وتقدم أنه لو كفل بالنفقة كل شهر عشرة دراهم لزمه شهر ، وعند أبي يوسف يقع على الأبد وعليه الفتوى وذكر في الخلاصة أن الأب لا يطالب بمهر زوجة ابنه ونفقتها إلا أن يضمن وأطلق فظاهره جواز الضمان مطلقا إلا أن يحمل على المقيد وحمله عليه متعين توفيقا بين كلامهم . ا هـ . أقول : قد يقال يشترط ذلك في مسألة مريد السفر أيضا ولا ينافي ذلك قول الذخيرة لا فرق بين أن تكون النفقة مفروضة أو لا إذ لا يلزم من عدم اشتراط فرضها من القاضي عدم اشتراط التراخي ، والاصطلاح على شيء معين بين الزوجين ففي اشتراط التراخي توفيق بين كلامهم أيضا فليتأمل




                                                                                        الخدمات العلمية